أربع إن كن فيك فلا عليك (2) صدق حديث

عناصر الخطبة:
1/حقيقة صدق الحديث وأهميته وبعض صوره 2/ثمار الصدق ومكاسبه في الدنيا والآخرة 3/نماذج من أقوال السلف في الصدق.
 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الكبير المتعال الذي أمر عباده بالصدق في النوايا والأفعال والأقوال، وأشهد أن لا إله إلا الله المؤمن؛ وعد المتحلين بالصدق بالجنة يوم المآل؛ حيث قال -رب العزة والجلال-: (هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[المائدة:119]، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أصدق من حدَّث وقال؛ -صلى الله عليه وعلى أصحابه خير صحبٍ وآل-.

 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71]، أما بعد:

 

أيها المسلمون: إن دين الإسلام هو دين الفضائل والقيم؛ فما من خُلق حميد إلا ودلنا عليه ولا خُلق مذموم إلا وحذرنا منه؛ ألا وإن من أعظم خصال الخير الجامعة للفضائل؛ ما جاء في حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " أربعٌ إذا كنَّ فيك فلا عليك ما فاتَك من الدُّنيا حفظُ أمانةٍ، وَصِدْقُ حديثٍ، وحُسنُ خلقٍ، وعفَّةٌ في طُعمة"؛ والمعنى أي؛ "لا بأْسَ بما يَضيعُ من الدُّنْيا من مُتعٍ، إنْ كان المُسْلمُ بتلك الصفاتِ"، ويَحْتمِلُ: "أنه لا بأْسَ بما يفوتُ من الدُّنْيا إذا كان الفائِتُ منها ما يترتَّبُ من معاملاتٍ بتلك الخِصالِ".

 

عباد الله: إنها خصال حميدة وغنائم باردة فيا سعادة من تمسك بها وجسدها في حياته؛ وتعالوا لنقف في مقامنا هذا مع الخصلة الثانية التي أشار إليها الصادق المصدوق -صلوات ربي وسلامه عليه-؛ قوله: "وصدق حديث"؛ والمراد بصدق الحديث ومعناه نجده في تعريف أهل العلم حيث قالوا: "هو الخبر عن الشيء على ما هو به، وهو نقيض الكذب".

 

وللصدق منزلة عظيمة وأهمية كبيرة؛ فبه تبرم العهود وتتحقق الوعود وبه توثق الأخبار والتواريخ وتحفظ الأمانات والحقوق وتقوم به الشهادات وتسمو به المجتمعات وتقوى روابط الصلة والمودات وهو شرط لصحة الإيمان وعلامة على اكتماله؛ وبه فُضِل اللسان على سائر الجوارح بأن أنطقه شهادة الحق وكلمة التوحيد؛ وحسب الصدق أهمية أن الله -تبارك وتعالى- أوصى به عباده المؤمنين وأمرهم بأن يكونوا مع أهل الصدق؛ فقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة: 119]؛ يقول السعدي -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: أي؛ "كونوا مع الصادقين في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، الذين أقوالهم صدق، وأعمالهم، وأحوالهم لا تكون إلا صدقا خلية من الكسل والفتور، سالمة من المقاصد السيئة، مشتملة على الإخلاص والنية الصالحة، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة".

 

وما أجمل ما قاله شيخ الإسلام ابن القيم -رحمه الله- في الصدق؛ "إنه منزلة القوم الأعظم الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين، والطريق الأقوم الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين، وبه تميَّز أهل النفاق من أهل الإيمان، وسكان الجنان من أهل النيران، وهو سيف الله في أرضه، الذي ما وُضع على شيء إلا قطعه، ولا واجه باطلًا إلا أرداه وصرعه، من صال به لم تردَّ صولته، ومن نطق به علت على الخصوم كلمته، فهو روح الأعمال، ومحكُّ الأحوال، والحامل على اقتحام الأهوال، والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال، وهو أساس بناء الدين، وعمود فسطاط اليقين، ودرجته تالية لدرجة النبوة، التي هي أرفع درجات العالمين، ومن مساكنهم في الجنات: تجري العيون والأنهار إلى مساكن الصديقين، كما كان من قلوبهم إلى قلوبهم في هذه الدار مدد متصل ومعين".

 

وصدق الشاعر الواسطي حين قال:

الصدق يعقد فوق رأ  *** س حليفه بالصدق تاجا

والصدق يقدح زنده  ***  في كل ناحية سراجا

 

ويكون صدق الحديث بين العبد وبين ربه ومولاه؛ بالصدق في شهادة التوحيد وذكر الكريم المجيد، وبصدق المسلم مع نفسه؛ فلا يقول إلا صدقا؛ فذلك يبعث الثقة والطمأنينة، وصدقه مع الناس كافة؛ فيصدق في وعوده وعهوده وحديثه وجميع أخباره وإشاعة الكلام الطيب من النصيحة والشهادة بالحق والدعاء في سائر الأحوال والمواطن.

