أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في الحج مع أمته

د مراد باخريصة
1436/12/25 - 2015/10/08 04:14AM
أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في الحج مع أمته
تحدثنا في خطبة مضت عن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم مع ربه ومع أهله ونأخذ في هذه الخطبة الأخيرة من شهر ذي الحجة أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في الحج مع أمته.
لقد علمّ النبي صلى الله عليه وسلم أمته مناسك الحج وأحكامه واختلط بالناس في حجته ليعلمهم ويقيم الحجة عليهم وأمرهم بأن يأخذوا عنه مناسك الحج لاحتمال أن تكون حجته الأخيرة.
وشمل تعليمه صلى الله عليه وسلم الكبار والصغار والرجال والنساء وحثهم جميعاً على استكمال أنساكهم وإتمام حجهم وركز صلى الله عليه وسلم في تعليمه للناس على تبيين أركان الإسلام ومنازله الكبرى وقواعده العظمى ونهاهم عن الكبائر والشركيات وعظائم الذنوب وحرمة الدماء والأموال والأعراض
وقال لهم صلى الله عليه وسلم " إنما هن أربع لا تشركوا بالله شيئاً ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تسرقوا ولا تزنوا ".
ومن تعليمه صلى الله عليه وسلم لأمته في الحج الإفتاء إذ كان صلى الله عليه وسلم يجيبيهم عن أسئلتهم ويرد على استفساراتهم وكان يبرز للناس ويظهر لهم حتى يسألونه فيجيب
يقول عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما " شهدت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم النحر فقام إليه رجل فقال حلقت قبل أن أنحر وقال الآخر نحرت قبل أن أرمي وأشباه ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم افعل ولا حرج فما سئل يؤمئذ عن شيء إلا قال افعل ولا حرج.
ورخص لرعاة الإبل أن يجمعوا رمي يومين بعد يوم النحر فيرمونه في أحدهما ورفعت إليه امرأة صبياً لها وقالت يارسول الله ألهذا حج فقال النبي صلى الله عليه وسلم نعم ولك أجر فلم يجيبها فقط وإنما أجابها ورغبها فقال لها نعم ولك أجر.
كما شمل تعليمه صلى الله عليه وسلم الوعظ والتذكير وإزالة الغشاوة والران عن القلوب حيث تعددت مواطن وعظه صلى الله عليه وسلم إذ وعظ الناس في عرفات ووعظهم في منى وفي أيام التشريق وأثناء التنقل بين المشاعر وفي طريق العودة إلى المدينة بل كان صلى الله عليه وسلم يعيد التذكير بالشيء الواحد في المواقف المتعددة ولم يقصر الوعظ على نفسه وإنما كلف عدداً من أصحابه صلى الله عليه وسلم بوعظ الناس وتذكيرهم.
يقول بشر بن سحيم بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنادي أيام التشريق (لايدخل الجنة إلا نفس مؤمنة) وكان يجمع في وعظه بين القول والفعل.
وأوصى الناس بتقوى الله والمحافظة على الصلاة ورغبهم في حسن الخلق وبر الوالدين وصلة الرحم
يقول صلى الله عليه وسلم " اتقوا ربكم وصلوا خمسكم وصوموا شهركم وأدوا زكاة أموالكم وأطيعوا ذا أمركم تدخلوا جنة ربكم " وقال " أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك أدناك " وقال صلى الله عليه وسلم " من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه " وقال: " أتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله وإنما هن عوان عندكم".
كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بالإتباع والانقياد وحذرهم من إتباع الهوى والابتداع فقال لهم " لتأخذوا عني مناسككم " وقال لهم " تركت فيكم مالن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله وقال لهم إني فرطكم على الحوض وأكاثر بكم الأمم فلا تسودوا وجهي.
كما حث أمته على توحيد الكلمة وجمع القلوب ورص الصفوف وحذرها من الفتن ودواعي الافتراق فقال لهم " إن ربكم واحد وأباكم واحد ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أحمر ولا أحمر على أسود إلا بالتقوى
وحذر صلى الله عليه وسلم أمته من الاستجابة لإغراء الشيطان وتهيج بعضهم على بعض فقال " إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن رضي في التحريش بينهم
ونهاهم عن أسباب الفرقة ودواعي الاقتتال فقال لبعض أصحابه استنصت الناس فلما أنصتوا قال لهم لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض.
وحذر أمته من فتنة الدجال – أعظم فتنة في الأرض – وقال لهم إنه يخرج فيكم إن ربكم ليس بأعور وإنه أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافية.
عباد الله: لقد حج مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجته أكثر من مائة ألف نفس ومع ذلك أثر فيهم صلى الله عليه وسلم جميعاً ووجههم أحسن توجيه وقادهم أعظم قيادة إذ جعل صلى الله عليه وسلم من نفسه قدوة حسنة لهم فكان لا يأمرهم بشيء إلا ويسبقهم عليه حتى أنه قال لهم " إن دماء الجاهلية موضوعة وأول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع.
وكان صلى الله عليه وسلم يأمر الناس بترك المزاحمة وأداء المناسك في طمأنينة وتؤدة وأفاض بسكينة ووقار وكان يسير على مهل كما في صحيح الترمذي قال (وأفاض من جمع وعليه السكينة وأمرهم بالسكينة).
