أربع إن كن فيك فلا عليك (3) طيب مطعم
عبدالله البرح - عضو الفريق العلمي
اقتباس
ولا يبلغ العبد مبتغاه من قيامة بعبادة مولاه؛ إلا بتركه أكل الحرام.. قال وهب بن الورد -رحمه الله-: "لو قمتَ قيام السارية ما نفعك حتى تنظر ما يدخل بطنك أحلال.. لنحرص كل الحرص على تحري الحلال في مأكلنا ومشربنا وملبسنا حتى ننعم في ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71]، أما بعد:
أيها المسلمون: إن دين الإسلام هو دين الفضائل والقيم؛ فما من خُلق حميد إلا ودلنا عليه ولا خصلة حميدة إلا وأرشدنا للزومها؛ ألا وإن من أعظم خصال الخير الجامعة للفضائل؛ ما جاء في حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " أربعٌ إذا كنَّ فيك فلا عليك ما فاتَك من الدُّنيا حفظُ أمانةٍ، وَصِدْقُ حديثٍ، وحُسنُ خلقٍ، وعفَّةٌ في طُعمة"؛ والمعنى أي؛ "لا بأْسَ بما يَضيعُ من الدُّنْيا من مُتعٍ، إنْ كان المُسْلمُ بتلك الصفاتِ"، ويَحْتمِلُ: "أنه لا بأْسَ بما يفوتُ من الدُّنْيا إذا كان الفائِتُ منها ما يترتَّبُ من معاملاتٍ بتلك الخِصالِ".
عباد الله: إنها خصال حميدة وقيم راشدة وغنائم باردة؛ فيا سعادة من جسدها في حياته، وكان من أهلها؛ وتعالوا لنقف في هذا المقام مع الخصلة الثالثة التي أشار إليها خير الأنام -عليه الصلاة والسلام-؛ قوله: "وطيب مطعم"؛ والمراد بطيب المطعم معان عدة:
المعنى الأول: أن يتحرى العبد في مطعمه ومشربه الطيبات التي أباحها رب البريات؛ فلا يأكل أو يشرب؛ إلا مما أحله الله -تعالى-؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)[البقرة: 172]؛ يقول الشوكاني -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: "كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ هَذَا تَأْكِيدٌ لِلْأَمْرِ الأول، أعني قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَإِنَّمَا خَصَّ الْمُؤْمِنِينَ هُنَا لِكَوْنِهِمْ أَفْضَلَ أَنْوَاعِ النَّاسِ".
ويقول السعدي -رحمه الله-: "هذا أمر للمؤمنين خاصة، بعد الأمر العام، وذلك أنهم هم المنتفعون على الحقيقة بالأوامر والنواهي، بسبب إيمانهم؛ فأمرهم بأكل الطيبات من الرزق، والشكر لله على إنعامه، باستعمالها بطاعته، والتقوي بها على ما يوصل إليه؛ فأمرهم بما أمر به المرسلين في قوله: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)[المؤمنون: 51].
وأما المعنى الثاني لطيب المطعم: أن يكون كسب المؤمن حلالا؛ فالله -تعالى- طيب لا يقبل إلا طيبا، وقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: "إنَّ اللهَ طيِّبٌ لا يقبلُ إلِّا طيِّبًا"؛ يقول ابن دقيق العيد -رحمه الله- في شرح هذا الحديث: "وهذا الحديث أحد الأحاديث التي عليها قواعد الإسلام، ومباني الأحكام، وفيه الحث على أنه ينبغي أن يكون المأكول والمشروب والملبوس ونحوها حلالًا خالصًا لا شبهة فيه.
وإن من رحمة الله بعباده وعظيم آلائه عليهم؛ أن وسع لهم طرق الحلال ويسر سبلها؛ (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ)[الأعراف: 10]؛ "أي؛ "هيأنا لكم وذللنا ما يخرج من الأشجار والنبات، ومعادن الأرض، وأنواع الصنائع والتجارات؛ فإنه هو الذي هيأها، وسخر أسبابها".
وقد تظافرت الأدلة على فضل الكسب الحلال والسعي في الأرض؛ فجعل -سبحانه- سعي العبد في الكسب الحلال من الجهاد في سبيله؛ فقال: (يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)[المزمل: 20]؛ فقرن ربنا -سبحانه- بين المجاهدين في سبيله، وبين الساعين في أرضه يبتغون من فضله.
