أركان تربية القرآن للشيخ عصام بن صالح العويّد

بسم الله الرحمن الرحيم

أركان تربية القرآن
(1ـ سورة اقرأ)

عصام بن صالح العويّد


أنزل الله عز وجل في كتابه المجيد أربع سور من تأملها وقف على أركان تربية القرآن لأهل الإيمان ، وجميع هذه السور من أوائل ما نزل باتفاق المفسرين وهي : اقرأ فالمدثر ثم المزمل ثم القلم ، بل إنها عند المحققين منهم نزلت متقاربة جدا في زمن نزولها ، كما دلّ عليه الترتيب المشهور للسور عن جابر بن زيد تلميذ ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين .
وهذه الأركان الأربعة هي :
1ـ العلم في سورة (اقرأ) 2ـ الدعوة في سورة (المدثر)
3 ـ العبادة الخفية في (المزمل) 4 ـ الخُلق الجميل في (القلم)
وكل واحدة من هذه السور تضمنت أمورا أربعة :
الأول : ماهيةُ وحقيقة هذا الركن .
الثاني : وسائل تحقيقه في النفس .
الثالث : العوائق والعوالق التي تحول دون بلوغه .
الرابع : قياس تحقيق هذا الركن في الحياة .

الركن الأول : العلم المأمور به في سورة (اقرأ)
هذا هو الركن الأول من أركان تربية القرآن ، ووجه كونه الأول أن من عادة القرآن ـ وعادته محكمة ـ ألا يُقدِّم عليه غيره ، فأول أمرٍ في القرآن إنما هو بالعلم (اقرأ) ، وأول قسم في القرآن جاء بأداة العلم (والقلم) ، وحين أُمر بالعلم والعمل معاً قُدم العلم (فاعلم) .
- وحقيقة هذا العلم ورأسه هو العلم بالله ثم بموعوده ثم بأحكامه .
ولله درُّ ابن القيم حين قال :
والعلم أقسام ثلاث ما لها *** من رابع والحق ذو تبيان
علم بأوصاف الإله وفعله *** وكذلك الأسماء للرحمن
والأمر والنهي الذي هو دينه *** وجزاؤه يوم المعاد الثاني
وقد بدأت السورة بالعلم بقدرة الله : (بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ) ، ثم بالعلم بكرم الله (اقْرَأْوَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) ، ثم بالعلم بإحاطة الله (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) .

ثم ثنّت بموعوده : (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى) ، (كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ) .
ثم ثلَّثت بأمره ونهيه فذكرت من المأمورات الصلاة مرتين والهدى والتقى : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى) ، (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) ، ونهت عن طاعة ذاك الجاهل الذي ينهى عن الصلاة (كَلَّا لَا تُطِعْهُ) ، وهذا كله مما ينبه على عظيم العلاقة بين العلم والصلاة .

- فأما وسيلة تحقيقه في النفوس :
فقد نبهت السورة إلى الوسيلة العظمى لمعرفة العبد الصغير بربه العظيم سبحانه وهي (القراءة) ، وكررت الأمر (اقرأ) مرتين ، ولكل أمر ما يميزه عن صِنوه .فأمرُ الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم في مطلع السورة متوجه إلى نوعين من القراءة :
أما الأول : فهو قراءة وحيه الذي خصه به . وهذه القراءة لن تنفع صاحبها نفعاً تاماً حتى تكون ملتصقةً بـ (اسم الله) مستمدة العون منه ، ومستحضرةً نعمة ( الربِّ الأكرم) الذي علمها هذا العِلم الأعظم .
وأما الثاني : فهو قراءة كونه الذي دلَّ عليه .وهذا النوع الثاني نبهت السورة على تنوع دلالته بتكرار الأمر به ، فتارة تدل هذه القراءة في الكون على (كمال القدرة) من خلال خلقه للإنسان من مجرد علقة ، وتارة تدل على (تمام النعمة) بأعظمِ منّة وأكرمِ عطية وهي العلم وأداة العلم . فمن أراد معرفة الله حق معرفته فلا غنى له عن الولوج من هذين البابين العظيمين :
"القراءة بتدبرٍ في الآيات المتلوة وبتفكرٍ في الآيات الكونية"
ومن أعظم ما يورث معرفة الله وتعظيمه كثرة التدبر في آيات يوم القيامة التي ملأت ما بين الدفتين من الكتاب المبين .

