أصحاب الأخدود

 

الخطبة الأولى:

الحمد لله جعل قوة هذه الأمة في إيمانها، وعزها في إسلامها، والتمكين لها في صدق عبادتها، أحمدُه سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، خاتم رسله وأنبيائه، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً.

أيها المسلمون: سنعيش في هذه الجمعة حدثاً حدث في تاريخ العالم أو قلْ بلاءً ثَبَتَ فيه المؤمنون الصادقون، حدث وقع على لحم ودم، وظلم وقهر، أعقبه صبرٌ ثم جنان وفوز، وهكذا الإيمان حين يخالط بشاشته القلوب، يهون عليه كل عسير، فتصبح الآلام آمالاً، ويصبح العذاب نعيماً.

قصة عظيمة حدثنا عنها الله بإلماح عجيب وبيان مهيب رهيب، وحدثنا عنها رسول الهدى    بسرد صحيح وتبيان مليح، قصة أصحاب الأخدود والتي كانت في نجران في زمن الفترة التي بين عيسى وبين محمد عليهما من الله الصلاة والسلام...

روى الإمام مسلم في صحيحه أن رسول الله    قال: (( كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فانظروا لي غلاماً فهماً فطناً لقناً فأعلمه علمي هذا، فإني أخاف أن أموت فينقطع منكم هذا العلم، ولا يكون فيكم من يعلمه , فبعث إليه غلاماً يعلمه، فكان في طريقه إذا سلك راهب فقعد إليه وسمع كلامه، فأعجبه فكان إذا أتى الساحر مرّ بالراهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه ضربة لأنه تأخر عليه، فشكى ذلك إلى الراهب فقال إذا خشيت الساحر، فقل حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك، فقل: حبسني الساحر،

فبينما الغلام على ذلك إذ مرّ بجماعة من الناس كثير قد حبستهم دابة عظيمة فظيعة فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجراً، فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس، فرماها فقتلها ومضى الناس، وقالوا: من قتلها؟ قالوا: الغلام ففزع الناس، وقالوا لقد علم هذا الغلام علماً لم يعلمه أحد, فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب أي بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى , وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدلّ عليّ, وكان الغلام يُبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سار الأدواء، فسمع جليسٌ للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة، فقال ما ههنا لك أجمعُ إن أنت شفيتني فقال: إني لا أشفِ أحداً إنما يشفي الله، فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك، فآمن بالله، فشفاه الله)).

نعم، أعطاه الشفائين شفاء القلوب وشفاء الأمراض، وصف له الدواء الإيماني ثم أعطاه الدواء الجسماني، وهذا ما ينبغي مع كلِّ طالب حاجة، أن تُعلّق القلوب بالله الأحد الصمد، و يعلموا أنما البشر سبب نفعهم وضرهم بيد الله تبارك وتعالى..

قال   : ((فآمن بالله (يعني جليس الملك) فشفاه الله فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك: من ردَّ عليك بصرك؟ قال: ربي، قال: ولك ربٌ غيري؟ قال: ربي وربك الله، فأخذه فلم يزل يعذّبه حتى دل على الغلام، فجيء بالغلام فقال له الملك: أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص، وتفعل وتفعل. فقال: إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب، فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه ثم جيء بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه)) ..

 يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك..

انظروا للبلاء أيها الأخوة، يوقف الرجل فيبدأ بالنشر من مفرق رأسه حتى يقع شقاه ما يرده ذلك عن دينه سبحان الله، أي إيمان بلغ بهؤلاء حتى صبروا هذا الصبر العظيم، فأين هؤلاء الذين يشق عليهم حتى المجيء للمسجد للصلاة مع الناس بضع دقائق، ويشق عليهم قيامهم لصلاة الفجر مع عباد الله في بيوت الله..

انظر يا أخي كيف كان يبتلى الناس وكيف أوذوا في جنب الله، وبعضنا يؤمر بأوامر سهلة ويسيرة على النفس، ومع ذلك تثقل عليه العبادة ويصعب عليك أداؤها، وهؤلاء يقتلون بل ينشرون بالمنشار حتى يموتوا وهو سهل عليهم لأنهم قالوا: ربنا الله.

