أسرار الحج ومعانيه العظام
إبراهيم بن صالح العجلان
1434/12/05 - 2013/10/10 23:14PM
معاشر المسلمين:
حدثوني عن قوة بشرية تقدر أن تحرك ملايين البشر ، اختلفت أجناسهم، وتعددت لغاتهم، وتفاوتت حاجاتهم، إلى بقعة صغيرة.
يأتون إلى هذه البقعة في أيام معدودات لا لحاجة يتعيشون بها،ولا لنوال يتبلغون به
يأتون بقلوب قد قطعها الشوق، وألهبها الحنين، قد فارقوا الأهل والأولاد والمال والأعمال، يتلذذون بهذا الاغتراب، أعظم من تلذذ العطشى ببارد الشراب.
حتى لكأن أيامهم تلك هي أغلى أيام الأعمار.
إنها والله عظمة من عظمات ديننا الإسلامي، لا تستطيعه قوة أرضية ولا جهد بشري ، مهما بلغت من التقدم والمتابعة والدقة.
عظمة تبرز متانة هذا الدين وبقاءه ولو كره الكافرون.
عظمة من قال لخليله عليك البلاغ ، وعلينا الجواب.
وَأَذّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ
فالحجُّ آية من الله باهرة ، ووعد منه صادق أنَّ مَا جاءَ به محمَّد هو الدِّين الحقّ.
يا أهل الإيمان،
شعيرة الحج مزبورة بمعانٍ إيمانية ، وأسرارٍ باهرة في بناءِ النفوس، وإصلاحِ الذات ، وتقويةِ الإيمان، فحري بنا أن نمرَّ على قليل من كثير من معاني الحج وأسراره.
· أول محطةٍ من معاني الحج تستوقفنا ، وهي أعظمها وأجلها ( الإقبال على الله تعالى).
فكم في هذه الدنيا من صوارف ومشغلات، تصرف أو تبطِّئُ العبدَ عن اقباله على الله ، فتأتي رحلة الحج، رحلة الإقبال على الله تعالى، إنه ليس إقبال أجساد ، بل إقبالُ أرواحٍ وتعلُّقُها بربٍ كريم جواد رحيم.
ترى حال الحاج كلِّه مع الله عز وجل ، فهو دائم التنقل من طاعات إلى أخرى ، لا يخرج من عبادة إلا ويستجيب لأخرى.
أما اللسان فلا يفتر عن الذكر والتلبية والتكبير.
وأما الجوارح فتستجيب للمناسك في أعلى درجات الامتثال.
وأما الجنان فهو دائم التعلق والرجاء في كلِ منزلٍ ينزله الحاج.
إنها حال من العبودية يحبها الله ويجزي أهلها الجزاء الأوفى ، ( ومن حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ).
ولذا ترى كلَّ حاج بعد هذه الرحلة الإيمانية يعود بنفس غير النفس التي ذهب بها، فقد أخذ من دروس الإقبال على الله ما جعله يتغير إلى حال تسر المؤمنين.
· ومن أهم دلالات الحج ورسائله ، رسالة التوحيد لله رب العالمين .
توحيد من بُني البيتُ العتيق من أجلِه ، وجُعل قصدُ الناس إليه من أرجاءِ المعمورة للتأكيد عليه وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرٰهِيمَ مَكَانَ ٱلْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئًا وَطَهّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَٱلْقَائِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ.
إنه التوحيد الذي لأجله بعثت الرسل ، وأنزلت الكتب ، لا درب لرضا الرحمن ودخول الجنان إلا من جهته (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ)
فأعلى ما تقرب العبد لربه وتحنث هو بتوحيده له سبحانه، فهو الأمن والأمان، وهو النجاة وهو الفلاح.
إنه إفراد الله بكل عبادة قولية أو فعلية أو من أعمال القلوب.
إنه التخلص من أدران الشرك بالله في ألوهيته أو وربوبيته ، أو الإلحاد في أسمائه وصفاته.