- وأما العوائق والعوالق التي تحول دون بلوغه .
فقد نبهت السورة على أشدها نكالا ، وهما جنسان من الجهل :
أحدهما : جهل الإنسان بحقيقة نفسه ، فلا يعرف قدرها ويجهل فقرها ، مع وضوح دلائله (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) . وهذا الجهل بالنفس لا يكون عادة في طرفي الحياة وإنما في حال الفتوة والقوة ، فذكره الله بحال البدء وهو الخلق من (علق) ، والانتهاء الذي تليه (الرجعى) .
ثانيهما : جاهل يريد أن يصد الإنسان عن العلم الذي فيه نجاته (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى) ، والصلاة رأس العمل الذي يُورثه أزكى العلم .وكل تكذيب أو إعراض من هذا الإنسان إنما سببه الجهل ونقص العلم بالله وصفاته (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) فلو علم العلم الحق بالله لصدق ثم أذعن .

- وأما قياس هل حققنا هذا الركن في حياتنا أم لا ؟
فقد قال الله عز وجل في ختامها (كَلَّا لَا تُطِعْهُ) أي لا تطع هذا الجاهل ، (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) فمن أراد أمارة العلم النافع فهي في زيادة المعرفة بالله التي تورث التذلل بين يديه بالسجود (واسجد) ، ومحبة القرب منه (واقترب) . فمن لم يورثه العلم ذلك فما حصله في حقيقته ليس بعلم ، ولذا روى أبو نعيم في الحلية عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال :
"ليس العلم بكثرة الرواية ، ولكن العلم الخشية "
فأخذها منه مجاهد والنخعي والحسن والثوري والفضيل وأحمد وغيرهم فقالوا : "إنما العلم الخشية" .
بل عقد الإمام الدارمي في سننه باباً أسماه "بابٌ من قال : العلم الخشية "
رزقنا الله جميعا العلم الحق باطناً وظاهراً
وجعل هذه السور العظام حجة لنا لا علينا
..........
وللموضوع تتمة إن يسر الله وأعان ،،
المشاهدات 2473 | التعليقات 1

بسم الله الرحمن الرحيم
أركان تربية القرآن
(2ـ قم فأنذر)
عصام بن صالح العويّد
الركن الثاني : الدعوة المأمور بها في سورة (المدثر)


سبق أن هذه الأركان الأربعة هي :
1ـ العلم في سورة (اقرأ) 2ـ الدعوة في سورة (المدثر)
3 ـ العبادة الخفية في (المزمل) 4 ـ الخُلق الجميل في (القلم)



وكل واحدة من هذه السور تضمنت أمورا أربعة :
الأول : ماهيةُ وحقيقة هذا الركن .
الثاني : وسائل تحقيقه في النفس .
الثالث : العوائق والعوالق التي تحول دون بلوغه .
الرابع : قياس تحقيق هذا الركن في الحياة .
وهذه السورة العظيمة (المدثر) والتي تضمنت الركن الثاني من أركان تربية القرآن وهو (الدعوة) ، هي الثانية نزولا بعد سورة (اقرأ) ، ففي الصحيحين من حديث جابر رضي الله عنه قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي هَبَطْتُ فَنُودِيتُ .. فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَقُلْتُ : دَثِّرُونِي وَصُبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا . قَالَ : فَدَثَّرُونِي وَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا . قَالَ : فَنَزَلَتْ (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) . وفي لفظ لهما (وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ) .