 

إخوة الإيمان: وبالصدق يقطف العبد الثمار الكريمة والمكاسب الرابحة في الدنيا والآخرة؛ فمن ذلك:

أنه من خِلال المكارم التي تكون في الرجل؛ جاء عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "خلال المكارم عشرة، تكون في الرجل يجعلها إليه حيث شاء، وذكرت في مقدمتها: "صدق الحديث".

 

ومن ثمار الصدق: أن صاحبه يرزق بثلاث خصال؛ يقول يوسف بن أسباط -رحمه الله-: "يرزق الصدوق ثلاث خصال: الحلاوة، والملاحة، والمهابة".

 

الصدق رفعة الدنيا والآخرة: عن عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه-: "علَيْكُم بالصِّدْقِ، فإنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يَهْدِي إلى الجَنَّةِ، وما يَزالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ ويَتَحَرّى الصِّدْقَ حتّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا"(أخرجه البخاري ومسلم).

وذكر عن لقمان أنه كان عبدا أسودا، غليظ الشفتين، مصفح القدمين، فأتاه رجل وهو في مجلس أناس يحدثهم، فقال له: ألست الذي كنت ترعى معي الغنم في مكان كذا وكذا؟ قال: نعم. قال: فما بلغ بك ما أرى؟ قال: "صدق الحديث".

 

ومن ثمار الصدق: مغفرة الذنوب ونيل الأجر العظيم؛ قال -سبحانه-: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ إلى أن قال -سبحانه-: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)[الأحزاب:35].

 

ومن ثمار الصدق وجزاء الصادقين: الفوز بجنة رب العالمين؛ يقول -تعالى-: (هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا)[المائدة:119]، (لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً)[الأحزاب:24].

 

وأعظم ثمرات الصدق وعواقبه الحميدة: نيل مرضاة رب البريات -سبحانه-؛ جاء عن بعض السلف -رحمهم الله جميعا-: "من كان الصدق وسيلته كان الرضا من الله جائزته".

 

أيها المسلمون: تحروا الصدق وتحلو به وربوا عليه أبناءكم فهو مطية إلى النجاة ومفتاح لكل خير، وهو زينة الرجل؛ وصدق الشاعر حيث قال:

الـصدق حلـو وهو الـمر *** والـصدق لا يتركه الحر                                                   

جوهرة الصدق لها زينة *** يحسدها الياقوت والدر

 

بارك الله لي ولكـم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بمـا فيه مـن الآيات والذكر الحكيم؛ أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكـم؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

 

عباد الله: سمعتم شيئا يسيرا عن خصلة الصدق التي أخبر النبي الصادق الأمين أنه لا يضر صاحبها شيء مهما فاته من حظوظ الدنيا ومتاعها؛ وقد أدرك السلف الكرام أئمة الصدق والخلال الحميدة قيمة خصلة الصدق ومكاسبها الدنيوية والأخروية؛ فسطروا في الثناء عليها أروع الأقوال وأصدقها؛ ألا وإن مما قالوه في الصدق:

قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "لا تنظروا إلى صلاة أحد ولا إلى صيامه، ولكن انظروا إلى من إذا حدث صدق، وإذا ائتمن أدى، وإذا أشفى ورع".

 

وقول طاووس -رحمه الله-: "إذا أراد الله بعبد خيرا منحه خلقا صالحا".

 

وقال أبو سليمان -رحمه الله-: "اجعل الصدق مطيتك والحق سيفك والله غاية طلبتك".

 

وقال الفضيل -رحمه الله-: "لم يتزين الناس بشيء أفضل من الصدق وطلب الحلال".

 

وقال مطر الوراق -رحمه الله-: "خصلتان إذا كانا في عبد كان سائر عمله تبعا لهما؛ حسن الصلاة، وصدق الحديث".

 

وعن عبد العزيز بن أبي رواد -رحمه الله- قال: "أبرار الآخرة: الحياء والصدق، فمن طلب الآخرة بغيرهما فقد أخطأ الطريق والمطلب".

 

أيها المسلمون: الصدق سيف الله في أرضه ما وضع على شيء إلا قطعه، والصدق در لا يتركه حر؛ فالزموا الصدق في أحاديثكم وأعمالكم ونواياكم تسعدوا، واحذروا الكذب وحذروا منه تسلموا، واعلموا أنكم بالصدق تبلغون أسمى المقامات وتجنون أطيب الثمرات، وتنالون به محبة رب البريات والفوز بنعيم الجنات. 

 

وصلوا وسلموا على البشير النذير؛ حيث أمركم بذلك العليم الخبير؛ فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

 

اللهم اجعلنا من عبادك الصادقين.

 

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين.

 

اللهم ألف بين قلوب المسلمين، واجمع كلمتهم على الحق والدين.

 

المشاهدات 1172 | التعليقات 0