إنّه توحيدٌ يعلِّق الرجاء بالله والخوف منه والاستعانةَ والاستغاثة به،والتوكل عليه، وأن لا يُحكم في الأرض إلا بما شرع الله سبحانه.
وفي الحج تحقيق لهذا التوحيد المنشود ، يقول الباري سبحانه في سورة الحج :
فاجْتَنِبُواْ ٱلرّجْسَ مِنَ ٱلأوْثَـٰنِ وَٱجْتَنِبُواْ قَوْلَ ٱلزُّورِ حُنَفَاء للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَاء فَتَخْطَفُهُ ٱلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ ٱلرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ
وتأمل في مناسك الحج تجد أن شعيرة الحج قائمةٌ في أساسها على تجريد التوحيد لله وحده لا شريك له؛ فشُرع للحاج أن يستهل حجه بالتلبية: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك .
ومن أجل تحقيق التوحيد شُرع للحاج أن يقرأ في ركعتي الطواف بعد الفاتحة بسورتي الإخلاص والكافرون .
ومن أجل تحقيق التوحيد شرع التهليل للحاج عند صعود الصفا والمروة، فيقول: "لا إله إلا الله، والله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده".
ومن أجل تحقيق التوحيد أيضًا كان خير الدعاء يوم عرفة أن يقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير.
ومن أجل التوحيد شرع للحاج على إفراد الله سبحانه بالدعاء في مواطن كثيرة عند الطواف والسعي ، وفي أثناء الوقوف بعرفة ، وعند المشعر الحرام وفي مزدلفة ، وبعد الفراغ من رمي الجمرة الصغرى والوسطى في أيام التشريق.
شرع الدعاء في هذه المواقف الستة لتعليق القلوب بالله وإفراده بالدعاء، والالتجاء والافتقار إليه وحده ، والاستغناء عمن سواه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فالمقصود من الحج: عبادة الله وحده في البقاع التي أمر بعبادته فيها؛ ولهذا كان الحج شعار الحنيفية، حتى قال طائفة من السلف: (حنفاء لله) أي: حجاجا. أ هـ
إخوة الإيمان :
ومن دلالات الحج ومعانيه : التربية على التسليم والانقياد لشرع الله تعالى،
يتنقّلَ الحجاج بين المشاعر ، والطواف ، والرمي والنحر استجابة لأمر الله ، لا يعارضون هذه الأوامر بمعقولات نظرية ، ولا فلسفات عقلية ، ولسان حالهم :
( سمعنا وأطعنا ) { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ }.
بل ترى الحاج في مناسك حجه يَتَحَرَّى وَيَسْأَلُ عن دقائق الأمور التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم ، فيَتَتَبَّعُها وَلا يَحِيدُ عنها ؛ كل ذلك حَتَّى يَكُونَ حَجُّهُ كُلُّهُ وفْقَ الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ الْكَرِيمِ، فما أجمل هذا الامتثال الذي يتلقاه المسلم من مدرسة الحج.
وتعظيم شعائر الله تعالى يكون بإجلالها ومحبتها ، وإتقان العبودية فيها.
وفي الحديث قال : ((لا تزال هذه الأمة بخير ما عظّموا هذه الحرمة ـ يعني: الكعبة ـ حق تعظيمها، فإذا ضيّعوا ذلك هلكوا)) أخرجه ابن ماجه وحسنه الحافظ ابن حجر.
ومن المعاني مع شعيرة الحج ترسيخ مبدأ الولاء والبراءة، فالحج يجمع الّشمل وينمّي الولاء والحبّ والنصرة بين المؤمنين، وإذا كان المسلمون يجمعهم مصدر واحد في التلقّي وهو الكتاب والسنة وقبلتُهم واحدة، فهم في الحج يزدادون صلة واقترابًا، حيث يجمعهم لباس واحد، ومكان واحد ، وزمان واحد، وهتاف واحد، ويؤدون جميعًا مناسك واحدة.
