أشدُّ حرًّا (١٤٤٥هـ)
تركي بن عبدالله الميمان
الخُطْبَةُ الأُوْلَى
إِنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ ونَتُوبُ إِلَيه، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُون، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُوْن! ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تَوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾.
عِبَادَ الله: مِنْ حِكْمَةِ اللهِ ﷻ؛ تَقَلُّبُ الفُصُولِ، مَا بَيْنَ بَرْدٍ وحَرٍّ،وَجَدْبٍ وَمَطَرٍ، وَطُوْلٍ وَقِصَرٍ! ﴿يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الأَبْصَارِ﴾.
وَهَا هُوَ الصَّيْفُ: قَدْ أَقْبَلَ بِحَرِّهِ وحَرُوْرِهِ؛ لِيُذَكِّرَنَا بَآيَةٍ مِنْآيَاتِ اللهِ السَّاطِعَةِ، وحِكَمِهِ البَاهِرَةِ!
وَفِي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيَةٌ
تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ!
وَفِي الصَّيْفِ مَصَالِحُ لِلْعِبَادِ؛ وَحِكْمَةٌ مِنْ رَبِّ العِبَادِ! يَقُوْلُ ابْنُالقَيِّم: (وَفِي الصَّيفِ: يَحْتَدُّ الهَوَاءُ ويَسْخُنُ؛ فَتَنْضُجُ الثِّمَارُ، وتَنْحَلُّ فَضَلَاتُ الأَبْدَانِ).
وَفِي الصَّيْفِ تَذْكِيْرٌ بِنِعْمَةِ اللهِ: مِنَ الظِّلَالِ الوَارِفَةِ، والثِّيَابِ الوَاقِيَة، والمُكَيِّفَاتِ البَارِدَةِ! قال تعالى: ﴿وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ﴾. قال ابْنُ كَثِير: (السَّرَابِيْلُ: هِيَ الثِّيَابُ مِنَ القُطْنِ وَالكَتَّانِ وَالصُّوفِ).
وَحَرَارَةُ الصَّيْفِ؛ بَلاءٌ ومَشَقَّةٌ، وَالبَلاءُ يُقَابَلُ بالصَّبْرِ والاِحْتِسَابِ، مَعَ دَفْعِهِ بِالأَسْبَابِ؛ وَجاءَ في الحديث: أنَّ النبيَّ ﷺ رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ، فَسَأَلَ عَنْهُ؛ فَقَالُوا: (نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلاَ يَقْعُدَ، وَلاَ يَسْتَظِلَّ، وَلاَ يَتَكَلَّمَ، وَيَصُومَ)، فقال ﷺ: (مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ،وَلْيَسْتَظِلَّ، وَلْيَقْعُدْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ).
وَحِيْنَ خَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ إلى غَزْوَةِ تَبُوْك، وَكَانَتْ في حَرٍّ شَدِيدٍ، وَسَفَرٍ بَعِيْدٍ؛ تَوَاصَى المُنَافِقُونَ بَيْنَهُم، ﴿وَقَالُواْ لاَ تَنْفِرُواْ فِي الحَرِّ﴾؛ فَجَاءَ الرَّدُّ المُزَلْزِلُ مِنَ اللهِ U: ﴿قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا﴾.
والمُؤمِنُونُ يَخرُجُونَ إلى المَسْجِدِ، والشَّمْسُ تَلْفَحُ وُجُوْهَهُم؛ لِأَنَّهُم﴿يَخَافُوْنَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيْهِ الأَبْصَارُ﴾، وَيَخَافُوْنَ أَنْ تَلْفَحَ وُجُوْهَهُمُ النَّارُ!
وَمِنْ حَسَنَاتِ الصَّيْفِ: صِيَامُ الهَوَاجِر! يَقُوْلُ أَبُوْ الدَّرْدَاءِ t: (صُوْمُوا يَوْمًا شَدِيدًا حَرُّهُ لِحَرِّ يَوْمِ النُّشُورِ، وَصَلُّوا رَكْعَتَيْنِ في ظُلْمَةِ اللَّيْلِ لِظُلْمَةِ القُبُوْرِ!).
وَبَكَى بَعْضُ السَّلَفِ حِيْنَ مَوْتَهِ؛ فَقِيلَ: (مَا يُبْكِيكَ؟) فقال: (مَا أَبْكِي جَزَعًا مِنَ المَوْتِ، وَلَا حِرْصًا عَلَى الدُّنْيَا، وَلَكِنْ أَبْكِي عَلَى ظَمَأِ الهَوَاجِرِ، وَقِيَامِ لَيَالِي الشِّتَاءِ!).
وَمِنْ حَسَنَاتِ الصَّيْفِ: سَقْيُ المَاءِ؛ سُئِلَ ﷺ: (أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟) فقال:(سَقْيُ المَاءِ). يقول بَعْضُ التابعين: (مَنْ كَثُرَتْذنُوبُه؛ فَعَلَيهِ بِسَقْيِ المَاءِ، فَإِذا غُفِرَتْ ذنُوبُ الَّذِي سَقَى كَلْبًا؛ فَمَا ظَنُّكُمْ بِمَنْ سَقَى مُؤْمِنًا مُوَحِّدًا!).
