أسرار الصيام-2-9-1436هـ-محمد راتب النابلسي-موسوعة النابلسي-بتصرف

محمد بن سامر
1436/09/02 - 2015/06/19 00:58AM
[align=justify][align=justify] إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله-صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا-أما بعد:
فقدْ جاءَ شهرُ الصيامِ، وكلٌ منا متلهفٌ إلى قدومِه، والحمدُ للهِ الذي بلَّغَنا وإياكم إياه، ولكنْ لا ينبغي للمؤمنِ أنْ يكونَ كالناقةِ التي عُقلتْ لا تدري لم عُقلتْ، ولا تدري لم أُطلقتْ، لا يدري لمَ صامَ ولا يدري لمَ أفطر؟!
إنَّ العباداتِ ومنها الصيامُ لها غاياتٌ كبرى وحكمٌ عظمى، فإنْ لمْ نبلغْها فلا أقلَ منْ أنْ نعرفَها، حتى نسيرَ نحوَها في طريقِها.
فاللهُ-تعالى-غنيٌ عن تجويعِنا وتعذيبِنا، غنيٌ عن عبادةِ تبدأُ بتركِ الطعامِ وتنتهي بتناولِه.
إنَّ تركَ الطعامِ والشرابِ ليس بشيءٍ إذا ما قِيسَ بما يتبعُه منْ منهياتٍ.
فلماذا فرضَ اللهُ علينا الصيامَ وعلى الذين مِنْ قبلِنا كما جاءَ في القرآنِ الكريمِ؟
قالوا: مِنْ أجلِ أنْ نُحسَ بجوعِ الفقيرِ، وقالوا: مِنْ أجلِ صحتِنا، وقالوا: مِنْ أجلِ اقتصادِنا، وقالوا: مِنْ أجلِ عبوديتِنا للهِ-عز وجل-.
كلُ هذا صحيحٌ، ولكنَّ الأصحَّ أنْ نرجعَ إلى كتابِ اللهِ فننظرَ في حكمةِ الصيامِ وغايتِه كما جاءتْ فيه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.
إذًا مِنْ أجلِ التقوى، لقد وردتْ آياتُ التقوى في القرآنِ الكريمِ أكثرَ من مئتينِ وخمسينَ مرةً، فلمَ كلُ هذا التركيزِ عليها؟
التقوى لغةً من (وقى)، والوقايةُ لا تكونُ إلا مِنَ الخطرِ، والحياةُ محفوفةٌ بالمخاطرِ, فهي خَضِرةٌ نَضِرَةٌ، سُمُها في دسمِها، فيها منزلقاتٌ ومتاهاتٌ، كثيرٌ مِنْ نسائِها حبائلٌ الشيطانُ، ومالُها يُغري ويُشقي، والأهلُ والولدُ ركونٌ واستغناءٌُ، وشهواتُها مستعرةٌ في أبهى حللِها، وفتنُها يقظةٌ في أجملِ أثوابِها، وزخارفُها وزينتُها في أوجِ إتقانِها.
فكيف يتقي الإنسانُ الانجذابَ إلى هذه المغرياتِ؟ وكيف ينجو مِنْ خطرِ الانغماسِ في تلك الشهواتِ؟ وكيف يَتَرَفَّعُ عَنِ المُزاحمةِ في جمعِ الثرواتِ؟ وكيف يَصْمُدُ أمامَ إغراءِ النساءِ الفاسقاتِ؟ وكيف كسبُه أحرامٌ هو أم حلالٌ؟ وكيف إنفاقُه أفي طاعةِ اللهِ أم في معصيتِه؟
قدْ يقولُ أحدُكم: لنْ ننجوَ منها إذًا إلا أنْ نأويَ إلى صومعةٍ في جبلٍ شاهقٍ، فنتقيَ بها هذه المغرياتِ والفتنِ.
ويقالُ له: إنَّ الإسلامَ دينٌ متوازنٌ، لا يُقِرُّ الانزواءَ عنِ الناسِ، ولا التقوقعَ على الذاتِ، ولا الهروبَ في الملماتِ، ولا يُقِرُّ المواقفَ السلبيةَ, ولا التواكلَ البغيضَ، ولا العجزَ والكسلَ.
هذه المغرياتُ والفتنُ لا تُتقى بالهروبِ منها، ولا بالقفزِ عليها!
هذه المغرياتُ والفتنُ لا تُتقى إلا بمواجهتِها بنورٍ ساطعٍ كاشفٍ، يُظهرُ حقيقتَها ونتائجَها، يُظهرُ حقيقةَ هذه المغرياتِ، ونتائجَ الانغماسِ في الشهواتِ، ونهايةَ جمعِ المالِ والثرواتِ، وكيف تكونُ حياةُ من أغواهُ الشيطانُ بحبائلِه، وكيف يكونُ الكسبُ الحلالُ والإنفاقُ الصحيحِ.
هذا النورُ ليس كأنوارِ الدنيا، يكشفُ لك ظواهرَ الأشياءِ وصورَها، ولكنه نورٌ ربانيٌ يَنْفُذُ إلى بواطنِها فيكشفُ لك حقيقتَها ونتائجَها ومؤداها، وخيرَها مِنْ شرِّها، وحقَها مِنْ باطلِها، وصحيحَها من زائفِها.
فلو وضعتَ يدَك وأنتَ مغمضُ العينينِ على شيءٍ ناعمِ الملمسِ لينٍ إنسيابيٍ، ثم فتحتَ عينيْك، فإذا هو حيةٌ رقطاءُ في نابِها السمُ الناقعُ، عندها تنتفض مذعورًا منها، لقد ركنتَ إلى ملمسِها الناعمِ اللينِ حينما جهلتَها، وابتعدتَ عنها حينما رأيتَ سمَها، وكذلك الدنيا تَغُرُّ وتَضُرُّ.
فهناك البصرُ والبصيرةُ، فبأنوار الدنياِ تُبْصِرُ فترى ظواهرَ الأشياءِ، وبنورِ اللهِ تتفتحُ بصيرتُك فترى حقائقَها ونتائجَها، فتُقبلُ على الخيرِ, وتتقي الوقوعَ في الشرِّ، وهذه هي حقيقةُ التقوى التي شُرِعُ الصيامُ مِنْ أجلِها: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾،﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى*قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا*قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾، أي كذلك كنت أعمى في الدنيا، قالَ الغزاليُّ-رحمه الله-: "التقوى نورٌ يقذفُه اللهُ في القلبِ".
أما الشافعيُ فقدْ شكا إلى شيخِه وكيعٍ سوءَ حفظِه-رحمهما الله-فقال:
[/align]
[align=justify]
شكوتُ إلى وكيعٍ سوءَ حفظي*فأرشدني إلى تركِ المعاصي