ومن صور الولاء للمؤمنين في الحجُ ما يحصل فيه من الإنفاق، وبذل المعروف أيًا كان، سواء أكان تعليم علم، أو دلالة لخير، أو إغاثة الغير بطعام أو شراب.
وفي المقابل ففي الحج ترسيخ لعقيدة البراء من المشركين ومخالفتهم، يقول ابن القيم: استقرت الشريعة على قصد مخالفة المشركين لا سيما في المناسك).
لقد أرسى نبينا صلى الله عليه وسلم مبدأ مخالفة المشركين في مواطن عدة في الحج:
فلبى بالتوحيد خلافًا للمشركين في تلبيتهم الشركية.
وأفاض من عرفات بعد غروب الشمس مخالفًا أهلَ الشرك الذين يدفعون قبل غروبها.
وكان أهل الشرك يدفعون من المشعر الحرام بعد طلوع الشمس ، فخالفهم الرسول فدفع قبل أن تطلع الشمس.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فقد رأينا كل مكان أعرض المشركون عن النسك فيه أوجب الله النسك فيه).
ومن معاني الحج تربية النفس على قِصَرَ الأَمَلِ ، والاستعداد ليوم الأجل .
لَقَدْ خَرَجَ الْحَاجُّ مِنْ دِيَارِهِ مُصَبِّرًا نَفْسَهُ عَلَى الطَّاعَاتِ، حَابِسًا هَوَاهُ عَنِ الشَّهَوَاتِ طِيلَةَ أَيَّامِ مِنًى وَعَرَفَاتٍ؛ لأَنَّهُ يَسْتَيْقِنُ أَنَّهَا سَاعَاتٌ مَعْدُودَاتٌ وَيَأْتِي الرَّحِيلُ عَمَّا قَرِيبٍ.
يلبس الحاج إحرامه فيطيف في خياله لبس الأكفان .
ويقف الحاج بعرفةفيرى من التزاحم والتدافع وارتفاع الأصوات ، فيتذكر موقف القيامة واجتماع الأمم في ذلك الموطن المهول، يوم يقوم الناس لرب العالمين.
إنها وربي رسائل عظمى من عقلها تيقن أن العمر قصير ، وأن البقاء في هذه الدار قليل ، فلا يغتر العبد بعيش لم يدركه ، ولا يأسف على دنيا ذاهبه ، فما عند الله خير وأبقى.
بارك الله لي ولكم ...
الخطبة الثانية
أما بعد ، فها نحن إخوة الإيمان نعيش خير أيام الدنيا، أيام العشر ، أيام يحبها الله ، ويحب العمل الصالح المبرور فيها.
ذو حظ عظيم من عرف لهذه الأيام قدرها ، وسعى بصالح الأعمال فيها، من صدقة وقرآن، وصيام وبرٍّ وإحسان، مع العجِّ بالذكر ، وترطيب الأفواه بالتكبير والتحميد، والتهليل والتمجيد.
ومن فضائل العشر، والفضائل كثيرة ، أن فيها يوم عظيم مشهود، أتمَّ الله فيه النعمة، وأكمل الدين.
لقد عم فضل الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بيوم عرفة بالفضائل والأجور، فجعل خير الدعاء دعاء عرفة وخير ما قال النبيون عليهم السلام: لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
وحاز الحاج من ربِّه أجر الرحمة والمغفرة والمباهاة، وحاز غير الحاج تكفير السيئات إن هو صام ذلك اليوم، يُسأَل النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن صوم يوم عرفة، فيقول: (يُكفِّر السنة الماضية والباقية) رواه مسلمٌ في صحيحه.
