أَرْبَعٌ تُقابِلُ أَرْبَعَاً ( الجمعة 1441/12/24هـ )

يوسف العوض
1441/12/21 - 2020/08/11 14:43PM
الْخُطْبَةُ الْأُولَى 
 
إنَّ الحمّدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه  ونعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفسِنا وَمَن سيئاتِ أعمالِنا  مِن يهدِ اللهُ فَلَا مضلَّ لَه وَمَن يضللْ فَلَا هَادِيَ لهُ وأشهدُ أنَّ لَا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لَا شريكَ لهُ  وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه أرسلَه بِالْهُدَى ودينِ الحقِ ليظهرَه عَلَى الدينِ كلِّه وَكَفَى باللهِ شهيداً صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلهِ وأصحابِه وسلّمَ تسيلماً كثيراً . . .
 
أيُّها المُسلمون : روىَ النَّسائي وأبو داوود عن عبدِ اللهِ بن عمرَ رضي اللهُ عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم : (( منِ استعاذَكم باللهِ فَأَعِيذُوه وَمَن سألكمْ باللهِ فأعطوهُ وَمَن دعاكمْ فأجيبوهُ وَمَنْ أَتَى إلَيْكُمْ معروفًا فكافِئوه فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَادْعُوا لهُ حَتَّى تَعْلَمُوا أَنْ قَدْ كافأتموهُ )) صحَّحَه الأَلبَاني حَثَّ صلَّى الله عليه وسلَّم على كُلِّ خُلقٍ طيِّب، كالمُساعدةِ والبَذلِ والعطاءِ وشُكرِ المعروفِ ، ومِن ذلك ما جاءَ في هذا الحَديثِ ، حيثُ يَقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "مَنِ اسْتَعاذَكم باللهِ فأَعِيذُوه" أي: مَنْ طَلَب مِنْكم وسأَلَكم باللهِ أنْ تُعِينوه على ما وقَعَ بِه مِنَ الشَّرِّ والأذى ، فقدِّموا له كُلَّ العونِ والمساعدةِ "ومَنْ سألَكم باللهِ فأَعْطُوه" أي: ومَن طَلَب مِنْكم العطاءَ لوَجْهِ اللهِ وهو مُحتاجٌ فأَعْطُوه ؛ تَعظيمًا للهِ الَّذي سألَكُم بِه ، بقَدْرِ اسْتِطاعتِكم دونَ مَشقَّةٍ عليكم وليس في هذا أَمْرٌ لإعطاءِ مَنْ يسأَلُ تَكثُّرًا وطَمَعًا "ومَنْ دعاكم فأَجِيبوه" أي: إلى وَلِيمةٍ وطعامٍ وما أَشْبَهَ ذلك فلَبُّوا دَعْوتَه ، "ومَنْ أَتى إليكُم" أي: صَنَعَ لكُمْ "معروفًا" أي: خيرًا "فكافِئوه" أي: فجازُوه على مَعروفِه بما يُساويه أو بما يَزيدُ كما قال تَعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} "فإنْ لَمْ تَجِدوا" أي: ما تُكافِئُوه بِه على ما فَعَل مِنْ مَعروفٍ "فادْعُوا له حتَّى تَعْلَموا أنْ قَدْ كافَأتُموه" أي: اجْتَهِدوا في الدُّعاءِ له حتَّى يَصِلَ الظَّنُّ في الدُّعاءِ أنَّه قَد وُفِّيَ حَقَّه ، وكلُّ هذا مُرْتَبِطٌ بالقُدْرةِ والاسْتِطاعةِ وعدمِ الإعانةِ على الإثْمِ.
 
أيُّها الْمُسْلِمُون : الإعترافُ بِالْفَضْلِ مِنْهُ ماكان مِنْ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ ، وَهَذَا أَعْظَمُ الِاعْتِرَافِ بِالْفَضْلِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْن وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) ، وَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَمْلَأَ قَلْبَه بشعورِ الشُّكْرِ وَالاِمْتِنَانِ وَيُكْثِرُ مِنْ الِاعْتِرَافِ بِالْفَضْل لِصَاحِب الْإِحْسَان ، وَذَلِك بِالْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ وَاللِّسَانِ ، لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ  رَضِيَ اللَّهُ عنه أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ حِين يُسَلِّم : (( لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ لَهُ الْمُلْكُ وَالْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، لاَحَوْل وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَلَا نَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ ، لَهُ النِّعْمَةُ ، وَلَهُ الْفَضْلُ ، وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ )) و قَال : ((كَان يُهَلِّل بِهَا رَسُولُ اللَّهِ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ))
 
وَمِنْهُ مَا كَانَ مِنْ الْعَبْدِ لِلْعَبْد ، وَهُوَ عَلَى دَرَجَاتٍ بِحَسَب دَرَجَةِ الْمُتَفَضِّلِ عَلَيْك ، وَقُرْبِه مِنْك ، مِنْ ذَلِكَ فَضْلُ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الولدِ مثلاً ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ((وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا )) .
 
أيُّها الْمُسْلِمُون : وَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأُسْوَةَ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَحْوَال ، فَهَذِه مَشَاهَدُ رَائِعَةٌ وَمَوَاقِفُ مَاتعةٌ مِنَ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ العطرةِ  تُدلِّل لِلاعْتِرَافِ بِالْفَضْل ، وتحثُّ النَّاسَ عَلَيْهِ ،  نَذكرُ مِنْهَا على سَبِيلِ الْمِثَالِ لَا الْحَصْر مَا كان  فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ ، وَمِنْهَا مَا كَانَ فِي مُقَابَلَةِ الْأَصْحَابِ بَلْ وَصَلَ الْأَمْرُ حَتَّى مَعَ الْأَعْدَاءِ مِنْ الْكُفَّارِ فصلِّ اللهُ عَلَى الْمُصْطَفَى الْمُخْتَارِ . .
 
