أصحاب السبت

 

الخطبة الأولى:

الحمدُ للهِ قَصَّ عَلينا ما فَيهِ عِبرةٌ لِأُولي الأَلبَابِ، نَشهدُ ألاَّ إلهَ إلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ بِلا ارْتِيَابٍ، وَنَشهَدُ أَنَّ نَبِيَّنا مُحمَّدًا عَبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، بَعَثَهُ ربه بأحسن الأَخلاقِ وأكمل الآدَابِ، اللَّهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَليهِ، وعلى آله والصحب إلى يَومِ المآبِ...

ثم أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ يا عباد الله حَقَّ التَّقوى، ولا تَغُرَّنَّكمُ الحَيَاةُ الدُّنْيا، ولا يغرنكم بالله الغَرُور..

أيها المؤمنون:

في التاريخ قَصص، وفي مجالس الناس تروى القَصص، وربنا يقول: (نحن نقص عليك أحسن القصص)  فَلِقصص القرآن رونقها وعظمتها وجمالها، ما كانت حديثاً يفترى، ولكنها تصديقٌ وذكرى لألي الألباب..

 

وهذه قصة ذكرها الله في كتابه أربع مرات فأشَارَ إليها في سُورَةِ البَقَرَةِ فقالَ: ( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ )

وَهَدَّدَ بِها في سُورَةِ النِّسَاءِ فَقَالَ: ( أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ).

وَفَصَّلَهَا كما سنذكر فِي سُورَةِ الأعرَافِ ..

 

تلكم هي قصة أصحاب السبت وهي باختصار أنَّ قومًا من بني إسرائيل كانوا يَسْكُنُونَ عَلى سَاحِلِ في مدينة أيله جنوب الأردن على ساحلِ بَحْرٍ مَليءٍ بالصَّيدِ، وَكَانَ عَمَلُهُمُ الذِي يَتَكَسَّبُونَ مِنْهُ هُوَ صَيدُ الأسماك، فَكَانُوا يَخْرُجُونَ لِلصَّيدِ كُلَّ يَومٍ إلاَّ يَومَ السَّبْتِ! لأنَّهُم قَدْ عَظَّمُوهُ وَجَعَلُوهُ خَيرَ أَيَّامِ الأُسْبُوعِ، وَشَرِيعَتُهُم تُحَرِّمُ عَلَيهمُ العَمَلَ فِيهِ! وَقَدْ التَزَمُوا بِهِ أَوَّلَ الأَمْرِ! يقول الله تعالى عنهم:

 ( واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ )

هَكَذَا ابتَلاهُمُ اللهُ تَعَالى: إذا كَانَ يَومُ رَاحَتِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ! تَأتِي الحِيتَانُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ! حَتَّى يَرَونَهَا طَافِيَةً عَلى المَاءِ قَرِيبَةً مِنْ السَّاحِلِ، وَلَكِنَّهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنْ الصيد! فَإِذَا انْقَضَى يَومُ السَّبْتِ اخْتَفَتِ تَمَامَاً إِلى السَّبْتِ الآخَرِ! وما كان هَذا الابْتِلاءُ إلا عقوبة من الله تعالى لإعراضهم وعصيانهم كما قال الله:

( كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ )

أَرَادَ اللهُ أنْ يَبْتَلِيَهُمُ، فَلَيسَ عَبَثًا مِنه جل شأنه، وَلَكِنَّهُمُ كَانُوا يَستَحِقُّونَ مِثْلَ هَذِهِ المُعَامَلَةِ! وهكذا هي المعاصي شؤمٌ على المجتمع وبلاء وضيق نسأل الله العافية والسلامة..

 

ظَلَّتِ القَرْيَةُ أَيَّامًا وَأَسَابِيعَ عَلى هَذَا الحَالِ، لا يَجِدُونَ صَيدْا، وَنُفُوسُهُم وَأَرْزَاقُهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ فِيها! حَتَّى وَسْوَسَ الشَّيطَانُ لبعضهم بِحِيلَةٍ مَاكِرَةٍ، فَكَانَوا يَأتون يَومَ الجُمُعَةِ فيَضَعُون شِبَاكَهُم وَأَحْبُلَهمُ على الساحل فَتَمْسِكُ الأَسْمَاكَ يَومَ السَّبْتِ! فَيَأتون يَومَ الأَحَدِ وَيَأْخُذُون حَصِيلَةَ السَّبْتِ! وَكَأَنَّهُم لَمْ يَعْمَلوا شَيئًا!

 

فتسامعَ المجتمعُ بتلك الحيلة وزُيِّن لهم سوء عملهم فعمل بها الأكثرون، وشيئًا فشيئًا حتى كَثُر صيدُهم واغتنى فقيرهم وباعَ فاسِقهم وجاهرَ بالمعصيةِ أراذُلهم..

