أخي المسافر: انتبه أمامك محطة!

د. سلطان بن حباب الجعيد
1446/08/18 - 2025/02/17 00:57AM

الحمدُ للهِ الذي مَنَّ على عبادِهِ بمواسمَ للطَّاعاتِ، وجعلَها فُرصةً للتَّوبةِ واستدراكِ ما فات، وللعملِ والتَّسابقِ في الخيراتِ، فتَقْصُرُ عليهم بذلك المسافاتُ، في طريقِهِم إلى ربِّهِمْ، ربِّ الأرضِ والسَّماواتِ.

والصَّلاةُ والسَّلامُ، على مَنْ عَرَفَ قَدْرَ هذه النَّفَحاتِ، فقامَ بحقِّها حقَّ قيامٍ، وحثَّ الخَلْقَ على تعظيمِها واستغلالِها، حتَّى يفوزَ بالجَنَّاتِ.

أيُّها النَّاسُ، اتَّقوا اللهَ ربَّكم، كما أمرَكم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ [لقمان: ٣٣].

 


وبعد:

أخي المُسافر: انتبِهْ! أمامَك محطَّة!

لعلَّكَ استغربتَ هذا النِّداءَ…

نعم، نحنُ في هذه الدُّنيا مُسافرونَ عابرونَ، “كُنْ في الدُّنيا كأنَّك غريبٌ أو عابرُ سبيلٍ”، هذه هي حقيقةُ حالِنا التي ينبغي تذكُّرُها من حينٍ إلى آخرَ.

وسَفَرُنا هذا سفرٌ طويلٌ، مَسافتُه لا تُقاسُ بالأمتارِ والمِيَلاتِ، بل بالسِّنينِ.

سَفَرٌ مُجهدٌ ومُضنٍ، ومسيرٌ طويلٌ وشاقٌّ، تركَ أثرَهُ الكبيرَ فينا.

فذاكَ شيخٌ كبيرٌ قدِ انْحَنى ظهرُهُ، وتجَعَّدَ جلدُهُ، وهو لا يزالُ يسيرُ. وذاكَ يسيرُ وقد أمسكَ بيدِهِ أطفالًا لا يُحسنونَ السَّيرَ بدونِهِ، وباليدِ الأخرى يَمْسَحُ عن جبينِهِ ما تقاطرَ من عَرَقِهِ، في سبيلِ إطعامِهِمْ وحِياطتِهِمْ في هذا السَّفرِ الطَّويلِ. وذاكَ فقَدَ مَنْ كانَ بجوارِهِ في المسيرِ، مِنْ أخٍ، أو ابنٍ، أو زوجةٍ، أو صديقٍ، فهو يستأنفُ المسيرَ بخُطًى مُثقلةٍ، قد أنهكَها الحُزْنُ والألَمُ.

كلُّ حُزْنٍ تراهُ في وجوهِ النَّاسِ، أو تعبٍ، أو مرضٍ، أو كِبَرٍ، فهو من آثارِ هذا المسيرِ الطَّويلِ.

الجميعُ يسيرُ، راجعٌ إلى ربِّهِ وإلى وطنِهِ الأصليِّ: ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾ [العلق: ٨].

إذا ضاقتِ الدُّنيا عليكَ بأسرِها ** ولم يَكُ فيها منزلٌ لك يُعلَمُ

فحَيَّ على جنَّاتِ عدنٍ فإنَّها ** منازلُنا الأولى، وفيها المُخَيَّمُ

وكما هو معلومٌ، فلا بدَّ للمسافرِ مِنْ راحةٍ، ولا بدَّ لهُ مِنْ محطَّةٍ يتوقَّفُ عندَها، فيتزَوَّدُ، ويَلْتَقِطُ أنفاسَهُ، ويُلَمْلِمُ ذاتَهُ، ويُصْلِحُ شعثَهُ، حتَّى يُعاوِدَ مسيرَهُ بروحٍ جديدةٍ، ونَفْسٍ نشيطةٍ.

وها نحنُ - معاشرَ المسافرين - يتوقَّفُ بنا المسيرُ، وتنيخُ مطايانا عندَ محطَّةٍ عظيمةٍ، يكثرُ فيها الزَّادُ لِمَنْ أرادَ أن يتزَوَّدَ.

إنَّها محطَّةُ شهرِ رمضانَ المباركِ!

هذا الشَّهرُ العظيمُ، الذي افترضَ اللهُ صيامَهُ على عبادِهِ، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ١٨٣].

وجعلَ صيامَهُ رُكنًا مِنْ أركانِ الإسلامِ، فعنِ النَّبيِّ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - قال: “بُنِيَ الإسلامُ على خَمْسٍ: شَهادَةِ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رسولُ اللهِ، وإقامِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ، والحَجِّ، وصَومِ رمضانَ” (رواه البخاريُّ).

شهرٌ يكثرُ فيه الخيرُ، كيفَ لا؟! والشَّياطينُ فيه تُصَفَّدُ.