والسعي في الكسب الحلال من أجل العبادات وأشرفها؛ روي عن عيسى -عليه السلام-: أنه رأى رجلاً فقال: "ما تصنع؟ قال: أتعبد، قال: ومن يعولك؟ قال: أخي، قال: وأين أخوك؟ قال: في مزرعة، قال: أخوك أعبد لله منك".
وجاء عن نبي الهدى -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما أكل أحد طعاماً خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود -عليه السلام- كان يأكل من عمل يده"(رواه البخاري).
وقال بعض السلف: "إن من الذنوب ذنوباً لا يكفرها إلا الهم في طلب المعيشة".
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم؛ أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
عباد الله: حتى ننعم بالبركة والهناء في طعامنا ومشربنا علينا أن نسلك الأسباب الشرعية والكونية في طلب الرزق والسعي في تحصيله؛ فمن تلك الأسباب:
أداء العبادات والقيام بالفرائض والواجبات؛ كما في حديث عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ اللَّهَ -تعالى- يقولُ يا ابنَ آدمَ: تفرَّغْ لعبادتي أملأْ صدرَكَ غنًى وأسدَّ فقرَكَ وإن لا تفعَل ملأتُ يديْكَ شغلاً، ولم أسدَّ فقرَكَ".
ولا يبلغ العبد مبتغاه من قيامة بعبادة مولاه؛ إلا بتركه أكل الحرام؛ لأنه يبطل العبادة ويضيع ثوابها؛ جاء عن ابن عبّاس-رضي اللّه عنهما- قال: "لا يقبل اللّه صلاة امرئ في جوفه حرام"، ونقل عن الإمام الغزالي -رحمه الله-: "العبادات كلها ضائعة مع أكل الحرام، وإن أكل الحلال هو أساس العبادات كلها"، وقال وهب بن الورد -رحمه الله-: "لو قمتَ قيام السارية ما نفعك حتى تنظر ما يدخل بطنك أحلال أم حرام".
وروي عن يوسف بن أسباط -رحمه الله- أنه قال: "إذا رأى الشيطان العبد يقبل على العبادة قال الشيطان لأعوانه: "انظروا من أين مطعمه؟ فإن كان مطعم سوء، قال: "دعوه يتعب ويجتهد فقد كفاكم نفسه، إن جهاده مع أكل الحرام لا ينفعه".
إذا حججتَ بمالٍ أصلهُ دنسٌ *** فما حججتَ ولكنْ حَجَّتِ العِيرُ
لا يقبلُ الله إلاّ كلَّ طَيِّبَة *** ما كلُّ مَنْ حَجَّ بيتَ الله مَبْرُورُ
ومن الأسباب الشرعية في طلب الرزق الحلال: التوكل على الله؛ روى الإمام أحمد -رحمه الله- بسند صحيح قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً".
ومن الأسباب: الاستغفار والتوبة إلى الله، يقول -سبحانه-: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً)[نوح:10-12].
ومنها: صلة الأرحام؛ كما صح عن خير الأنام -عليه الصلاة والسلام-: "مَن أحبَّ أن يبسُطَ لَه في رزقِه، ويُنسَأَ لَه في أثَرِه، فليَصِلْ رَحِمَهُ"(رواه البخاري).
ومنها: التبكير في السعي في الأرض وطلب الرزق؛ ويؤيد ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اللهمَّ بارِكْ لِأُمَّتي في بُكُورِها. وكان إذا بعثَ سَرِيَّةً أوْ جَيْشًا بعثَهُمْ من أولِ النَّهارِ. وكان صَخْرٌ تَاجِرًا، فكَانَ يَبْعَثُ تِجَارَتَهُ من أولِ النَّهارِ؛ فَأَثْرَى وكَثُرَ مالُهُ".
أيها المسلمون: لنحرص كل الحرص على تحري الحلال في مأكلنا ومشربنا وملبسنا حتى ننعم في الدنيا بالعافية ونفوز يوم لقاء الله بجنة عالية، ولنحذر من أكل الحرام فعاقبته وخيمة وآثاره أليمة على النفس والدين والذرية؛ نسأل الله أن يكفينا بحلاله عن حرامه وبفضله عمن سواه.
وصلوا وسلموا على البشير النذير؛ حيث أمركم بذلك العليم الخبير؛ فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين.
اللهم ألف بين قلوب المسلمين، واجمع كلمتهم على الحق والدين