وأنبأني بأنَّ العلمَ نورٌ*ونورُ اللهِ لا يُهدى لعاصي
ففي التقوى-يا أحبابي-نجاةٌ مِنْ كُلِّ سوءٍ، وراحةٌ مِنْ كُلِّ مجاهدةٍ، فالتقيُ لا يَتَجَشَّمُ مشقةً ولا عناءً في اجتنابِ المعاصي، لأنه يرى حقيقتَها ومؤداها، كما أنَّ مَنْ رأى الأفعى لا يحتاجُ إلى جهدِ في إقناعِ نفسِه ليبتعدَ عنها.
إنَّ العقبةَ الكبرى هي هذه الرؤيةُ، فإنْ صَحَّتْ عرفَ العبدُ الخيرَ مِنَ الشرِ، والحقَّ مِنَ الباطلِ، والنافعَ مِنَ الضارِ، ولسنا بحاجةٍ بعدَها إلى أنْ نَحْمِلَه على اتباعِ الحقِ والخيرِ؛ لأنَّ الإنسانَ بفطرتِه السليمةِ وحبه لذاتِه يرجو لنفسِه كُلَّ خيرٍ، ويكرَه لها كُلَّ سوءٍ، لذلك كانَ نبيُنا الكريمُ-صلى اللهُ عليه وآله وسلمَّ-يدعو فيقول: "اللهم أرنا الحقَ حقًا وارزقْنا اتباعَه، وأرنا الباطلَ باطلا وارزقْنا اجتنابَه"، "اللهم ربَ جبريلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ، فاطرَ السماواتِ والأرضِ، عالمَ الغيبِ والشهادةِ، أنتَ تحكمُ بين عبادكِ فيما كانوا فيه يختلفونَ، اهدني لما اخْتُلِفَ فيه من الحقِّ بإذنِك، إنك تهدي من تشاءُ إلى صراطٍ مستقيمٍ"، "اللهم إني أعوذُ بك أنْ أَضِلَّ أو أُضَلَّ، أو أَزِلَّ أو أُزَلَّ، أو أَظْلِمَ أو أُظْلَمَِ، أو أَجْهَلَ أو يُجْهَلَ عليَّ".
الخطبة الثانية
فالآن تعال معي إلى القرآن الكريم لنرى ما يؤيدُ تلك الحقائقَ من آياتِه البيناتِ.
قال-تعالى-:﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾،﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾،﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ﴾،﴿ومَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾،﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾،﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾،﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.
فالصيامُ-في ضوءِ القرآنِ الكريمِ-فرصةٌ سنويةٌ؛ لإخراجِ الإنسانِ من الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ، مِنْ ظلماتِ المعاصي إلى نورِ الطاعاتِ، من ظلماتِ الشهواتِ إلى نورِ القرباتِ، مِنَ السيرِ المضني المتعبِ وراءَ المالِ والثرواتِ إلى نعيمِ التقلبِ في رحمةِ ربِّ الأرضِ والسماواتِ، مِنَ الأثرةِ-وهي تقديمُ نفسِك على أخيك المسلمِ-إلى الإيثارِ-وهو تقديمُ أخيك المسلمِ على نفسكِ، مِنَ المصالحِ إلى الأخلاقِ، مِنَ الشهوةِ إلى العقلِ، من دَنسِ المادةِ إلى طُهرِ الروحِ، مِنْ شقاءِ الحياةِ إلى نعيمِها.