شهرٌ تُفتَحُ فيه أبوابُ الجنَّةِ، وتُغْلَقُ فيه أبوابُ النِّيرانِ، ويُنادي مُنادٍ: “يا باغيَ الخيرِ أقبِلْ، ويا باغيَ الشَّرِّ أقْصِرْ”.

شهرٌ فيه ليلةٌ خيرٌ مِنْ ألفِ شهرٍ، وهي ليلةُ القدرِ…

أخي المسافر…

إنَّ هذه المحطَّةَ التي مَنَحَها اللهُ لنا في مسيرِنا هذا الطَّويلِ والشَّاقِّ، وجعلَها في مَدْرَجَتِنا، وبكلِّ هذه الخِصالِ، جَديرةٌ بأنْ نعرفَ لها قَدْرَها وأهميَّتَها، وأنْ نستغلَّ التوقُّفَ عندَها خيرَ استغلالٍ.

وإنَّ أوَّلَ عملٍ يجدرُ بالمسافرِ فعلُهُ إذا توقَّفَ، أنْ يضعَ عن كاهلِهِ الأثقالَ والأحمالَ.

وأحمالُنا في رحلتِنا هذه التي أنهكَتْ كواهِلَنا وأعناقَنا، وأثقلَتْ مسيرَنا إلى ربِّنا، وأوهَنَتْ خُطانا، هي الذُّنوبُ والآثامُ، وقد وصفَها اللهُ بذلك، فقال: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [العنكبوت: ١٣].

وقالَ اللهُ تعالى: ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾[النحل: ٢٥].

والغريبُ أنَّها أحمالٌ التقطنَاها بمحضِ إرادتِنَا مِنْ على جَنَباتِ الطريقِ، فلنضَعْها إذًا كما التقطنَاها. ووضعُها يكونُ بالتَّوبةِ إلى اللهِ والاستغفارِ عمَّا سلفَ وكانَ، والنَّدمِ على ما فاتَ.

وهذا هو شهرُ التَّوبةِ وشهرُ الغفرانِ، فإنَّ اللهَ يغفرُ فيهِ للعِبَادِ ما لا يغفرُ في غيرِهِ، ففي الحديثِ الصَّحيحِ، عنْ أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: “مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ” رواه البخاريُّ.

ويا حسرةَ مَنْ مَرَّ بهذه المَحطَّةِ وخرجَ مِنْها، وهو لا يزالُ يحملُ هذه الأثقالَ على كاهلِهِ، فيا ليتَ شِعري متى يضَعُها ويتحرَّرُ منها؟

التوبةُ والاستغفارُ، من خصائصِ المتَّقينَ ومن صفاتِهِم، وشهرُ رمضانَ شهرُ التَّقوى، يقولُ اللهُ عنهم:

﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: ١٣٥].

ومنَ الأحمالِ التي نحملُها على عَوَاتِقِنا في مسيرِنا هذا الطَّويلِ والشَّاقِّ؛ الهمومُ والأحزانُ.

فما مِنَّا إلَّا ولهُ حُزنُهُ وهَمُّهُ، الذي أَقَضَّ مضجعَهُ وأطالَ سهادَهُ.

فهذا مَديونٌ، والآخرُ يرغَبُ في الوَلَدِ، وذاكَ شقيٌّ بأولادِهِ، والرابعُ أَجْهَدَهُ البحثُ عن الرِّزقِ والوظيفةِ، والخامسُ يلوكُ أحزانًا وأوجاعًا قديمةً لا تزالُ جُروحًا مفتوحةً، والسادسُ أَنْهَكَهُ الوجعُ والمرضُ، وهكذا لو ذهبتَ تَعُدُّ وتفتِّشُ كلَّ صدرٍ، ستجدُهُ قد انطوى على ما انطوى عليهِ مِنْ هَمٍّ وحُزْنٍ، أو طُموحٍ وأهدافٍ وآمالٍ يرغَبُ في تحقيقِها وحصولِها، وهذه هي طبيعةُ الحياةِ التي نسيرُ فيها: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ [البلد: ٤].

ليس بينَكَ وبينَ أنْ تضعَ هذه الأحمالَ عن كاهِلِكَ، إلَّا دَعواتُ رمضانَ الصَّادقةُ، كيف لا؟! وهو شهرُ الدُّعاءِ، يقولُ اللهُ في ثنايا آياتِ الصِّيَامِ: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة: ١٨٦].

فكم مِنْ هُمُومٍ قد فُرِّجَتْ؟!

وكم مِنْ أَوْجاعٍ شُفِيَتْ؟!

وكم مِنْ أَرْزاقٍ قُسِمَتْ؟!

وكم مِنْ آمالٍ حُقِّقَتْ؟!

وكم مِنْ ذُنُوبٍ قد غُفِرَتْ؟!

بدعواتِ الأسحارِ وأوقاتِ الإفطارِ في رمضانَ.

إنَّهُ شهرٌ يجدُ السَّائلُ فيهِ للعبادِ مُرادَهُ مِنْهُمْ، وهمُ الذين طُبِعُوا على البُخْلِ والشُّحِّ، فكيفَ بالكريمِ الغنيِّ الحميدِ، الذي لهُ مُلكُ وميراثُ السَّمواتِ والأرضِ، في شهرِهِ الكريمِ الذي يَفتحُ فيهِ أبوابَهُ لعبادِهِ؟!