- بيان مقصودها :
السورة لا يعرف لها إلا هذا الاسم فكان دالا على مقصودها وهو"الدعوة بالنذارة والبشارة" (قُمْ فَأَنْذِرْ) ، يقول العلامة البقاعي في نظم الدرر موضحاً ذلك : مقصودها الجد والاجتهاد في الإنذار بدار البوار لأهل الاستكبار ، وإثبات البعث في أنفس المكذبين الفجار ، والإشارة بالبشارة لأهل الادكار ، بحلم العزيز الغفار ، واسمها المدثر أدل ما فيها على ذلك ، وذلك واضح لمن تأمل النداء والمنادى به والسبب .

وهي من أوائل ما نزل فكان أسلوبها الدعوة بالنذارة ، ويقابلها في ذلك سورة الدعوة الأخرى (فصلت) وهي في الدعوة بالبرهان والحجة ، ، وكلاهما مكيتان لكن "فصلت" نزلت متأخرة كثيراً عن "المدثر" .


- حقيقة الدعوة فيها :
الدعوة فيها هي"إيصال التذكرة على وجهها المشروع" ولذا وصف الله كتابه بقوله (كلا إنه تذكرة) فمهمة الداعية هي إظهار الحق ساطعاً جميلاً يمحو بنوره ظلمة الليل (كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ) ، ثم تنتهي مهمته ليقول للناس بعد ذلك (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) .
فيمحو ظلمة الليل (كلا والقمر (32) والليل إذ أدبر (33) والصبح إذا أسفر) .. ثم تنتهي مهمته ليقول للناس بعد ذلك (لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخحصول التذكرة من الناس أمره إلى الله (وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) ، أما مهمتنا نحن معاشر الدعاة فهي (قُمْ فَأَنْذِرْ) بشرط تلبس الداعية بالصفات السّت مطلع السورة .
وهذه الصفات الستة هي : (قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7))
والفاء في (فأنذر) تعقيبية ، وفي البقية (فصيحة) تفصح عن شرط محذوف وتقديره في قوله تعالى (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) مهمْا يكن شيء فكبّرْ ربّك ، وبقياسه في بقية الآيات .
والثياب في قوله تعالى (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) تشمل : القلب واللسان والجوارح والبدن والملابس كما يدل عليه مجموع ما جاء عن السلف رضوان الله عليهم أجمعين .
ومنه ألا يلبس الداعية ثيابه على غدرة ودسيسة وخبيئة سوء بينه وبين الله أو بينه وبين الناس ، وقد كانت العرب إذا نكث الرجل ولم يوف بعهده قالوا : إن فلانا لدنس الثياب ، وإذا أوفى وأصلح قالوا : إن فلانا لطاهر الثياب ، وعن عكرمة أن ابن عباس سُئل عن قوله : وثيابك فطهر قال : لا تلبسها على غَدْرَةٍ وَلا فَجْرَةٍ ، ألا تسمعون قول غيلان بن سلمة :
إني بحمد الله لا ثوب فاجر ... لبستُ ولا من غدرة أتقنع

وأهم مهمة وأعظم مُلمة لكل داعية أن يحمل لواء التوحيد ونبذ الشرك صغيره وكبيره (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) ، فداعية يلتهي عن التوحيد بغيره أو يترك النهي عن الشرك لما يزعم بلسان قيله أو حاله أنه أهم منه ؛ قد انتقص ركناً ركيناً من صفات الداعية الستة في سورة المدثر .

والنهي عن (المنّ) هنا نهي عن تعداد الداعية لنعمه سواء ذكرها في نفسه أو على المدعوين ، فالمنّ : تذكير المنعِم المنعَمَ عليه بإنعامه . والاستكثار : عدّ الشيء كثيراً ، واستعظامه في النفس ، فيبدأ الداعية بعدِّ كم عدد من اهتدى على يديه ونوعهم ، وكم أقام من المشاريع وأثرها ، وكم بنى من مسجد ، وكم أنفق من درهم ، وكم أنكر من منكر ، وهذا وشبهه خلاف الأدب الواجب مع الله ، وهو لا يليق بالعامة فكيف بالدعاة ؟!

