أسرار { إياك نعبد وإياك نستعين }

د. عبدالعزيز الشهراني
1442/07/13 - 2021/02/25 07:58AM

عباد الله: يقول الله - جل وعلا - : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قال ابن القيم - رحمه الله - في أسرار هذه الآية : وَسِرُّ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، وَالْكُتُبِ وَالشَّرَائِعِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ انْتَهَى إِلَى هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ، وَعَلَيْهِمَا مَدَارُ الْعُبُودِيَّةِ وَالتَّوْحِيدِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة: 5]. وَهُمَا الْكَلِمَتَانِ الْمَقْسُومَتَانِ بَيْنَ الرَّبِّ وَبَيْنَ عَبْدِهِ نِصْفَيْنِ، فَنَصِفُهُمَا لَهُ تَعَالَى، وَهُوَ " إِيَّاكَ نَعْبُدُ " وَنِصْفُهُمَا لِعَبْدِهِ وَهُوَ " إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ".والنَّاسُ فِي هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ وَهُمَا الْعِبَادَةُ وَالِاسْتِعَانَةُ على أَقْسَامٍ: أَجَلُّهَا وَأَفْضَلُهَا: أَهْلُ الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِالَلَّهِ عَلَيْهَا، فَعِبَادَةُ اللَّهِ غَايَةُ مُرَادِهِمْ، وَطَلَبُهُمْ مِنْهُ أَنْ يُعِينَهُمْ عَلَيْهَا، وَيُوَفِّقَهُمْ لِلْقِيَامِ بِهَا، وَلِهَذَا كَانَ مِنْ أَفْضَلِ مَا يُسْأَلُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْإِعَانَةُ عَلَى مَرْضَاتِهِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحِبِّهِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ «يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، فَلَا تَنْسَ أَنْ تَقُولَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ» . فَأَنْفَعُ الدُّعَاءِ طَلَبُ الْعَوْنِ عَلَى مَرْضَاتِهِ، وَأَفْضَلُ الْمَوَاهِبِ إِسْعَافُهُ بِهَذَا الْمَطْلُوبِ، وَجَمِيعُ الْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ مَدَارُهَا عَلَى هَذَا، وَعَلَى دَفْعِ مَا يُضَادُّهُ، وَعَلَى تَكْمِيلِهِ وَتَيْسِيرِ أَسْبَابِهِ، فَتَأَمَّلْهَا. وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: تَأَمَّلْتُ أَنْفَعَ الدُّعَاءِ فَإِذَا هُوَ سُؤَالُ الْعَوْنِ عَلَى مَرْضَاتِهِ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ فِي الْفَاتِحَةِ فِي:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.

أيها المؤمنون: وَمُقَابِلُ هَؤُلَاءِ الْقِسْمُ الثَّانِي، وَهُمُ الْمُعْرِضُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ، فَلَا عِبَادَةَ وَلَا اسْتِعَانَةَ، بَلْ إِنْ سَأَلَهُ أَحَدُهُمْ وَاسْتَعَانَ بِهِ فَعَلَى حُظُوظِهِ وَشَهَوَاتِهِ، لَا عَلَى مَرْضَاةِ رَبِّهِ وَحُقُوقِهِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَسْأَلُهُ أَوْلِيَاؤُهُ وَأَعْدَاؤُهُ وَيَمُدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، وَأَبْغَضُ خَلْقِهِ عَدُّوُهُ إِبْلِيسُ وَمَعَ هَذَا فَقَدَ سَأَلَهُ حَاجَةً فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، وَمَتَّعَهُ بِهَا، وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ تَكُنْ عَوْنًا لَهُ عَلَى مَرْضَاتِهِ، كَانَتْ زِيَادَةً لَهُ فِي شِقْوَتِهِ، وَبُعْدِهِ عَنِ اللَّهِ وَطَرْدِهِ عَنْهُ، وَهَكَذَا كُلُّ مَنِ اسْتَعَانَ بِهِ عَلَى أَمْرٍ وَسَأَلَهُ إِيَّاهُ، وَلَمْ يَكُنْ عَوْنًا عَلَى طَاعَتِهِ كَانَ مُبْعِدًا لَهُ عَنْ مَرْضَاتِهِ، قَاطِعًا لَهُ عَنْهُ وَلَا بُدَّ.

عباد الله: وَلْيَتَأَمَّلِ الْعَاقِلُ هَذَا فِي نَفْسِهِ وَفِي غَيْرِهِ، وَلْيَعْلَمْ أَنَّ إِجَابَةَ اللَّهِ لِسَائِلِيهِ لَيْسَتْ لِكَرَامَةِ السَّائِلِ عَلَيْهِ، بَلْ يَسْأَلُهُ عَبْدُهُ الْحَاجَةَ فَيَقْضِيهَا لَهُ، وَفِيهَا هَلَاكُهُ وَشِقْوَتُهُ، وَيَكُونُ قَضَاؤُهُ لَهُ مِنْ هَوَانِهِ عَلَيْهِ، وَسُقُوطِهِ مِنْ عَيْنِهِ، وَيَكُونُ مَنْعُهُ مِنْهَا لِكَرَامَتِهِ عَلَيْهِ وَمَحَبَّتِهِ لَهُ، فَيَمْنَعُهُ حِمَايَةً وَصِيَانَةً وَحِفْظًا لَا بُخْلًا، وَهَذَا إِنَّمَا يَفْعَلُهُ بِعَبْدِهِ الَّذِي يُرِيدُ كَرَامَتَهُ وَمَحَبَّتَهُ، وَيُعَامِلُهُ بِلُطْفِهِ، فَيَظُنُّ بِجَهْلِهِ أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّهُ وَلَا يُكْرِمُهُ، وَيَرَاهُ يَقْضِي حَوَائِجَ غَيْرِهِ، فَيُسِيءُ ظَنَّهُ بِرَبِّهِ، وَهَذَا حَشْوُ قَلْبِهِ وَلَا يَشْعُرُ بِهِ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ.