فأحسِنُوا ـ رحمكم الله ـ استِغلالَ هذا اليوم، فما هو إلاَّ ساعات معدودة، ولحظات محدودة، حَقِّقوا رَجاءَكم بربِّكم بحسن الظنِّ به، وتجرَّدوا إلى ربِّكم بنُفُوسٍ زكيَّة، وقلوبٍ مُخبِتة، ودعاء صادق خالص.
ومَن أراد أنْ يُضحِّي فيجب عليه أنْ يُمسِك عن شعره وأظفاره، فلا يأخُذ منه شيئًا.
ومَن أخَذ من شعره وظفره لحاجةٍ، فلا شيءَ عليه، ومَن قصَّ من شعره وظفره لغير حاجَةٍ وجبَتْ عليه التوبةُ وعدَم العودة، ولا كفَّارة عليه، وهذا الحكم في المنْع من أخْذ الشعر والأظفار خاصٌّ بصاحب الأضحية، أمَّا الأهل والأولاد ومَن يُضَحَّى عنهم، فلا يَلزَمُهم ذلك.
حدثوني عن قوة بشرية تقدر أن تحرك ملايين البشر ، اختلفت أجناسهم، وتعددت لغاتهم، وتفاوتت حاجاتهم، إلى بقعة صغيرة.
يأتون إلى هذه البقعة في أيام معدودات لا لحاجة يتعيشون بها،ولا لنوال يتبلغون به
يأتون بقلوب قد قطعها الشوق، وألهبها الحنين، قد فارقوا الأهل والأولاد والمال والأعمال، يتلذذون بهذا الاغتراب، أعظم من تلذذ العطشى ببارد الشراب.
حتى لكأن أيامهم تلك هي أغلى أيام الأعمار.
إنها والله عظمة من عظمات ديننا الإسلامي، لا تستطيعه قوة أرضية ولا جهد بشري ، مهما بلغت من التقدم والمتابعة والدقة.
عظمة تبرز متانة هذا الدين وبقاءه ولو كره الكافرون.
عظمة من قال لخليله عليك البلاغ ، وعلينا الجواب.
وَأَذّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ
فالحجُّ آية من الله باهرة ، ووعد منه صادق أنَّ مَا جاءَ به محمَّد هو الدِّين الحقّ.
يا أهل الإيمان،
شعيرة الحج مزبورة بمعانٍ إيمانية ، وأسرارٍ باهرة في بناءِ النفوس، وإصلاحِ الذات ، وتقويةِ الإيمان، فحري بنا أن نمرَّ على قليل من كثير من معاني الحج وأسراره.
· أول محطةٍ من معاني الحج تستوقفنا ، وهي أعظمها وأجلها ( الإقبال على الله تعالى).
فكم في هذه الدنيا من صوارف ومشغلات، تصرف أو تبطِّئُ العبدَ عن اقباله على الله ، فتأتي رحلة الحج، رحلة الإقبال على الله تعالى، إنه ليس إقبال أجساد ، بل إقبالُ أرواحٍ وتعلُّقُها بربٍ كريم جواد رحيم.
ترى حال الحاج كلِّه مع الله عز وجل ، فهو دائم التنقل من طاعات إلى أخرى ، لا يخرج من عبادة إلا ويستجيب لأخرى.
أما اللسان فلا يفتر عن الذكر والتلبية والتكبير.
وأما الجوارح فتستجيب للمناسك في أعلى درجات الامتثال.
وأما الجنان فهو دائم التعلق والرجاء في كلِ منزلٍ ينزله الحاج.
إنها حال من العبودية يحبها الله ويجزي أهلها الجزاء الأوفى ، ( ومن حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ).
ولذا ترى كلَّ حاج بعد هذه الرحلة الإيمانية يعود بنفس غير النفس التي ذهب بها، فقد أخذ من دروس الإقبال على الله ما جعله يتغير إلى حال تسر المؤمنين.
· ومن أهم دلالات الحج ورسائله ، رسالة التوحيد لله رب العالمين .