وختمت الصفات بالأمر بالصبر لأن الداعية بدون صبر ضرره أعظم من نفعه .
والنص على التكبير والتطهير فيهما تهيئة لمشروعية الصلاة التي لم تشرع بعدُ فهُيئ لها بذكر شرطها "الطهارة" وافتتاحها "التكبير" كما أشار ابن عاشور ، وقد جاء الأمر بها قريبا في قوله سبحانه (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا) ، وهو تنبيه إلى ضرورة أن تأخذ الصلاة والاستعداد لها حظها وافياً غير منقوص من عناية واهتمام الداعية .


- وأما أسلوب الدعوة فيها فهو (الإيمان قبل الأحكام) :
فقد استهلت السورة بعد ذكرها لصفات الداعية بذكر اليوم الآخر (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) ، فليس من الأساليب شيء مؤثر في المدعوين كتذكيرهم بساعة القيام والجنة والنار ، لأن هذه تنقر القلوب نقراً ، والنقر بطبيعته محصورُ الموضع شديدُ الوقع فيبقى أثره زمناً مديداً خصوصا لمن تعاهد قلبه به ساعة بعد ساعة .
لقد كانت تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضوان الله عليهم في بداية دعوته بالجنة والنار وأهوال القيامة حتى قالت الصديقة رضي الله عنها كما في البخاري "نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ سُورَةٌ مِنْ الْمُفَصَّلِ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الْإِسْلَامِ نَزَلَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ لَا تَشْرَبُوا الْخَمْرَ لَقَالُوا لَا نَدَعُ الْخَمْرَ أَبَدًا وَلَوْ نَزَلَ لَا تَزْنُوا لَقَالُوا لَا نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا ، لَقَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ (بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ"

وهذا الوصف منها لبيان أثر المنهج الذي تنزّل به القرآن وأن مخالفته من أعظم ما يكون خطراً على المدعوين ، فإن قولها (ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا : لا ندع شرب الخمر ) بيان لحال الصحابة مع نهي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فالآمر هو الله والمبلغ الرسول والمأمور الأصحاب ثم بعد هذا لو أن منهج التدرج الموافق لتربية القرآن خُولف فرد المدعوين سيكون صريحاً (لا ندع الخمر .. لا ندع الزنا) .

فما بالك بجواب غيرهم من بقية الأمة حين يُقال لهم أولاً (لا تشربوا الخمر ، لا تزنوا ، لا تفعلوا كذا وكذا ) ؛ الجواب نراه عياناً بياناً في موقف الأمة من أوامر ربها وأوامر رسولها صلى الله عليه وسلم ، ولاشك أن هذا سبب رئيس في ضعف أثر الدعوة على المدعوين ولابد من التفطن له .


وهذه المسألة جليلة كبيرة القدر جداً ، قد خفي على كثير من أهل القرآن وجه الصواب فيها ، فوقعوا في خلاف منهج النبي صلى الله عليه وسلم ومنهج أصحابه رضوان الله عليهم .

ومنهج النبي صلى الله عليه وسلم في تعليم أصحابه القرآن هو تعليم الإيمان أولاً قبل تعليم الأحكام ، وهي داخلة ضمن القاعدة المشهورة عند السلف في التعليم (العالم الرباني : هو الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره) ، وقد جاء في تعليم الإيمان قبل الأحكام آثار مشهورة :

- فعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة ، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانا.
- وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال : تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيماناً ، وأنتم تتعلمون القرآن ثم تتعلمون الإيمان .
- وعنه رضي الله عنه قال : لقد عشنا برهة من دهرنا وإن أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن ، وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فنتعلم حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها وما ينبغي أن يقف عنده منها كما تعلمون أنتم اليوم القرآن ، ثم لقد رأيت اليوم رجالا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدرى ما آمره ولا زاجره ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه .
- وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة " متفق عليه .