وَجَاءَ الصَّيْفُ؛ لِيُذَكِّرَنَا بِـ(حَرِّ جَهَنَّمَ!)؛ قال ﷺ: (اِشْتَكَتِ النَّارُإِلَى رَبِّهَا، فقالت: يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا؛ فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ:نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَهْوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ!).
وَالصَّدَقَةُ تَقِيْ صَاحِبَهَا مِنْ حَرِّ يَوْمِ القِيَامَةِ؛ فَـ(كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ؛ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ) ، وقال ﷺ: (مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَقِيَ وَجْهَهُ حَرَّ النَّارِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ؛ فَلْيَفْعَلْ).
وَعِنْدَمَا يَتَقَاطَرُ مِنْكَ العَرَقُ؛ بِسَبَبِ الشَّمْسِ، وَبَيْنَكَ وَبَيْنَهَا أَمَدًا بَعِيْدًا؛ فَتَذَكَّرْ أَنَّه (تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الخَلْقِ، حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ! فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ!). قال ابنُ عَبْدِ البَر: (مَنْ كَانَ فِي ظِلِّ اللهِ -يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ- نَجَا مَنْ هَوْلِ ذَلِكَ المَوْقِفِ!).
وَعِنْدَمَا تَغْتَسِلُ بِالمَاءِ؛ لِتَنْظِيْفِ جِسْمِكَ مِنْ أَثَرِ الحَرِّ؛ فَلَا تَنْسَ أَنْ تَغْتَسِلَ بِمَاءِ التَّوْبَةِ؛ لِتَنْظِيْفِ قَلْبِكَ مِنْ حَرَارَةِ الذُّنُوْبِ وَأَوْسَاخِهَا! فَاللهُ ﴿يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ﴾، وَمِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ ﷺ: (اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي بِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَالمَاءِ البَارِدِ).
أَقُوْلُ قَوْلِي هَذَا، وَاسْتَغْفِرُ اللهَ لِيْ وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوْهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم
الخُطْبَةُ الثانية
الحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، والشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيْقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا الله، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُه.
أَمَّا بَعْدُ: فَإِذَا كُنَّا نَهْرُبُ مِنْ حَرِّ الدُّنْيَا؛ فَهَلْ هَرَبْنَا مِنْ حَرِّالآخِرَةِ؟ فَهِيَ أَوْلَى بِالهُرُوْبِ!
تَفِرُّ مِنَ الهَجِيرِ وَتَتَّقِيهِ
فَهَلَّا مِنْ جَهَنَّمَ قَدْ فَرَرْتَا
وَلَسْتَ تُطِيقُ أَهْوَنَهَا عَذَابًا
وَلَوْ كُنْتَ الحَدِيْدَ بِهَا لَذُبْتَا!
وَحِيْنَمَا تَشْرَبُ الماءَ البَارِدَ؛ تَذَكَّرْ أُمْنِيَةَ أَهْلِ النَّارِ، وَتَوَسُّلَهُمْ لِأَهْلِالجَنَّةِ -حِينَ يقولون-: ﴿أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ المَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ﴾؛ فَيُجِيْبُهُمْ (أَهْلُ الجَنِّةِ) قَائِلِيْنَ: ﴿إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ﴾.
وَتَذَكَّرَوا بِهَذَا الحَرِّ؛ نَعِيْمَ أَهْلِ الجَنَّةِ! قال U: ﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا﴾. قال ابْنُ كَثِيْر: (أَيْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ حَرٌّ مُزْعِجٌ، وَلَا بَرْدٌ مُؤْلِمٌ، بَلْ هِيَ مِزَاجٌ وَاحِدٌ،دَائِمٌ سَرْمَدِيٌّ، لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا).
*******
* اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمُسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمُشْرِكِيْن.
* اللَّهُمَّ فَرِّجْ هَمَّ المَهْمُوْمِيْنَ، وَنَفِّسْ كَرْبَ المَكْرُوْبِين.
* اللَّهُمَّ آمِنَّا في أَوْطَانِنَا، وأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُوْرِنَا، وَوَفِّقْ (وَلِيَّ أَمْرِنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ) لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِمَا لِلْبِرِّ والتَّقْوَى.
* عِبَادَ الله: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.
* فَاذْكُرُوا اللهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوْهُ على نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ ﴿وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.
قناة الخُطَب الوَجِيْزَة
https://t.me/alkhutab
المرفقات
1719377878_أَشَدُّ حرًّا (نسخة للطباعة).pdf
1719377878_أَشَدُّ حرًّا.pdf
1719377878_أَشَدُّ حرًّا (نسخة مختصرة).pdf
1719377879_أَشَدُّ حرًّا.docx
1719377879_أَشَدُّ حرًّا (نسخة مختصرة).docx
1719377879_أَشَدُّ حرًّا (نسخة للطباعة).docx