توحيد من بُني البيتُ العتيق من أجلِه ، وجُعل قصدُ الناس إليه من أرجاءِ المعمورة للتأكيد عليه وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرٰهِيمَ مَكَانَ ٱلْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئًا وَطَهّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَٱلْقَائِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ.
إنه التوحيد الذي لأجله بعثت الرسل ، وأنزلت الكتب ، لا درب لرضا الرحمن ودخول الجنان إلا من جهته (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ)
فأعلى ما تقرب العبد لربه وتحنث هو بتوحيده له سبحانه، فهو الأمن والأمان، وهو النجاة وهو الفلاح.
إنه إفراد الله بكل عبادة قولية أو فعلية أو من أعمال القلوب.
إنه التخلص من أدران الشرك بالله في ألوهيته أو وربوبيته ، أو الإلحاد في أسمائه وصفاته.
إنّه توحيدٌ يعلِّق الرجاء بالله والخوف منه والاستعانةَ والاستغاثة به،والتوكل عليه، وأن لا يُحكم في الأرض إلا بما شرع الله سبحانه.
وفي الحج تحقيق لهذا التوحيد المنشود ، يقول الباري سبحانه في سورة الحج :
فاجْتَنِبُواْ ٱلرّجْسَ مِنَ ٱلأوْثَـٰنِ وَٱجْتَنِبُواْ قَوْلَ ٱلزُّورِ حُنَفَاء للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَاء فَتَخْطَفُهُ ٱلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ ٱلرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ
وتأمل في مناسك الحج تجد أن شعيرة الحج قائمةٌ في أساسها على تجريد التوحيد لله وحده لا شريك له؛ فشُرع للحاج أن يستهل حجه بالتلبية: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك .
ومن أجل تحقيق التوحيد شُرع للحاج أن يقرأ في ركعتي الطواف بعد الفاتحة بسورتي الإخلاص والكافرون .
ومن أجل تحقيق التوحيد شرع التهليل للحاج عند صعود الصفا والمروة، فيقول: "لا إله إلا الله، والله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده".
ومن أجل تحقيق التوحيد أيضًا كان خير الدعاء يوم عرفة أن يقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير.
ومن أجل التوحيد شرع للحاج على إفراد الله سبحانه بالدعاء في مواطن كثيرة عند الطواف والسعي ، وفي أثناء الوقوف بعرفة ، وعند المشعر الحرام وفي مزدلفة ، وبعد الفراغ من رمي الجمرة الصغرى والوسطى في أيام التشريق.
شرع الدعاء في هذه المواقف الستة لتعليق القلوب بالله وإفراده بالدعاء، والالتجاء والافتقار إليه وحده ، والاستغناء عمن سواه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فالمقصود من الحج: عبادة الله وحده في البقاع التي أمر بعبادته فيها؛ ولهذا كان الحج شعار الحنيفية، حتى قال طائفة من السلف: (حنفاء لله) أي: حجاجا. أ هـ
إخوة الإيمان :
ومن دلالات الحج ومعانيه : التربية على التسليم والانقياد لشرع الله تعالى،
يتنقّلَ الحجاج بين المشاعر ، والطواف ، والرمي والنحر استجابة لأمر الله ، لا يعارضون هذه الأوامر بمعقولات نظرية ، ولا فلسفات عقلية ، ولسان حالهم :
( سمعنا وأطعنا ) { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ }.
بل ترى الحاج في مناسك حجه يَتَحَرَّى وَيَسْأَلُ عن دقائق الأمور التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم ، فيَتَتَبَّعُها وَلا يَحِيدُ عنها ؛ كل ذلك حَتَّى يَكُونَ حَجُّهُ كُلُّهُ وفْقَ الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ الْكَرِيمِ، فما أجمل هذا الامتثال الذي يتلقاه المسلم من مدرسة الحج.
