أشواق

شايع بن محمد الغبيشي
1444/11/13 - 2023/06/02 00:12AM

أشواق

إنِ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ:

((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا و أَنْنمْ مُسْلِمُونَ))

((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا))

((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)) أما بعد:

عباد الله :

ما سر انجذاب القلوب إلى بيت الله الحرام؟ لماذا كلما زاره العبد ازداد له شوقاً وبه تعلقاً وعليه إقبالاً؟ لقد صدق من وصفه بمغناطيس القلوب فما سر هذه الأشواق؟

تعالوا معنا نتعرف على إجابة هذا السؤال و نتعرف على بعض القصص و الأخبار عن شوق الصالحين و الأخيار لبيت الله الحرام يقول الله تعالى: { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ }البقرة125 و َمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ }

قال ابن القيم رحمه الله: ولو لم يكن له شرف إلا إضافته إياه إلى نفسه بقوله { وطهر بيتي } لكفى بهذه الإضافة فضلاً وشرفاً، وهذه الإضافة هي التي أقبلت بقلوب العالمين إليه، وسلبت نفوسهم حباً له وشوقاً إلى رؤيته، فهو المثابة للمحبين يثوبون إليه ولا يقضون منه وطرا أبدا، كلما ازدادوا له زيارة ازدادوا له حبا وإليه اشتياقا، فلا الوصال يشفيهم ولا البعاد يسليهم، كما قيل:

أطوف به والنفس بعد مشوقة    ...     إليه وهل بعد الطواف تداني

وألثم منه الركن أطلب برد ما     ...    بقلبي من شوق ومن هيمان

فو الله ما أزداد إلا صبابة        ...      ولا القلب إلا كثرة الخفقان

وهذا محب قاده الشوق والهوى     ...       بغير زمام قائد وعنان

أتاك على بعد المزار ولو ونت      ...      مطيته جاءت به القدمان ([1])

أذن إبراهيم في الناس بالحج فأجابوا، ودعاهم فلبوا ... جاءوا إليه رجالاً على أرجلهم، وركبانا على كل ضامر، جاءوا للحج من كل فج، الشوق يحدوهم، والرغبة تسوقهم .. فهل مرَّ بك ركب أشرف من ركب الطائفيين، وهل شممت عبيراً أزكى من غبار المحرمين، وهل هزَّك نغم أروع من تلبية الملبين ... لقد كان شوق السلف الصالح للبيت - مع بعد الشقة، وصعوبة الترحال، وقلة الظهر، وشدة الحال – شيئاً لا يوصف وما ذاك الشوق إلا لعظيم من يفدون إليه، يفدون إلى ربهم وإلى مشاعره، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الحجاج والعمار، وفد الله إن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم» رواه البزار وحسنه الألباني

يصف هذه الرحلة الإمام ابن القيم فيقول :

أما والذي حج المحبون بيته *** ولبُّوا له عند المهلَّ وأحرموا
وقد كشفوا تلك الرؤوس تواضعاً *** لِعِزَّةِ من تعنو الوجوه وتُسلمُ
يُهلُّون بالبيداء لبيك ربَّنا *** لك الملك والحمد الذي أنت تعلمُ
دعاهم فلبَّوه رضاً ومحبةً *** فلما دَعَوه كان أقرب منهم
ولما رأتْ أبصارُهم بيته الذي *** قلوبُ الورى شوقاً إليه تضرَّمُ
كأنهم لم يَنْصَبوا قطُّ قبله *** لأنّ شقاهم قد تَرَحَّلَ عنهمُ
وراحوا إلى التعريف يرجونَ رحمة *** ومغفرةً ممن يجودَ ويكرمُ
فلله ذاك الموقف الأعظم الذي *** كموقف يوم العرض بل ذاك أعظمُ
ويدنو به الجبار جلَّ جلاله *** يُباهي بهم أملاكه فهو أكرمُ
يقولُ عبادي قد أتوني محبةً *** وإني بهم برُّ أجود وأكرمُ
فأشهدُكم أني غفرتُ ذنوبهم *** وأعطيتهم ما أمَّلوه وأنعمُ
فبُشراكُم يا أهل ذا الموقف الذي *** به يغفرُ الله الذنوبَ ويرحمُ
فكم من عتيق فيه كُمَّل عتقُه *** وآخر يستسعى وربُّكَ أكرمُ


الخطبة الثانية:

الحمد لله عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ واشهد الا إله إلا الله وحده لا شريك له واشهد ان حمد عبده ورسوله أما بعد:
عباد الله، ما أعظم الشوق إلى بيت الله الحرام! إنه الشوق إلى أرض الرحمات، إنه الشوق إلى أرض العطايا والهبات، فحُق للنفوس أن تتوق، وحُق للأرواح أن تحلق أملاً وطمعاً في الوصال، هاك شوق السلف الصالح، فخذ من خبرهم ما يبعث فيك الرغبة، ويحرك في قلبك الشوق تعال معي نستعرض بعض حديث الأشواق:

ذكر بعض أهل السير أن شقيق البلخي أبصر في طريق الحج رجلاً يتكأ على إليته يمشي حيناً ويظعن حيناً، يرتاح حيناً و يمشي أخرى، كأنه من أصحاب القبور مما أصابه من وعثاء السفر و كآبة المنظر قال له شقيق يا هذا أين تريد قال أريد بيت الله العتيق قال من أين أتيت؟ قال من وراء النهر قال كم لك في الطريق؟ فذكر أعواماً تربوا على عشر سنين قال فنظرت إليه متعجباً قال يا هذا مما تتعجب؟ قال أتعجب من بعد سفرك وضعف مهجتك، قال أما بعد سفري فالشوق يقربه، وأما ضعف مهجتي فالله يحملها، يا شقيق أتعجب ممن يحمله اللطيف الخبير إذا شاء.

قدم ابن جريج وافدا على معن بن زائدة لدين لحقه فأقام عنده إلى عاشر ذي القعدة فمر بقوم تغني لهم جارية بشعر أمية بن ربيعة :

هيهات من أمةِ الوهاب منزلنا       إذا حللنا بسيف البحر من عدن

و احتل أهلك أجياداً فليس لنا        إلا التذكر أو حظ من الحزن

تالله قولي له في غير معتبة         ما ذا أردت بطول المكث في اليمن

إن كنت حاولت دنيا أو ظفرت بها    فما أصبت بترك الحج من ثمنِ

قال فبكى ابن جريج و انتحب و أصبح إلى معن و قال: إن أردت بي خيراً فردني إلى مكة و لست أريد منك شيئاً قال: فاستأجر له أدلاء وأعطاه خمسمائة دينار و دفع إليه ألفاً وخمسمائة فوافى الناس يوم عرفة .

3) خرجت أم أيمن بنت علي - امرأة أبي علي الروذباري - من مصر وقت خروج الحاج إلى الصحراء والجِمال تمر بها وهي تبكي وتقول: وا ضعفاه، وتنشد على إثر قولها :

فقلت : دعوني واتباعي ركابكم ***  أكن طوع أيديكم كما يفعل العبد
وما بال زعمي لا يهون عليهم *** وقد علموا أن ليس لي منهم بد

وتقول: هذه حسرة من انقطع عن البيت، فكيف تكون حسرة من انقطع عن رب البيت؟!
فلله ما أعظم خبر النفوس الراغبة، والقلوب الطاهرة، ولم لا يعظم الشوق فيها، وتعظم الرغبة عندها؟ : والأجر عظيم, والرب كريم .. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( مـا أهل مهل قط ولا كبر مكبر قط إلا بشر بالجنة) . وعنه صلى الله عليه وسلم:( من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ) .وعن ابن عمر رضي الله عنه

عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أما خروجك من بيتك تؤم البيت الحرام، فإن لك بكل وطأة تطؤها راحلتك، يكتب الله لك بها حسنة، ويمحو عنك بها سيئة. وأما وقوفك بعرفة، إن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا، فيباهي بهم الملائكة، فيقول: هؤلاء عبادي، جاءوني شعثا غبرا من كل فج عميق، يرجون رحمتي، ويخافون عذابي ولم يروني، فكيف لو رأوني؟ فلو كان عليك مثل رمل عالج- أي متراكم- أو مثل أيام الدنيا، أو مثل قطر السماء ذنوبا غسلها الله عنك. وأما رميك الجمار فإنه مدخور لك. وأما حلقك رأسك، فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة. فإذا طفت بالبيت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك " الطبراني وحسنه ا لألباني.

أسال الحي القيوم الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد أن يرزقنا الوفود إلى بيته الحرام و يجعلنا من المقبولين بمنه وكرمه .

 



([1]) ـ  بدائع الفوائد :( 2/281)

 

المرفقات

1685653922_أشواق ج.pdf

المشاهدات 1349 | التعليقات 0