فَقَدْ اعْتَرَفَ النَّبِيُّ بِفَضْلِ زَوْجتِه خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ فِي حَيَاتِهَا ، وَحَتَّى بَعْد مَمَاتِهَا ، فَكَانَ يُكْثِرُ مِنَ ذِكْرِهَا وشُكرِها  وَالِاسْتِغْفَارِ لَهَا ، وَيَقُول : أَنَّهَا كَانَتْ وَكَانَت ، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ فَقَطَّعَهَا ثُمَّ أَرْسَلَهَا فِي صدائقَ خَدِيجَةَ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها قالت : (( اسْتَأْذَنَتْ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ أُخْتُ خَدِيجَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ فَعَرَفَ اسْتِئْذَانَ خَدِيجَةَ ، فَارْتَاعَ لِذَلِكَ وَقَالَ : اللَّهُمَّ هَالَةَ ، قَالَت : فَغِرْتُ ، وَقُلْتُ مَا تَذْكُرُ مِنْ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ حَمْرَاءَ الشِّدْقَيْنِ ، قَدْ هَلَكَتْ فِي الدَّهْرِ ، قَد أبدلَك اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا ، فَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ مَا كُنْت أَرَاهُ إلَّا عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ أَوْ عِنْدَ الْمَخِيلَة - السَّحَابَة -  فَقَال : مَا أَبْدِلْنِي اللَّهُ عزوجل خَيْرًا مِنْهَا ، قَدْ آمَنْتُ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ وصدَّقتنِي إذ كَذَّبَنِي النَّاسُ ، وواستني بِمَالِهَا إذ حَرَمَنِي النَّاسُ ، ورزقني اللَّهُ وَلَدَهَا إذ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّساءِ )) فَقَالَتْ عَائِشَةُ : (( والذي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا أَذْكُرُهَا إلَّا بِخَيْرٍ  )) . .
 
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْفَظُ الْجَمِيلَ لِأَصْحَابِه ، و يَعْتَرِفُ بِالْفَضْلِ لِأَهْلِه ، إذ ثَمَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُهدَ جَمِيعِ أَصْحَابِهِ الْمُهَاجِرِينَ مِنْهُمْ وَالْأَنْصَارِ ، فَقَدْ رَوَى أَبُو داوود وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( لَا تسبّوا أَصْحَابِي ، لَا تسبّوا أَصْحَابِي فَوالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ )) .
 
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى حِفْظِهِ الْجَمِيلَ حَتَّى لِلْكافرِ ، مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ بْنِ عَدِيّ رَضِيَ اللَّهُ عنه أَنَّهُ قَالَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قَالَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ :  (( لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيّ حَيًّا ، ثُمّ كَلَّمَنِي في  هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لتركتُهم له  )) وَهَذَا الْحَدِيثُ يُشِيرُ إلَى اعْتِرَافِ النَّبِيّ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بجميله لِمَا أَدْخَلَهُ فِي جِوَارِهِ بَعْدَ أَنْ رَدَّهُ أَهْلُ الطَّائِفِ . .
  
اللَّهُمّ اهدنا لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ ، لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إلَّا أَنْتَ ، وَاصْرِف عنِّا سيِّئها ، لَا يَصْرَفُ عنِّا سيِّئها إلَّا أنتَ  .
 
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ 
 
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِهِ الْأَمِين ، نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ خَيْرِ خَلقِ اللَّهِ أَجْمَعِينَ
وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الْغُرِّ الْمَيَامِينِ ، وَعَلَى التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ . . أَمَّا بَعْدُ :
 
أيُّها الْمُسْلِمُون : جاء مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسَّلامُ (( لَا يَشْــــكُرُ اللهَ مَن لَا يَشْــــــكُرُ النَّاسَ )) رواه أبوداود وصحَّحه الألباني .
 
فعَلَّمنا النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ الحَمدَ والشُّكرَ للهِ تعالى يكونُ في كلِّ شيءٍ ، وعلى كلِّ حالٍ ، ومِن لوازمِ شُكرِ اللهِ عزَّ وجلَّ أنْ يَشكُر الإنسانُ غيرَه إذا قَدَّم إليه معروفًا ، وفي هذا الحَديثِ يقولُ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم :(( لا يَشكُرُ اللهَ مَن لا يَشكُرُ النَّاس ))  أي: لا يَقْبلُ اللهُ تَعالى شُكرًا مِن عبْدِه الَّذي أحسَنَ إليه ، إذا كان هذا العبْدُ ممَّن يَنْسى المعروفَ الذي قدَّمه إليه أحدٌ مِن النَّاسِ ويَكفُرُ نِعَمَهم ، ولا يَشْكُرُهم عليها ، وذلك لاتِّصالِ الأمرَينِ ببعْضِهم .
 
فاللَّهُمّ أَرِنَا الْحَقَّ حقاً وَارْزُقْنَا اتِّبَاعَه وَأَرِنَا الْبَاطِلَ باطلاً وَارْزُقْنَا اجْتِنَابَه ..
المشاهدات 1306 | التعليقات 0