ومن معاني الْحَجِّ تَرْبِيَةَ الضَّمِيرِ، وَتَزْكِيَةَ النَّفْسِ عَلَى الإِخْلَاصِ وَالْمُرَاقَبَةِ وَالْعَفَافِ، (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)، يَتْرُكُ الْعَبْدُ فِي نُسُكِهِ الْفُسُوقَ وَاللَّمَمَ؛ تَعْظِيمًا لِرَبِّهِ، وَخَوْفًا مِنْ نُقْصَانِ أَجْرِهِ.
مَعَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى فِعْلِ الأَوْزَارِ، وَارْتِكَابِ الآثام ، وَلَوْ تَأَمَّلْنَا مَنْسَكًا وَاحِدًا مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ -وَهُوَ الطَّوَافُ- لَرَأَيْنَا كَيْفَ يَغْرِسُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ مَبْدَأَ الْخَشْيَةِ وَالْعَفَافِ؛ فَالْحَاجُّ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ، لا يُرْسِلُ طَرْفَهُ إِلَى عَوْرَةٍ، وَلَا يُتْبِعُ نَظَرَهُ نَحْوَ امْرَأَةٍ، مَا مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا تَعْظِيمٌ لِمَقَامِ رَبِّهِ، وَخَشْيَةُ تَدْنِيسِ نُسُكِهِ، وَهَكَذَا تَصْنَعُ مَنَاسِكُ الْحَجِّ فِي نُفُوسِ أَهْلِهَا مِنَ التَّرْبِيَةِ وَالتَّزْكِيَةِ.
ومن معاني الحج العظام تعظيم شعائر الله تعالى وحرماته ، يقول تعالى بعد أن ذكر أحكامًا عن الحج: ذٰلِكَ وَمَن يُعَظّمْ حُرُمَـٰتِ ٱللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبّهِ، والحرمات المقصودة ها هنا أعمال الحجّ المشار إليها في قوله تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وقال سبحانه: ذٰلِكَ وَمَن يُعَظّمْ شَعَـٰئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ.مَعَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى فِعْلِ الأَوْزَارِ، وَارْتِكَابِ الآثام ، وَلَوْ تَأَمَّلْنَا مَنْسَكًا وَاحِدًا مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ -وَهُوَ الطَّوَافُ- لَرَأَيْنَا كَيْفَ يَغْرِسُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ مَبْدَأَ الْخَشْيَةِ وَالْعَفَافِ؛ فَالْحَاجُّ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ، لا يُرْسِلُ طَرْفَهُ إِلَى عَوْرَةٍ، وَلَا يُتْبِعُ نَظَرَهُ نَحْوَ امْرَأَةٍ، مَا مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا تَعْظِيمٌ لِمَقَامِ رَبِّهِ، وَخَشْيَةُ تَدْنِيسِ نُسُكِهِ، وَهَكَذَا تَصْنَعُ مَنَاسِكُ الْحَجِّ فِي نُفُوسِ أَهْلِهَا مِنَ التَّرْبِيَةِ وَالتَّزْكِيَةِ.
وتعظيم شعائر الله تعالى يكون بإجلالها ومحبتها ، وإتقان العبودية فيها.
وفي الحديث قال : ((لا تزال هذه الأمة بخير ما عظّموا هذه الحرمة ـ يعني: الكعبة ـ حق تعظيمها، فإذا ضيّعوا ذلك هلكوا)) أخرجه ابن ماجه وحسنه الحافظ ابن حجر.
ومن المعاني مع شعيرة الحج ترسيخ مبدأ الولاء والبراءة، فالحج يجمع الّشمل وينمّي الولاء والحبّ والنصرة بين المؤمنين، وإذا كان المسلمون يجمعهم مصدر واحد في التلقّي وهو الكتاب والسنة وقبلتُهم واحدة، فهم في الحج يزدادون صلة واقترابًا، حيث يجمعهم لباس واحد، ومكان واحد ، وزمان واحد، وهتاف واحد، ويؤدون جميعًا مناسك واحدة.