وهذا المعنى تؤكده سورة الدعوة (المدثر) فمع أن المخاطبين كفار لا يؤمنون بالبعث ولا بالحساب جاءت الآيات فيها مليئة بالتذكير بيوم القيامة والتخويف بالنار : (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) .. (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا) .. (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ) .. (إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ) .

ويقع الخطأ الكبير منّا في تربيتنا لمن تحت أيدينا حين نفر من منهج القرآن إلى مناهج حادثة نُكثر فيها من استخدام مصطلحات (مستوردة) زاعمين أن رحى (التربية المؤثرة) تدور عليها ، فتارة يُنادى بما يسمى بـ (الإيجابية) وأخرى (التحفيز) وثالثة (الإقناع) وهذه كلها طرائق (حق) لو اكتفت بحيزها اللائق بها ، أما أن تُزاحِم أو تُقدَّم على منهج التربية بالوعد والوعيد والجنة والنار والقيامة والساعة والطامة والقارعة والحاقة والزلزلة ... التي امتلأت بها السور المكية فخطأ جارف وضلال يلوح ، وويحُ من ترك منهج تربية القرآن واستعاض بغيرها من تجارب البشر طلباً للطُرق (الإيجابية) فيما يزعم ، ولو أفاد منهما وجعل ذِه تبعاً لتلك لأحسن وأجمل .

ومن تأمل القرآن علم أن منهج التربية بـ "التذكير" بذكر القيامة والجنة والنار وهو خطاب "قلبي" له القدح المعلى من بين أساليب تربية القرآن ، ويليه منهج "التفكير" وهو خطاب "ذهني" ، وقد ورد في الأمر بالتفكر قريباً من ألفٍ وثلاثمائة آية في القرآن .
ومن أفصح ما نطقت به الألسنة في توضيح ذلك ما قاله الإمام الرباني الحسن البصرىّ قال : ما زال أَهل العلم يعودون بالتذكر على التفكُّر ، وبالتَّفكُّر على التَّذكُّر ، ويناطقون القلوب حتى نطقت .

وقد نبهت سورة المدثر أن أعظم سبب لإعراض المدعوين إلى الإيمان ليس هو "عدم التصديق العقلي" ـ وإن كان موجوداً ـ بل هو "العناد والاستكبار" وقد نطقت الآيات بهذا (إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا) (ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ) ، وعلاج داء كهذا لا يكون بالبرهان العقلي بل بالتخويف القلبي (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) ، وقد كان حاله قبلها ما جاء في ذلك الوصف البليغ (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ) ، وتأمل أن الله كرر ذم هذا المعرض على (تقديره) دون (تفكيره) مع أنه ذكر الحالين ، وهذا لأنه حال تقديره حال معاندٍ متحيرٍ همته في شيء واحد وهو بأي شيء يَصِم القرآن ، وتكرار (ثم) أربع مرات مفصح عن زمن معتبر استغرقه هذا الجاحد في تنقله بين هذه المراتب الأربع ، والعبوس يكون مع الغضب وأما البُسور فمع الهمّ والكمد والنكد .

- التحديات والعوائق التي حذرت منها السورة :
نبهت السورة على فتن شاءها الله بحكمته تعترض طريق الداعية والمدعو امتحاناً للناس ، وضرب سبحانه مثلا على ذلك بفتنتين :
الأولى : فتنة مال وجاه (شهوة) : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا) .
والثانية : فتنة فكر ونظر (شبهة) : في قوله تعالى (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً ..) ، فهذا العدد القليل (تسعة عشر) فتنة لصنفين من الناس (لِلَّذِينَ كَفَرُوا) و(الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) .
والداعية والمؤمنون بدعوته لا ينهمكون بحثاً عن أسباب حدوث هذا الفتن التي يمتحن الله بها عبادة بل ديدنهم التسليم المطلق لقدر الله ، فإن ظهرت لهم الحكمة من دون تكلف فرحوا بها وإلا خضعوا لسلطان الله من دون تردد ، لأن التشكك والتحير هنا من صفات غيرهم (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا) ، وكان الجواب على هذا السؤال كاشحاً كاشفاً بأنها إرادة الله وكفى من دون إطناب في التعليل (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) .

