( أَسِيرُ الأَحْزَانِ ) الجمعة الرابعة شهر ذي القعدة 1441/11/26هـ

يوسف العوض
1441/11/24 - 2020/07/15 21:58PM
الخطبة الأولى
أيُّها المُسلِمون : إنَّ مِن أَهَمِّ وَظَائِفِ الشَّيْطَان ، بَعْد إِغْواءِ الْبَشَرِيَّة ، إدخالَ الحُزْنِ إلَيْهِم لَيَزِيدَ فِي شقائِهم ويأسِهم قَالَ تَعَالَى : ( إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ) وَلَمَّا كَانَتْ الدُّنْيَا قَدْ بُنيت وجُبلت عَلَى الْبَلَاءِ وَالْفِتَن وَمَا تَسَبُّبُه مِنْ الْهُمُومِ وَالأحْزَانِ ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ سيعملُ جاهدًا لاستغلالِ هَذِهِ الظُّرُوفِ حَتَّى يَزِيدَ مِنْ تَعاسَةِ الْمُسْلِمِين ، وَلِمَنْعِ ذَلِكَ لَا بدَّ أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ الحُزنَ فِي الْقُرْآنِ لَمْ يأتِ إلَّا منهيًّا عَنْهُ أَوْ منفيًّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : ( ولا تَهِنُوا وَلَا تحزنوا ) وقَوْله تَعَالَى : ( ولا تَحْزَنْ عليهم ) ، بَل وَكَان مِن أَوْرَادِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاسْتِعَاذَةُ مِنْهُ بِقَوْلِهِ : ( اللهم إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ الْهَمِّ والحَزَن . . ). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، وسببُ هَذَا أَنَّ الحُزنَ يُضعفُ القلبَ بِشَكْلٍ مُبَاشِرٍ ويُنهكُه ممَّا سَيُؤَدِّي بِكُلّ تَأْكِيدٍ إلَى تَبَاطُؤِ حَرَكَةِ الْإِنْسَانِ الْإِيجَابِيَّةِ مَع مَصاعِبِ الْحَيَاةِ ومشاقِّها ، وَرُبَّمَا يُوقِفُهَا كُليةً .

 أيُّها المُسلِمون : إنَّ الحُزنَ المنبوذَ هُوَ ذَلِكَ الَّذِي يَجْعَلُ الْمُسْلِمَ يَعِيشُ فِي ضَنْك وَضِيق ، وَقَد يَقُودُهُ إلَى اليأسِ والقنوطِ مِن رَحِمَةِ اللَّهِ ، وَهَذَا حَالٌ أَقْرَبُ لِلْكُفْر مِنْه لِلْإِيمَان لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : ( وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ) ، 
ولذلك يَقُولُ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ رَحِمَهُ اللَّهُ : (مَنْزِلَة الْحُزْنِ ، لَيْسَتْ مِنْ الْمَنَازِلِ الْمَطْلُوبَةِ ، وَلَا الْمَأْمُورِ بنزولِها ، وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ لِلسَّالِك مِنْ نُزُولِهَا وَلَمْ يَأْتِ الحُزْنُ فِي الْقُرْآنِ إلَّا مَنْهِيًّا عَنْهُ ، أَو مَنْفِيًّا فَالْمَنْهِيّ عَنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا ) وَقَوْلُه : ( وَلَا تَحْزَن عَلَيْهِم )  فِي غَيْرِ مَوْضِعِ وَقَوْلُه : ( لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) ، وَالْمَنْفِيّ كَقَوْلِه : ( فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) ، وَسِرُّ ذَلِكَ أَنَّ الْحُزْنَ مُوَقِّفٌ غيرُ مُسَيِّرٍ [ أَي : يُوقَف الْإِنْسَانَ عَنْ العَمَلِ الصالح] ، وَلَا مَصْلَحَةَ فِيهِ لِلْقَلْب ، وَأَحَبُّ شَيْءٍ إلَى الشَّيْطَانِ أَنْ يُحْزِنَ الْعَبْدَ لِيَقْطَعَه عَنْ سِيرِهِ  ، وَيُوقِفَه عَن سُلُوكِه ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( إنَّمَا النَّجْوَى مِنْ الشَّيْطَانِ ليحزن الَّذِينَ آمَنُوا ) ، وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّلَاثَةَ أَنَّ يَتَنَاجَى اثْنَانِ مِنْهُمْ دُونَ الثَّالِثِ ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ ، فالحُزنُ لَيْسَ بِمَطْلُوبٍ ، وَلَا مَقْصُوداً ، وَلَا فِيهِ فَائِدَةٌ ، وَقَد اسْتَعَاذَ مِنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال : ( اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ ) فَهُو قَرِينُ الْهَمِّ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَكْرُوهَ الَّذِي يَرِدُ عَلَى الْقَلْبِ ، إنْ كَانَ لِمَا يُسْتَقْبَلُ أوْرَثَهُ الْهَمَّ ، وَإِنْ كَانَ لِمَا مَضَى أوْرَثَهُ الحُزْنُ ، وَكِلَاهُمَا مُضْعِفٌ لِلْقَلْبِ عَنْ السَّيْرِ ، مُفتِرٌ لِلْعَزْم ، وَلَكِن نُزُولُ مَنْزِلَتِه ضَرُورِيٌّ بِحَسَبِ الْوَاقِعِ ، وَلِهَذَا يَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ إذَا دَخَلُوهَا : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الحَزَنَ )  فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَان يُصِيبُهُم فِي الدُّنْيَا الْحُزْنُ كَمَا يُصِيبُهُم سَائِرُ الْمَصَائِب الَّتِي تَجْرِي عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِم ) .
أيُّها المُسلِمون : تأَمَلوا كَيفَ كَانَ نَبِيُّ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَصِفُه أَصْحَابُهُ بِأَنَّهُ كَثِيرُ التَّبَسُّم حَتَّى قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : (  مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَكْثَرَ تَبَسُّمًا مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَن جَرِير بْن عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : ( مَا حَجَبَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ أَسْلَمْتُ ، وَلَا رَآنِي إِلَّا ضَحِكَ ) ، وَكَذَلِك حِين تَستجمعُ الْأَحَادِيثَ النَّبَوِيَّةَ الَّتِي وَرَدَتْ فِي مَوَاقِفَ ضَحِكَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَجِدُهَا تَتَجَاوَزُ الْعَشَرَات ، وَفِي ذَلِكَ رَسَائِلُ وَاضِحَةٌ تُعَبِّرُ عَنْ حَقِيقَةِ دِيْنِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُي سَّعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .

أيُّها المُسلِمون : وَحَتَّى نُذْهَبَ عَنَّا الحُزنَ إذَا اعتَرانا ، عَلَيْنَا بِالْأَدْعِيَةِ وَالْأَذْكَارِ الْمَخْصُوصَةِ ، وَلَا نَسْتسلِمْ  لِلشَّيْطَان ونُسَارعْ باستذكارِ الْأَمْثِلَةِ الحياتيةِ لِمَن هُم أَدْنَى مِنَّا ، وَنَستشعِر نِعَمَ اللَّهِ الَّتِي لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى وَنُخالط المتفائلين ، ونَبتَعد عَنْ المتشائمين ، وَنَثقْ أنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَكْتُبُ لِعِبَادِهِ إلَّا الْخَيْرَ ، مَهْمَا رَأَيْنَاه مُزْعِجًا أَو مُؤْلِمًا ، فَفِيه الْخَيْرُ  كُلُّه ، نسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَصْرِفَ عَنَّا الْحُزْنَ وَالْهَمِّ وَالْغَمَّ .
الخطبة الثانية
أيُّها المُسلِمون : مِنَ الأدعيةِ النَّافعةِ والمجرَّبةِ المُذهبةِ للحُزنِ والهمِّ ما قَالَه رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( مَا أَصَابَ أَحَداً قَطُّ هَمٌّ وَلاَ حَزَنٌ فَقَالَ : اللَّهُمَّ انِّى عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ ، نَاصِيَتِى بِيَدِكَ ، مَاضٍ فيّ حُكْمُكَ ، عَدْلٌ فيّ قَضَاؤُكَ ، أَسْأَلُكُ بِكُلِّ اسْم هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ ، أَن تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي ، وَنُورَ صَدْرِي ، وَجَلاَءَ حُزْنِي ، وَذَهَابَ هَمِّي ، الاَّ أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجاً ) قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ . . ألا نَتَعَلَّم ُهَذِهِ الْكَلِمَاتِ ؟ . قَال : (بَلَى يَنْبَغِى لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أَن يَتَعَلَّمَهُنَّ ) أخرجه الإمام أحمد و صححه الألباني . .

وتأمَلوا في هذه القصةِ النبويةِ والتي كان النَبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعالجُ بها المَحزونِين والمهومين فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ذَاتَ يَوْمٍ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ : أَبُو أُمَامَةَ ، فَقَال : يَا أبَا أمَامَةَ مَا لِي أراكَ جَالسًا فِي المَسْجِدِ فِي غَيرِ وقتِ الصَّلَاة؟ فَقَال : همومٌ لَزِمَتْنِي وَدُيُونٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ . فَقَال ﷺ : أَفَلَا أعلّمُك كلامًا إذَا أنتَ قلتَه أذهبَ اللهُ عزّ وجلّ همّك ، وَقَضَى عنكَ دَينَك ؟ قَال : قُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَال ﷺ : (قُلْ إذَا أصبَحتَ وإذَا أمسَيتَ : اللّهُمّ إنِّي أعوذُ بكَ مِن الهَمّ والحَزَنِ وأعوذُ بكَ مِنْ الْعَجْزِ والكسلِ وأعوذُ بكَ مِن الجُبن والبُخل ، وأعوذُ بكَ مِن غَلَبَةِ الدَّيْنِ وقَهْرِ الرِّجَال ) قَالَ أَبُو أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ففعلتُ ذَلِك فَأَذْهَبَ اللَّهُ عزّ وجلّ همّي وَقَضَى عَنِّي دَيْني ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد والبيهقي ، وَمِنْ فَوَائِدِ هَذَا الدُّعَاءِ كَمَا قَالَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ مَنْ دَاوَمَ عَلَيْهِ يَقْوَى قَلْبُه أَي يَكْسِبُ جُرأةً ويُقضى عَنْهُ دَيْنُهُ وَيَذْهَبُ همُّه وَحُزْنُه.

المشاهدات 746 | التعليقات 0