ومن صور الولاء للمؤمنين في الحجُ ما يحصل فيه من الإنفاق، وبذل المعروف أيًا كان، سواء أكان تعليم علم، أو دلالة لخير، أو إغاثة الغير بطعام أو شراب.
وفي المقابل ففي الحج ترسيخ لعقيدة البراء من المشركين ومخالفتهم، يقول ابن القيم: استقرت الشريعة على قصد مخالفة المشركين لا سيما في المناسك).
لقد أرسى نبينا صلى الله عليه وسلم مبدأ مخالفة المشركين في مواطن عدة في الحج:
فلبى بالتوحيد خلافًا للمشركين في تلبيتهم الشركية.
وأفاض من عرفات بعد غروب الشمس مخالفًا أهلَ الشرك الذين يدفعون قبل غروبها.
وكان أهل الشرك يدفعون من المشعر الحرام بعد طلوع الشمس ، فخالفهم الرسول فدفع قبل أن تطلع الشمس.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فقد رأينا كل مكان أعرض المشركون عن النسك فيه أوجب الله النسك فيه).
ومن معاني الحج تربية النفس على قِصَرَ الأَمَلِ ، والاستعداد ليوم الأجل .
لَقَدْ خَرَجَ الْحَاجُّ مِنْ دِيَارِهِ مُصَبِّرًا نَفْسَهُ عَلَى الطَّاعَاتِ، حَابِسًا هَوَاهُ عَنِ الشَّهَوَاتِ طِيلَةَ أَيَّامِ مِنًى وَعَرَفَاتٍ؛ لأَنَّهُ يَسْتَيْقِنُ أَنَّهَا سَاعَاتٌ مَعْدُودَاتٌ وَيَأْتِي الرَّحِيلُ عَمَّا قَرِيبٍ.
يلبس الحاج إحرامه فيطيف في خياله لبس الأكفان .
ويقف الحاج بعرفةفيرى من التزاحم والتدافع وارتفاع الأصوات ، فيتذكر موقف القيامة واجتماع الأمم في ذلك الموطن المهول، يوم يقوم الناس لرب العالمين.
إنها وربي رسائل عظمى من عقلها تيقن أن العمر قصير ، وأن البقاء في هذه الدار قليل ، فلا يغتر العبد بعيش لم يدركه ، ولا يأسف على دنيا ذاهبه ، فما عند الله خير وأبقى.
بارك الله لي ولكم ...
الخطبة الثانية
أما بعد ، فها نحن إخوة الإيمان نعيش خير أيام الدنيا، أيام العشر ، أيام يحبها الله ، ويحب العمل الصالح المبرور فيها.
ذو حظ عظيم من عرف لهذه الأيام قدرها ، وسعى بصالح الأعمال فيها، من صدقة وقرآن، وصيام وبرٍّ وإحسان، مع العجِّ بالذكر ، وترطيب الأفواه بالتكبير والتحميد، والتهليل والتمجيد.
ومن فضائل العشر، والفضائل كثيرة ، أن فيها يوم عظيم مشهود، أتمَّ الله فيه النعمة، وأكمل الدين.
لقد عم فضل الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بيوم عرفة بالفضائل والأجور، فجعل خير الدعاء دعاء عرفة وخير ما قال النبيون عليهم السلام: لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
وحاز الحاج من ربِّه أجر الرحمة والمغفرة والمباهاة، وحاز غير الحاج تكفير السيئات إن هو صام ذلك اليوم، يُسأَل النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن صوم يوم عرفة، فيقول: (يُكفِّر السنة الماضية والباقية) رواه مسلمٌ في صحيحه.
فأحسِنُوا ـ رحمكم الله ـ استِغلالَ هذا اليوم، فما هو إلاَّ ساعات معدودة، ولحظات محدودة، حَقِّقوا رَجاءَكم بربِّكم بحسن الظنِّ به، وتجرَّدوا إلى ربِّكم بنُفُوسٍ زكيَّة، وقلوبٍ مُخبِتة، ودعاء صادق خالص.