وقد نبهت سورة المدثر على أن من أعظم أسباب الفتنة اعتماد الداعية على كسب يده وحذقه وفصاحة منطقه وقوة تأثيره دون لجوئه لربه ، أي على العمل دون الفضل ، وعلى الأسباب دون الانكباب ، فقال سبحانه محذرا من هذه الحال (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ) ، فمن كان رهين كسبه (فقط) فقد هلك ، وهاك مقولاً ربانياً يجلي معنىً في غاية التأثير لهذا الاستثناء العظيم ، فعن القاسم بن محمد قال : كلّ نفس مأخوذة بكسبها من خير وشر إلاّ من اعتمد الفضل والرحمة دون الكسب والخدمة ، فكل من اعتمد على الكسب فهو رهين به ومَنْ اعتمد على الفضل فإنّه غير مأخوذ .

ومن البيّن أن السورة حين أرادت أن تعالج الفتنتين استعملت التذكير بالنار (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) ، (إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ) لأن المدعوَّ هنا بلغ مرحلة العناد (عنيدا) ، وأيضاً في (قلبه مرض) مزمن وآخر الطب الكي بالنار ، وفي غيرها من السور قد يختلف الأمر كما تقدمت الإشارة إليه في شأن سورة "فصلت" ، والتي تشترك مع سورة "المدثر" في كون رحى آياتها تدور حول الدعوة ، ولكنها تختلف عنها في أسلوبها لاختلاف حال المدعُوّين .

- بقي السؤال .. كيف يقيس الداعية نجاح دعوته من خلال السورة ؟ أي هل يتحقق هذا الركن بحصول التذكرة .. أم بشيء آخر ؟
والجواب : أن الميزان ليس هو حصول التذكرة فهذا أمره إلى الله (وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) ، ولكنه" إيصال التذكرة على وجهها المشروع" ولذا وصف كتابه بقوله (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) .
فإن أوصل الداعية دعوته وفق منهج القرآن وسنة سيد الأنام صلى الله عليه وسلم واستفرغ الوسع في تحبيب الناس بها وسلك كل سبيل مباح لتحقيق هذه الغاية لكنهم مع هذا أعرضوا عنها ؛ فلا يكترث بهم ولا لهم فقد ضرب الله مثلا عجيبا لحالهم وهو آخر أمثال القرآن وهو مثل "الحُمُر" (فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) ، فكل من أعرض عن هذا القرآن فهو في حقيقته واحد من هذه "الحُمُر" بحكم ربه عليه ، وليس هو أيّ واحد منها ، لا .. بل هو نوع خاص منها فقد عقله من شدة خوفه على حياته ، فخيل لنفسك وكأنك تراها في حالها تلك فما الذي أنت راءٍ ؟!
إن تصور حال المشبه به وهي الحمير الفارّة المذعورة ، وأن الله هو من شبه المعرض عن التذكر بالقرآن بذلك ؛ سيحرك النفس الشريفة للبعد عن كل أوجه الشبه بهذه الحال المخزية .

هذا مَثَل من أعرض ، أما من سار على هدى هذه السورة المُنيفة ، وامتثل صفاتها ، واتبع أسلوبها ، وتجنب محاذيرها ، وكرر بين الفينة عرض دعوته على آياتها ، وتصحيح ما خالف منهجها وأمرها ونهيها ، فثمرتها ما ختم الله به عظيمَ آياتها ، وهي البشرى له ولمن أجاب دعوته بأنه سبحانه معهم (هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) .

رزقنا الله جميعا الدعوة على منهاج النبوة
وجعل هذه السّور الأربعة العظام حجة لنا لا علينا
..........
وللموضوع تتمة عن الركن الثالث من "أركان تربية القرآن" إن يسر الله وأعان ،،