أخذُ الأُهبة واليقظة من الغفلة- خطبة عن شعبان لابن الجوزي
محمد بن عبدالله التميمي
أخذُ الأُهبة واليقظة من الغفلة
خطبة عن شعبان لابن الجوزي
الْحَمْدُ للَّهِ أَحَقُّ مَنْ شُكِرَ وَأَوْلَى مَنْ حُمِدَ، وَأَكْرَمُ مَنْ تَفَضَّلَ وَأَرْحَمُ مَنْ قُصِدَ، أَحَاطَ عِلْمًا بِالْمَعْلُومَاتِ وَحَوَاهَا، وَأَنْشَأَ الْمَخْلُوقَاتِ بِالْقُدْرَةِ وَبَنَاهَا، وَأَظْهَرَ الْحُكْمَ فِي الْمَوْجُودَاتِ إِذْ بَرَاهَا، تَعَرَّفْ إِلَى خَلْقِهِ بِالْبَرَاهِينِ الظَّاهِرَةِ، وَأَظْهَرَ فِي مَصْنُوعَاتِهِ الْعَجَائِبَ الْبَاهِرَةَ، وَتَفَرَّدَ فِي مُلْكِهِ بِالْقُدْرَةِ الْقَاهِرَةِ، وَوَعَدَ الْمُتَّقِينَ الْفَوْزَ فِي الآخِرَةِ، فَالْبُشْرَى لِلْمَوْعُودِ بما وُعِدْ.
سُبْحَانَهُ لا وَزِيرَ لَهُ وَلا شَرِيكَ مَعَهُ، نَادَى مُوسَى لَيْلَةَ الطُّورِ فَأَسْمَعَهُ، فَاعْلَمْ هَذَا وَاعْتَقِدْ، وَتَمَسَّكْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلا تَمِلْ عَنْهُمَا، وَسَلِّمْ إِلَيْهِمَا، وَتَسَلَّمِ الْعِلْمَ مِنْهُمَا، ولا تَنْطِقْ بِرَأْيِكَ وَظَنِّكَ فِيهِمَا، هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ لا تُنْقِصْ وَلا تَزِدْ. أَحْمَدُهُ حَمْدًا إِذَا قِيلَ صَعِدَ، وَأُصَلِّي عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ خَيْرِ مَوْلُودٍ وُلِدَ.
أما بعد: فَاتَّقُوا الله معشر أهل الْقُرْآن فِي كِتَابه وَأَشْفَقُوا من أَلِيم عَذَابه وَاعْمَلُوا بِالْقُرْآنِ وارغبوا فِي جزيل ثَوَابه؛ فإنَّ الْقُرْآنَ لَكُمْ، وَهُوَ عَلَيْكُم إِنْ لَمْ تَعمَلُوا بِهِ وَيْلٌ وثُبُور ﴿فَلَا تغرنكم الْحَيَاة الدُّنْيَا وَلَا يَغُرنكُمْ بِاللَّه الْغرُور﴾.
عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: «حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ رضي الله عنها: قَالَتْ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَصُومُ مِنْ شَهْرٍ مِنَ السَّنَةِ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ مِنْ شَعْبَانَ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ». أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَفِيهِمَا عنها رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَصُومُ حَتَّى نَقُولُ لا يُفْطِرُ وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لا يَصُومُ، وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلا شَهْرَ رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ». وَفِي لَفْظٍ لـمُسْلِمٌ: كَانَ يصومُه إلا قليلًا.
وعَنْها رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ حَتَّى يَصِلَهُ بِرَمَضَانَ، وَلَمْ يَكُنْ يَصُومُ شَهْرًا تَامًّا إِلا شَعْبَانَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ شَعْبَانَ لَمِنْ أَحَبِّ الشُّهُورِ إِلَيْكَ أَنْ تَصُومَهُ. فَقَالَ: «نَعَمْ يَا عَائِشَةُ، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ فِي سَنَةٍ إِلا كُتِبَ أَجَلُهَا فِي شَعْبَانَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُكْتَبَ أَجَلِي وَأَنَا فِي عِبَادَةِ رَبِّي وَعَمَلٍ صَالِحٍ».
وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْتُكَ تَصُومُ فِي شَعْبَانَ صَوْمًا لا تَصُومُهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الشُّهُورِ إِلا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، قَالَ: «ذَاكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَشَهْرِ رَمَضَانَ تُرْفَعُ فِيهِ أَعْمَالُ النَّاسِ، فَأُحِبُّ أَنْ لا يُرْفَعَ عَمَلِي إِلا وَأَنَا صَائِمٌ».
عباد الله.. اعْلَمُوا أَنَّ الأَوْقَاتَ الَّتِي يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهَا مُعَظَّمَةُ الْقَدْرِ لاشْتِغَالِ النَّاسِ بِالْعَادَاتِ وَالشَّهَوَاتِ، فَإِذَا ثَابَرَ عَلَيْهَا طَالِبُ الْفَضْلِ دَلَّ عَلَى حِرْصِهِ عَلَى الْخَيْرِ. وَلِهَذَا فُضِّلَ شُهُودُ الْفَجْرِ فِي جَمَاعَةٍ لِغَفْلَةِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ عَنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَفُضِّلَ مَا بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ، وَفُضِّلَ قِيَامُ نِصْفِ اللَّيْلِ، وَوَقْتُ السَّحَرِ. كَانَ عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ الْمُلائِيُّ إِذَا دَخَلَ شَعْبَانُ أَغْلَقَ حَانُوتَهُ وَتَفَرَّغَ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ.