ثم قال : ((ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته (أي أعلاه) فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه، فذهبوا به فصعدوا به الجبل، فقال: اللهم اكفينهم بما شئت، فرجف بهم الجبل، فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك)).

رجع إلى الملك يا عباد الله ليبين له أن الله تعالى ربَّه وربَّ الناس جميعاً رجع إليه لينير لقومه طريق الهدى، ويدلهم على ما فيه نجاتهم في الدنيا والأخرى..

((وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله، فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور أي (السفينة الصغيرة) فتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، فذهبوا به فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة فغرقوا، وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله، فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال وما هو، قال: تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهما من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل: باسم الله رب الغلام ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني)).

(يريد أن يضحي هذا الغلام الصغير بأعلى شيء يملكه يضحي بنفسه التي بين جنباته لكي يعبد الله وحده لا شريك له..

يجود بالنفس إن ظنَّ الجواد بها

والجود بالنفس أغلى غاية الجود

 هذه اهتمامات هذا الغلام الصغير، فلله درّ هذه القلوب حين خالطها الإيمان، ولله در هذه النفوس حين عانقها الإسلام...

 

اللهم ثبت حجتنا، واغفر زلتنا، وأجب دعوتنا، وتقبل توبتنا

برحمتك يا أرحم الراحمين

 

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده، نصر عبده، وأنجز وعده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده،...

 

ثم يكمل لنا الحبيب المصطفى    قصتهم فيقول: ((فجمع الناس أي الملك في صعيد واحد وصلبه على جذع ثم أخذ سهماً من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: باسم الله ربِّ الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه، فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات.

فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، فأُتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر، قد والله نزل بك حذرك، قد آمن الناس فأمر بالأخدود في أفواه السكك فَخُدَّت وأُضْرمت النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها))

مات الغلام وبموته أحيا الله قلوب قومه حتى يُسأل أحدهم من ربك فإن قال: الله، ألقوه في أخاديد قد أوقدت بها نار تلتهب ويأكل بعضها بعضاً وما يرتدّ عن دينه، فاقتحم الناس النار وتسابقوا إليها، وكأنهم يردون ماءاً عذباً أو يدعون إلى وليمة، لكنها والله الجنة التي يرحض في سبيلها كل غالي ويبذل لنيلها كل نفيس.

وفي آخر مشهد لهم يخبرنا   به فيقول: ((حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها، فتقاعست (أي توقفت) أن تقع فيها فقال لها الغلام يا أُمّه اصبري فإنك على الحق)) فألقت بنفسها وولدها

هكذا كان البلاء وهكذا صبر الأولياء وهكذا سجل هذا الغلام أعظم تضحية عرفها التاريخ، فقدم نفسه لإعلاء كلمة الله ولكي يعبد الله وحده لا شريك له.
)إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ,  إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير (
 
وصفه الله جل الله وتقدس بأنه فوز كبير مع أنهم قتلوا كلهم وعذبوا كلهم وحرقوا وأوذوا ومع ذلك فإن القوم قد فازوا فوزا كبيرا وهو الفوز الوحيد في كتاب الله كله الذي يصفه الله بأنه فوز كبير , مع أنهم لم ينتصروا كما انتصر موسى وما عذِّب الملك وقومه كما عذب الأقوام السابقون المكذبون لأن الانتصار الكبير هو انتصار الدين انتصار المبدأ الذي تركنا عليه محمد والثبات عليه...

هذا هو الفوز الحقيقي أن تثبت على دينك ولو كنت وحدك

هذا هو الانتصار الحق أن تحيا على دينك محافظا على هويتك معتزا بنبيك مقتفياً أثره تابعا لسنته، وإن متَّ متّ مسلما مؤمنا موحدا قد فزت بالجنة ونجوت من النار..

هذا هو الفوز الكبير العظيم إن حُدثتم عن الفوز يوما، هذا هو الانتصار لا انتصارات الدنيا الفانية التافهة الزائلة...

اللهم فأحينا على لا إله إلا الله وتوفنا عليها مسلمين مؤمنين ثابتين على ما تحب وأنت أرحم الراحمين.

المرفقات

1767171842_أصحاب الأخدود.docx

المشاهدات 28 | التعليقات 0