فَاحْذَرْ كُلَّ الْحَذَرِ أَنْ تَسْأَلَهُ شَيْئًا مُعَيَّنًا خِيرَتُهُ وَعَاقِبَتُهُ مُغَيَّبَةٌ عَنْكَ، وَإِذَا لَمْ تَجِدْ مِنْ سُؤَالِهِ بُدًّا، فَعَلِّقْهُ عَلَى شَرْطِ عِلْمِهِ تَعَالَى فِيهِ الْخِيَرَةَ، وَقَدِّمْ بَيْنَ يَدَيْ سُؤَالِكَ الِاسْتِخَارَةَ، وَلَا تَكُنِ اسْتِخَارَةٌ بِاللِّسَانِ بِلَا مَعْرِفَةٍ، بَلِ اسْتِخَارَةُ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِمَصَالِحِهِ، وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهَا، وَلَا اهْتِدَاءَ لَهُ إِلَى تَفَاصِيلِهَا، وَلَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضُرًّا وَلَا نَفْعًا، بَلْ إِنْ وُكِّلَّ إِلَى نَفْسِهِ هَلَكَ كُلَّ الْهَلَاكِ، وَانْفَرَطَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ.

نسأل الله أن يزرقنا صدق اليقينِ به, وحسن التقوى وحسن العمل , أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم .

 

 

 

الخطبة الثانية:

أيها المسلمون: وَإِذَا أَعْطَاكَ اللهُ مَا أَعْطَاكَ بِلَا سُؤَالٍ تَسْأَلُهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَوْنًا لَكَ عَلَى طَاعَتِهِ وَبَلَاغًا إِلَى مَرْضَاتِهِ، وَلَا يَجْعَلَهُ قَاطِعًا لَكَ عَنْهُ، وَلَا مُبْعِدًا عَنْ مَرْضَاتِهِ، وَلَا تَظُنُّ أَنَّ عَطَاءَهُ كُلَّ مَا أَعْطَى لِكَرَامَةِ عَبْدِهِ عَلَيْهِ، وَلَا مَنْعَهُ كُلَّ مَا يَمْنَعُهُ لِهَوَانِ عَبْدِهِ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ عَطَاءَهُ وَمَنْعَهُ ابْتِلَاءٌ وَامْتِحَانٌ، يَمْتَحِنُ بِهِمَا عِبَادَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ - وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ - كَلَّا }[الفجر] أَيْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ أَعْطَيْتُهُ وَنَعَّمْتُهُ وَخَوَّلْتُهُ فَقَدْ أَكْرَمْتُهُ، وَمَا ذَاكَ لِكَرَامَتِهِ عَلَيَّ، وَلَكِنَّهُ ابْتِلَاءٌ مِنِّي، وَامْتِحَانٌ لَهُ أَيَشْكُرُنِي فَأُعْطِيَهُ فَوْقَ ذَلِكَ، أَمْ يَكْفُرُنِي فَأَسْلُبَهُ إِيَّاهُ، وَأُخَوِّلَ فِيهِ غَيْرَهُ؟ وَلَيْسَ كُلُّ مَنِ ابْتَلَيْتُهُ فَضَيَّقْتُ عَلَيْهِ رِزْقَهُ، وَجَعَلْتُهُ بِقَدَرٍ لَا يُفَضَّلُ عَنْهُ، فَذَلِكَ مِنْ هَوَانِهِ عَلَيَّ، وَلَكِنَّهُ ابْتِلَاءٌ وَامْتِحَانٌ مِنِّي لَهُ أَيَصْبِرُ فَأُعْطِيَهُ أَضْعَافَ أَضْعَافِ مَا فَاتَهُ مِنْ سَعَةِ الرِّزْقِ، أَمْ يَتَسَخَّطُ فَيَكُونَ حَظُّهُ السُّخْطَ؟ . فَرَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى مَنْ ظَنَّ أَنَّ سَعَةَ الرِّزْقِ إِكْرَامٌ، وَأَنَّ الْفَقْرَ إِهَانَةٌ، فَقَالَ: لَمْ أَبْتَلِ عَبْدِي بِالْغِنَى لِكَرَامَتِهِ عَلَيَّ، وَلَمْ أَبْتَلِهِ بِالْفَقْرِ لِهَوَانِهِ عَلَيَّ، فَأَخْبَرَ أَنَّ الْإِكْرَامَ وَالْإِهَانَةَ لَا يَدُورَانِ عَلَى الْمَالِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ وَتَقْدِيرِهِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُوَسِّعُ عَلَى الْكَافِرِ لَا لِكَرَامَتِهِ، وَيُقَتِّرُ عَلَى الْمُؤْمِنِ لَا لِإِهَانَتِهِ، إِنَّمَا يُكْرِمُ مَنْ يُكْرِمُهُ بِمَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَطَاعَتِهِ، وَيُهِينُ مَنْ يُهِينُهُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَمَعْصِيَتِهِ، فَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى هَذَا وَعَلَى هَذَا، وَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ. فعَادَتْ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة: 5]. نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل السعادة والكرامة في الدنيا والآخرة .

 ....هذا وصلوا رحمكم الله

 

 

 

 

ملاحظة/ الخطبة مختصرة من كتاب مدارج السالكين لابن القيم .

المشاهدات 4132 | التعليقات 0