عباد الله.. إِنَّ الرَّجُلَ لَيَغْرِسُ الْغَرْسَ وَيَبْنِي الْبُنْيَانَ، وَيَنْكِحُ وَيُولَدُ لَهُ، وَيَظْلِمُ وَيَفْجُرُ، وَمَا لَهُ فِي السَّمَاءِ اسْمٌ وَمَا اسْمُهُ إِلا فِي صَحِيفَةِ الْمَوْتَى إِلَى أَنْ يَأْتِيَ يَوْمُهُ الذي يُقبَضُ فيه أو لَيلَتُه. فيا أيها الْغَافِلُ تَنَبَّهْ لِرَحِيلِكَ وَمَسْرَاكَ، وَاحْذَرْ أَنْ تُسْتَلَبَ عَلَى مُوَافَقَةِ هَوَاكَ، انْتَقِلْ إِلَى الصَّلاحِ قَبْلَ أَنْ تُنْقَلَ، وَحَاسِبْ نَفْسَكَ عَلَى مَا تَقُولُ وَتَفْعَلُ، وَلا تَغْفُلْ عَنِ التَّدَارُكِ -اللَّهَ اللَّهَ لا تَفْعَلْ-.
يَا مُمْحِلا قَدْ أَجْدَبَ عامه، يَا مَقْتُولَ الْهَوَى قَدْ قَطَعَهُ حُسَامُهُ. أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الرَّامِيَ لا تَطِيشُ سِهَامُهُ، تَسَاوَى فِي الْقُبُورِ اللَّيِّنُ وَالأَحْمَسُ، وَاعْتَدَلَ فِي اللُّحُودِ النَّطُوقُ وَالأَخْرَسُ، وَرَمَى الْكُلَّ سَهْمُ الْمَنُونِ فَقَرْطَسَ، وَعَرَوا في العَرَاءِ مِنْ حُلَلِهِم فَتَمَاثَلَ الْمَلْبَس.
وَمَكَاسِبُ الدُّنْيَا وَإِنْ كَثُرَتْ فَمَا ... يَبْقَى سِوَى تَبِعَاتِهَا وَالْمَأْثَمِ
فَعَلَيْكَ بِالْفِعْلِ الْجَمِيلِ فَإِنَّهُ ... أُنْسُ الْمُقِيمِ غَدًا وَزَادُ الْمُعْدَمِ*
بارك الله لي ولكم فيما أَنْزَلَ مِنَ الهُدى والبَيِّنَات، ونَفَعَنَا بالعِظَات، وأَيْقَظَنا من الغَفَلات، وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، إنَّ ربي عَفُوٌّ رحيمٌ مُجِيْبُ الدَّعَوَات.
الخطبة الثانية
الحمدُ لِلَّهِ ذِيْ الفَضْلِ والإِنْعَام، أَشهدُ ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجلال والإكرام، وأشهدُ أنَّ مُحمَّدًا عَبْدُ اللهِ ورسولُه أَفْضَلُ مَنْ صَامَ وقَام، صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى مَنْ تَبِعَهُم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، أما بعد:
فيا عباد الله.. حقيقٌ بالمرء أن يَفْطِمَ النفسَ ويُلَهِّيها لتكونَ لما يريد من الخير منقادة، فإذا بلغ رمضان، كان بيده بعد توفيق الله الزِّمام، فليس الفِطامُ يَحْصُلُ إلا مع مَرِّ الأيام، فكذلك فِطامُ النفسِ عن المعاصي والآثام، فإنَّ ميزانَ العدلِ يومُ القيامة إذْ تَبِيْنُ فيه الذَّرَّة، فيُجزَى العبدُ على الكلمةِ والنَّظْرة، فيا مَنْ زَادُه من الخيرِ طَفِيْف، احذر فَمِيْزَانُ العَدْلِ لا يَحِيْف.
والتمرينُ قبلَ شهرِ رَمَضَانَ لا يَقْتَصِرُ على الكَفِّ عن المآكلِ والمشارب، ذلك أنَّ للصومِ حقائق، باجتنابِ البَوَائق، وسدِّ كلِّ خَلَلٍ من الطرائق، بالكفِّ عن كُلِّ مُنكَر، من مسموع ومُبْصَر، ومُتَلَفَّظٍ به ابتداءً، ولو لرده اعتداءً، قال صلى الله عليه وسلم: " إذا كانَ يَوْمُ صَوْمِ أحَدِكُمْ فلا يَرْفُثْ ولا يَصْخَبْ، فإنْ سابَّهُ أحَدٌ أوْ قاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرُؤٌ صائِمٌ" أخرجه البخاريُّ ومُسلِم.
وصلُّوا وسلِّموا كثيرا في هذا اليومِ سيدِ الأيام، على سيدِ الأنام، كما أمركم الله المَلِكُ العَلَّام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}.
* الخطبة الأولى مختصرة من كلام ابن الجوزي في التبصرة (٢/٤٧).