أربع من أمر الجاهلية
الشيخ عبدالرحمن بن ناصر آل شبنان المعاوي
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله….
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا(
وبعد يا عباد الله:
روى مسلم في صحيحه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن؛ الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة"
هذا حبيبنا يحذرنا من أعمالٍ جاهليةٍ ليست من الإسلام في شيء، بل ربما أوصلت صاحبها إلى الكفر والجحود نسأل الله السلامة والعافية...
أربعٌ من خصال الجاهلية لن يتركها من أمة محمد إلا من وفقه الله واهتدى بهدي رسول الله...
أولها: الفخر بالأحساب: وهو التعاظم على الناس بالآباء ومآثرهم ومكانتهم وذلك جهل عظيم، إذ لا شرف إلا بالتقوى، كما قال تعالى )إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) وقال) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى )
وقال "إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وفخرها بالآباء، وإنما هو مؤمن تقي، أو فاجر شقي، الناس بنو آدم وآدم من تراب"
وإذا كان فخر الإِنسان بعمله منهي عنه، فكيف بافتخاره بعمل غيره ؟ !يبغض الله المسلم حين يدلي بعمله أو يفتخر به، وهو عمله وكدُّه، فكيف إذا كان الفخر بعمل من مات من الآباء والأجداد...
ثاني الأعمال التي حذر منها : الطعن في الأنساب: وهو الوقوع بالذم والتنقص، كأن يقول: آل فلان ليس نسبهم جيدًا ذمًا وقدحًا لهم ...
وفي صحيح البخاري أن أبا ذر -رضي الله عنه- سبَّ رجلاً وعيَّره بأمه، فغضب عليه النبي وقال " إنـك امرؤ فيك جاهلية" .
ولو تأملت يا عبد الله كتاب الله ما وجدت فيه آية واحدة يُمدح فيها أحد بنسبه، ولا يُذم أحد بنسبه؛ وإنما يُمدح بالإِيمان والتقوى، ويذم بالكفر والفسوق والعصيان، فَلمَ تتفاخر بنسبك وتطعن في نسب غيرك وأنت في الأصل لا حول لك ولا قوة في اختيار نسبك، ولو تمعنّا كلنا في أصل خِلْقتنا لعلمنا حقيقتنا ومآلنا كما قال ربنا ( كَلَّا ۖ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ )
هذا التابعي الجليل مطرف بن الشخير رحمه الله رأى القائد المهلَّب بن أبي صفرة يتبختر في مطرفِ خزٍّ وجبة خزٍّ فقال له : يا عبد الله ، ما هذه المشية التي يبغضها الله ؟ فقال له : أتعرفني ؟ قال : نعم ، أولك نطفة مذرة ، وآخرك جيفة قذرة ، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة . فمضى المهلب وترك مشيته...
عجبتُ من مُعجبٍ بصورته وكان في الأصل نطفة مذره
وهو غداً بعد حُسن صورته يصير في اللحد جيفة قذره
وهو على تيههِ ونخوته ما بين ثوبيه يحمل العذره
فاحفظوا الألسن يا عباد الله عن كل ما يشين، واحمدوا المنعم المتفضل، واعرفوا قدر النعم المسداة، ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه، وانشغل بما يصلح أمره، وأحسن بين الخلْق خُلُقه، وعمل لما يصلح آخرته...
اللهم يا أرحم الراحمين اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها سواك ........
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمد الشاكرين، أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ومصطفاه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اجتباه ثم أما بعد:
عباد الله:
الثالث من الخصال المذمومة: الاستسقاء بالنجوم: وذلك بنسبة السقيا ونزول المطر إلى النجوم والأنواء، بأن يقول الرجل: مُطرنا بسبب نوء أو نجم كذا وكذا. وتفصيل ذلك:
أن من يعتقد أن النجم هو المُنزِّل للمطر، فذلك شرك أكبر. وإن اعتقد أنّ النجم سبب في نزول المطر، مع اعتقاد أن الله هو الفاعل؛ فذلك شرك أصغر.
أما من قال: مطرنا في نوء كذا أو في وسم كذا وكذا أو في شهر كذا فلا بأس بذلك.
يدل على هذا ما جاء في صحيح البخاري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلَّى بأصحابه صلاة الفجر في الحديبية عقب مطر كان في تلك الليلة، فالتفت على أصحابه بوجهه الشريف، وألقى عليهم سؤالاً بصيغة الاستفهام؛ ليكون أوقع في النفس وأبلغ في الفهم فقال عليه الصلاة والسلام: "أتدرون ماذا قال ربكم؟" فقال أصحابه: الله ورسوله أعلم، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأمَّا مَن قال : مُطِرْنا بفضلِ اللهِ ورحمتِه فذلك مؤمنٌ بي كافرٌ بالكواكبِ فأمَّا مَن قال : مُطِرْنا بنَوْءِ كذا وكذا فذلك كافرٌ بي مؤمنٌ بالكواكبِ "
وفي هذا الحديث العظيم الذي يصحح التوحيد في قلوب العباد بيَّن فيه -صلى الله عليه وسلم- انقسام الناس إلى مؤمن وكافر: فمن نسب المطر إلى الله -سبحانه- وأضافه إليه، من غير استحقاق من العبد على ربه وشكر الله على هذه النعمة، وأثنى به عليه فقال: مُطرنا بفضل الله ورحمته، فهذا مؤمن بالله، كافر بالكواكب.
ومن نسب المطر إلى النوء وأضافه إليه، قال: مطرنـا بنوء كذا وكذا، فهذا كافر بالله مؤمن بالكواكب.
وها نحن يا عباد الله في هذه الأيام نرى ونسمع بأخبار هذا الغيث المدرار على بلادنا، وكلنا فرح واستبشار أن يزيدنا أرحم الراحمين ولا ينقصنا، بينما تضيق صدور الموحدين من كلامٍ يُتَناقل بين الفينة والأخرى أن هذه الأمطار ما هي إلا نتيجة لاستمطار السحب الذي يصنعه الآدميون، والحق يا عباد الله أنَّ الله تعالى هو الرازق المغيث الذي ينزِّل الغيث متى شاء وكيف شاء، هذا مما اختص به سبحانه وحده،
( إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) هذه مفاتح الغيب الخمس التي اختص الله تعالى بعلمها كما قال سبحانه ( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ )
وهذه أسباب وتجارب تصيب وتفشل، ربما دخلت على السحب المتراكمة تريد استحلاب ما فيها من الماء فتفرقها، وربما دخلت عليها فإن أراد الله لعباده غوثاً أغاثهم، وإن لم يرد سبحانه فو الذي نفسي بيده لو اجتمع الخلق كلهم على أن ينزلوا قطرة واحدة ما استطاعوا...
فعلقوا قلوبكم يا عباد الله بالله، اعلموا علم يقينٍ لا يخالط قلوبكم فيه شك أن ما بكم من نعمة فمن الله، انسبوها لله الواحد الأحد القادر وخلِّصوا ألسنتكم وقلوبكم من كل شائبة..
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ۚ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ )
ولعل الله أن ييسر لقاءً آخر نتدارس فيه الأمر الرابع الذي حذرنا منه المصطفى وهو النياحة على الميت...
وقانا الله وإياكم كل بلاء، وأعاذنا من شر نفوسنا وألسنتنا وهو السميع العليم...
المرفقات
1767098449_أربع من أمر الجاهلية.docx