ثم استقبلوا عيدكم بالفرح والتكبير فهو خير أيام العام، حازَ هذا اليوم تلك الأفضليَّة لاجتِماع أنواع الطاعات التي لا تجتَمِع إلاَّ في هذا اليوم؛ من نحرٍ ورمي، وحلق وتكبير، وطواف وسعي، قال شيخ الإسلام: وكما أنَّ ليلة القدر أفضلُ الليالي، فإنَّ يوم النحر أفضل أيَّام العام.
روى الإمام أحمد وغيره بسندٍ صحيح أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: "أعظمُ الأيَّام عند الله: يوم النحر، ثم يوم القر"، ويوم القر هو: يوم الحادي عشر.
ثم اعلموا رعاكم أن من تَمام التقوى شُكْرُ المولى - عزَّ وجلَّ - والتقرُّب إليه بذبح الأضاحي، سنَّة سنَّها الخليلُ - عليه السلام - وتأسَّى به الأنبِياء، وتَبِعَهم المؤمنون عبر حِقَبِ التاريخ.
أقامَ النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالمدينة عشرَ سنين مُداوِمًا على الأضحية.
ومن الإحسان في الأضحية (والله يحب المحسنين) اختيار الأسمن والأطيب ، قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: "والأجر في الأضحية على قدْر القيمة مطلقًا".روى الإمام أحمد وغيره بسندٍ صحيح أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: "أعظمُ الأيَّام عند الله: يوم النحر، ثم يوم القر"، ويوم القر هو: يوم الحادي عشر.
ثم اعلموا رعاكم أن من تَمام التقوى شُكْرُ المولى - عزَّ وجلَّ - والتقرُّب إليه بذبح الأضاحي، سنَّة سنَّها الخليلُ - عليه السلام - وتأسَّى به الأنبِياء، وتَبِعَهم المؤمنون عبر حِقَبِ التاريخ.
أقامَ النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالمدينة عشرَ سنين مُداوِمًا على الأضحية.
ومَن أراد أنْ يُضحِّي فيجب عليه أنْ يُمسِك عن شعره وأظفاره، فلا يأخُذ منه شيئًا.
ومَن أخَذ من شعره وظفره لحاجةٍ، فلا شيءَ عليه، ومَن قصَّ من شعره وظفره لغير حاجَةٍ وجبَتْ عليه التوبةُ وعدَم العودة، ولا كفَّارة عليه، وهذا الحكم في المنْع من أخْذ الشعر والأظفار خاصٌّ بصاحب الأضحية، أمَّا الأهل والأولاد ومَن يُضَحَّى عنهم، فلا يَلزَمُهم ذلك.
إنَّ ذبْح الأضحية على الوجْه المشروع هو من تعظيم شعائر الله، وسبيلٌ لحصول التقوى؛ (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) ، (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ).
فطِيبُوا بأضاحيكم نفسًا، وكُلُوا منها، وتهادوا وتصدَّقوا، نسأَلُ الله - عزَّ وجلَّ - أنْ يتقبَّل من الجميع صالِحَ العمل، وأنْ يجعَلَنا من المُسارِعين إلى الفَضْل قبلَ حلول الأجل.
فطِيبُوا بأضاحيكم نفسًا، وكُلُوا منها، وتهادوا وتصدَّقوا، نسأَلُ الله - عزَّ وجلَّ - أنْ يتقبَّل من الجميع صالِحَ العمل، وأنْ يجعَلَنا من المُسارِعين إلى الفَضْل قبلَ حلول الأجل.
المرفقات
أسرار الحج.docx
أسرار الحج.docx
الدكتور صالح الضلعان
جزاك الله خير يا شيخنا الغالي
دائما خطبك تلامس المشاعر باسلوب رائع
تعديل التعليق