والصيامُ فرصةٌ سنويةٌ لإخراجِ المؤمنِ مِنْ مرتبةِ العابدينَ الطائعين إلى مرتبةِ العلماءِ المستنيرينِ، وشَتَّانَ بينَ المرتبتينِ.
أيها الإخوة: إنكم لنْ تبلغوا درجةَ التقوى والاستنارةَ بنورِ اللهِ إلا إذا اتصلتمْ به، واستعذتمْ به، واعتصمتمْ بحبلِه، ولنْ يكونَ ذلك إلا بالاستقامةِ على أمرِه والعملِ الصالحِ مِنْ أجلِه, ورمضانُ فرصةٌ ذهبيةٌ لهذه الصلةِ، فعنْ أبي هريرةُ-رضي اللهُ عنهُ-قال-عليه وآلهِ الصلاةُ والسلامُ-: "مَنْ لمْ يَدَعْ قولَ الزورِ والعملَ به والبغيَ، فليسَ للهِ حاجةٌ في أنْ يَدَعْ طعامَه وشرابَه".
فمِنْ أجلِ أنْ يكونَ صومُكم طريقًا إلى التقوى، يجب أن يكون صحيحاً و لا يصح بترك الطعام والشراب فحسبْ, لأنَّ تركَ الطعامِ والشرابِ فقط ليس بشيءٍ، قال الرسولُ-صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه وعلى آلهِ: "رُبَّ صائمٍ ليس له مِنْ صيامِه إلا الجوعُ، ورُبَّ قائمٍ ليس له من قيامِه إلا السهرُ".
فيا إخواني لا تجعلوا صيامَكم جوعًا وعطشًا، ولا تجعلوا قيامَكم تعبًا وسهرًا، لا تجعلوا صيامَكم عادةً من عوائدِكم تُؤدونَها كلَّ عامٍ وأنتمْ ساهونَ لاهونَ، لا تجعلوا صيامَكم بعيدًا عن أقوالِكم وأفعالِكم، لا تجعلوا صيامَكم حسرةً في قلوبِكم يوم جمعِكم.
لِتَصَمْ بطونُكم عن الطعامِ والشرابِ، وتَصُمْ جوارحُكم عن المعاصي والشبهاتِ.
صونوا أعينَكم عن النظرِ إلى المحرماتِ وتتبعِ العوراتِ، وصونوا ألسنتَكم عن لغوِ الحديثِ, وعن الغيبةِ والنميمةِ والبهتانِ، وصونوا آذانَكم عن الاستماعِ إلى الملهياتِ، وصونوا أيديَكم عن البطشِ والأذى، وصونوا أرجلَكم عن السيرِ على خطواتِ الشيطانِ، وصونوا قلوبَكم عن كلِّ خاطرٍ تستحونَ من الجهرِ به.
إذا صُمْتُمْ هكذا كانت العباداتُ مائدةً ربانيةً إليها تجلسونَ، ومن شهدِها وثمارِها تأكلونَ، عن أبي هريرةَ-رضي الله عنه-قالَ: قال عليه وآلهِ الصلاةُ والسلامُ: "إِني أبيتُ يُطعمني ربي ويَسقيني".
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.
[/align][/align]
المرفقات

أسرار الصيام-2-9-1436هـ-محمد راتب النابلسي-موسوعة النابلسي-بتصرف.docx

أسرار الصيام-2-9-1436هـ-محمد راتب النابلسي-موسوعة النابلسي-بتصرف.docx

أسرار الصيام-2-9-1436هـ-محمد راتب النابلسي-موسوعة النابلسي-بتصرف.doc

أسرار الصيام-2-9-1436هـ-محمد راتب النابلسي-موسوعة النابلسي-بتصرف.doc

المشاهدات 3804 | التعليقات 0