حينها انقسمت القرية إلى فئات ثلاث، أما الفئة الأولى فهم العصاة المجاهرون، وفئة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والفئة الثالثة: هم قوم صالحون في أنفسهم لم يرضوا بصنيع العاصين لكنهم لم ينكروا فعلهم، بل ثبطوا عزم المؤمنين وقالوا ولبئس ما قالوا:

( لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ) لسان حالهم يقول: لا تتعبوا أنفسكم بإنكار المنكر فهؤلاء قوم سيعذبهم الله في الدنيا ومصيرهم العذاب الشديد يوم القيامة..

فأجابهم المصلحون:

 ( قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ )

فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب علينا إعذارًا إلى الله، ولعل هؤلاء العصاة ينتفعون بالموعظة فيتركون ما هم عليه فيسْلَم المجتمع من شؤمهم ومعاصيهم..

فلمَّا رأى المصلحون من قومهم العناد والاستكبار انتقلوا إلى مرحلة أخرى من مراحل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فعزموا على مقاطعتهم واعتزالهم، فقالوا لهم: "والله لا نساكنكم في قرية واحدة". فانحاز هؤلاء إلى ناحية من القرية، وانحاز الآخرون إلى الناحية الأخرى، وقسَموا القرية بجدار، وفتح كل منهم باباً من ناحيته..

وذات يومٍ خرج المصلحون على عادتهم، وإذا بباب المعتدين مغلقٌ، ولم يُفتح على خلاف العادة، وحين أبطأوا عليهم انطلقوا فتسوروا الحائط، فذهبوا ينظرون في دورهم، فوجدوها مغلقةً عليهم، قد دخلوها ليلًا فغلَّقوها على أنفسهم، فأصبحوا فيها قردة، وإن الرجلَ بعينه وإنه لقرد، والمرأةَ بعينها وإنها لقردة، والصبيَ بعينه وإنه لقرد... الأجساد أجساد قردة والعقول عقول البشر..

قال الله تعالى عنهم ( فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ، فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ)

يقول ابن كثير:

مكث هؤلاء الممسوخون ثلاثة أيام، ثم هلكوا بعدها، فلم يكن لهم عقب ولا نسل،

 وفي الحديث قال    ( إن الله لم يجعل لمسخٍ نسلًا ولا عقبًا

فجعل الله تعالى هذه الحادثة ( نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ  )

فجعل الله تعالى هذه القرية المعتدية نكالاً يعني عبرة لما جاورها من القرى، وعبرة لمن يأتي بعدها، حتى لا يُعمل بعملها فيستحق عقوبتها...

 

اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع سخطك

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ جَعَلَ كِتَابَهُ لِكُلِّ خَيرٍ هَادِيًا، وَعَمَّا سِواهُ كَافِياً، وصلى الله وسلم وبارك على من كان للحق داعياً...  ثم أما بعد:

عباد الله:

كم في هذه القصة من العبر والعظات، ولأجل هذا قصّها الله تعالى علينا في كتابه، ولعلك إن تدبرتها مرة بعد مرة يظهر لك أن التحايل على دين الله مِن صفات اليهود، وقد قال نبينا  عن أصحاب السبت

 ( لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم اللَّه بأدنى الحيل )

حين يحرِّم ربنا بابًا من العصيان فمن الخذلان أن نتحايل عليه بالحيل المحرمة، التي مؤداها الوقوع فيها،  فالمعصية والمنكر لا بدّ أن يكون في قرارة قلبك منكراً وإن زُيِّن ولُبِّس، فالربا معصية وإن سُمِّي بغير اسمه، والرشوة حرام وإن قيل أنها هدية، والخمرة حرام وإن قيل أنها مشروب روحي، والأغاني والاختلاط وتبرج المرأة ونحو ذلك من المعاصي التي لا يرضاها الله ورسوله، فضلاً عن أهم ما يجب أن يكون في سويداء قلوبنا من توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة وعدم صرف أي نوع من أنواع المحبة لغيره وأن يكون الله ورسوله أحب إلينا مما سواهما..

وأعظم ما قررته قصة أصحاب السبت يا كرام، أنَّ الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر هو سبيل النجاة من عقوبة الله تعالى، فكل مجتمع فيه نصيبه من المنكرات قلّت أو كثرت، فيه قوم يفسدون في الأرض ولا يصلحون، ويريدون من الناس أن يميلوا ميلاً عظيماً، حتى في عهد الأنبياء والمرسلين، وإنما تحفظ الديار بأولي بقية ينهون عن الفساد في الأرض...

وسنة المدافعة بين الخير والشر، والطاعة والمعصية باقية، وما دام في الناس من ينكر إذ يرى المنكر، ومن يلحقه الهمّ إذ يرى المعصية في الأرض، ومن يسلك الطرق المتاحة لتغيير المنكر، ففي الأمة خير كثير..

 

اللهم اهدنا واهد بنا ...

 

المرفقات

1767172095_أصحاب السبت.docx

المشاهدات 34 | التعليقات 0