إذا أنهكتْكَ هُمُومُ الحياةِ

ومَسَّكَ مِنْها عظيمُ الضَّرَرِ

وذُقتَ الأَمَرَّيْنِ حتَّى بَكَيْتَ

وضجَّ فؤادُكَ حتَّى انفَجَرْ

فيمِّمْ إلى اللهِ في لهفةٍ

وبثَّ الهُمُومَ لِرَبِّ البَشَرْ

نعم، أيُّها المسافرونَ المُنْهَكُونَ، إنَّها فُرْصَةٌ أنْ نَنْطَرِحَ بينَ يَدَيْهِ، وأنْ نَتَذَلَّلَ إليهِ، وأنْ نُناجِيَهُ، وأنْ نَشْتَكِيَ إليهِ ممَّا أصابَنَا، وأنْ نَسْأَلَهُ بإلحاحٍ وصِدْقٍ، فواللهِ إنَّهُ لا يُخَيِّبُ أَحَدًا ولا يَرُدُّ أَحَدًا.

إليهِ وإلَّا لا تُشَدُّ الرَّكائبُ

ومِنْهُ وإلَّا فالمُؤَمَّلُ خائبُ

وفيهِ وإلَّا فالرَّجاءُ مُضَيَّعٌ

وعنهُ وإلَّا فالمُحَدِّثُ كاذبُ

أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكمْ…

 


الخطبة الثانية:

أيُّها الإخوةُ المسافرونَ…

ومِنْ شأنِ المسافرِ إذا توقَّفَ، بعدَ أنْ يُنْزِلَ عن كاهِلِهِ الأحمالَ والأثقالَ، أنْ يتزوَّدَ لسَفَرِهِ، وزادُنا في هذا السَّفَرِ هو التَّقوَى، كما قالَ اللهُ وأمرَ: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة: ١٩٧].

إنَّ لشهرِ رمضانَ بالتقوى خصوصيَّةً تَصِلُ إلى أنْ جُعِلَتْ غايةُ الصِّيامِ وحِكْمَتُهُ، كما قالَ اللهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ١٨٣].

فها هيَ، أيُّها المُسافرونَ، أبوابُ الخيرِ في هذا الشَّهرِ تُفتَحُ على مِصْراعَيْها، فاللهَ اللهَ بالعملِ، ولا يَكُنْ عَمَلُكَ في رمضانَ كعَمَلِكَ في غيرِهِ، كمْ هو غَبْنٌ أنْ تَقِفَ بهذه المَحطَّةِ، فلا تتزوَّدَ مِنَ الصَّلاةِ بالحَظِّ الوافِرِ، أو مِنْ تلاوةِ القرآنِ، أو مِنَ الذِّكرِ والدُّعاءِ، أو مِنَ الصَّدقاتِ والنَّفقاتِ.

أيُّها الإخوةُ، بعدَ كُلِّ ما سَبَقَ، إنْ عَرَفْنا لهذه المَحطَّةِ قَدْرَها، واستقبلْناها بالتَّوبةِ والاستغفارِ، ثمَّ شَمَّرْنا للتَّزوُّدِ مِنْ كُلِّ عَمَلٍ صالِحٍ، أصبَحْنا جاهِزينَ لمغادرةِ المحطة، والانطلاق مُجَدَّدًا لاسْتِئْنافِ السَّيْرِ بأرواحٍ جديدةٍ، ونُفوسٍ نَشيطةٍ، ومَنْ كانَ هذا حالُهُ خَفَّ عليهِ المَسيرُ وهانَ، ويُوشِكُ أنْ يَصِلَ إلى مُرادِهِ.

أمَّا مَنْ فَرَّطَ ولمْ يَعْرِفْ لهذه المَحطَّةِ حَقَّها، خَرَجَ مِنْها كما دَخَلَ بأحمالِهِ وأثقالِهِ، وبدونِ زادٍ، تَضاعَفَتْ عليهِ المَشَقَّةُ في مَسيرِهِ، وثَقُلَتْ خُطاهُ، وزادَ عَناهُ، ويُوشِكُ أنْ يَنْقَطِعَ قبلَ أنْ يَصِلَ.

 


اللَّهُمَّ بَلِّغْنا رمضانَ،

واجعَلْنا فيهِ مِنَ الصَّائِمينَ القائِمينَ المُتَّقينَ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنا فيهِ لِكُلِّ خيرٍ، واصْرِفْ عَنَّا فيهِ كُلَّ شَرٍّ ولَهوٍ، يا ربَّ العالمينَ.

اللَّهُمَّ اغْفِرْ فيهِ ذُنوبَنا، واقبَلْ فيهِ طاعَتَنا، وفَرِّجْ فيهِ هُمومَنا، وقِنا فيهِ شَرَّ الغَفْلَةِ والمَعاصي والذُّنوبِ.

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمُسلِمينَ.

 

المشاهدات 723 | التعليقات 0