ونهاهم عن الغلو في الرمي وأن يرموا الجمرة بمثل حصى الخذف شفقة عليهم من التدافع والتزاحم وقد رأيتم حادثة التدافع في حج هذا العام وما ترتب عليها من إزهاق مئات الأنفس وجرحها.
أما في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحد من المخالفات المنتشرة بين الناس في الحج فحدث ولا حرج كان صلى الله عليه وسلم لا يسكت عن منكر ولا يرضى بمخالفة
يقول ابن عباس رضي الله عنهما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول لبيك عن شبرمة فقال من شبرمة قال أخ لي أو قريب لي فقال عن حججت عن نفسك قال لا قال حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة.
وأنكر صلى الله عليه وسلم على من تأخر في الحل من الإحرام ممن لم يسق الهدي وأمرهم بالحل فتحللوا ومرَّ برجل وهو يطوف بالكعبة وقد ربط يده إلى إنسان بخيط فقطعه النبي صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة ثم قال قده بيده.
وأردف صلى الله عليه وسلم الفضل بن العباس معه على ناقته وكان الفضل شاباً وسيماً حسن الشعر أبيض البشرة فمرت به ظُعُن يجرين فطفق الفضل ينظر إليهن فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم يده إلى الشق الآخر يصرف وجهه عنهن.
{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة : 128].
وأما تواضعه صلى الله عليه وسلم فهو القمة إذ حج على رحل رث وقطيفة لا تساوي أربعة دراهم
ورفض صلى الله عليه وسلم أن يُخص من دون الناس بالسقيا مما لم تجعل فيه الأيدي وقال لا حاجة لي فيه اسقوني مما يشرب منه الناس.
ووقف لامرأة من آحاد الناس يستمع إليها ويجيب عن اسألتها.
ولم يتخذ صلى الله عليه وسلم حُجّاباً يصرفون الناس عنه أو يمنعونهم عن مقابلته والتحدث إليه.
وأما رحمته صلى الله عليه وسلم بأمته فقد ظهرت في حجته بشكل واضح إذ كان صلى الله عليه وسلم يجمع بين الصلوات رحمة بالناس وتخفيفاً عنهم وأذن للضعفة في الإفاضة من مزدلفة قبل الناس تخفيفاً عليهم ووقاية لهم من الزحام
وخفف على أصحاب الحاجات وأذن لهم أن يجمعوا رمي يومين بعد يوم النحر فيرمونه في أحدهما
وترك صلى الله عليه وسلم فعل الأفضل في بعض الأحيان رحمة بالناس ورفقاً بهم كاستلامه للحجر بمحجن أو عصا وترك تقبيله واستلامه باليد
وتأخر صلى الله عليه وسلم في ذي الحليفة يوماً كاملاً ينتظر من يريد اللحاق به
وأكثر في الموسم من البذل والعطاء وتوزيع الصدقات والنفقات تطييباً للنفوس ومراعاة للخواطر وكان صلى الله عليه وسلم يختار الأيسر دائما وصدق الله سبحانه وتعالى إذ يقول عنه {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ويقول: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ..
الخطبة الثانية
ومن شواهد رفقه صلى الله عليه وسلم بأمته في الحج أنه أمر أصحابه أن ينحروا هديهم في رحالهم رفقاً بهم وحثهم على تعجيل الرحيل بعد قضاء الحج رحمة بهم وإحساناً إلى آهاليهم ليعودوا إليهم يقول صلى الله عليه وسلم " إذا قضى أحدكم حجه فليعجل الرجوع إلى أهله فإنه أعظم لأجره.
وأمرهم صلى الله عليه وسلم بالرفق بأنفسهم فحينما رأى رجلاً يسوق بدنه وهو يمشي قال له اركبها فقال يارسول الله إنها بدنة فقال اركبها
وعندما تدافع الناس عند رمي الجمرة قال لهم صلى الله عليه وسلم أيها الناس لا يقتل بعضكم بعضاً ولا يصب بعضكم بعضاً وإذا رميتم الجمرة فارموها بمثل حصى الخذف.
وقال لعمر ياعمر إنك رجل قوي لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف إن وجدت خلوة فاستلمه وإلا فاستقبله.
وكان صلى الله عليه وسلم يطيب خواطرهم ويراعي نفسياتهم في الحج فعندما أمر من لم يسق الهدي أن يحل قال لهم بعد ذلك تطييباً لخواطرهم " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي " أي لو أعلم أن هذا الأمر يشق عليكم لتركت سوق الهدي حتى أحل كما تحلون.
وإهدى الصعب بن جثامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم عجز حمار فرده النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال له إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم " تطييباً لخاطره.
وعندما صاد بعضهم وهم محرمون وهو حل لم يحرم ثم ارتابوا في الأمر فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم كلوا ما بقي من لحمها ثم قال لهم صلى الله عليه وسلم هل معكم منه شيء فقالوا معنا رجله فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلها.
وكان عليه الصلاة والسلام في حجته مع أمته ليناً سهلاً ودوداً لطيفاً مستنير الوجه منشرح الصدر يتودد إلى الناس ويتلطف بهم ويداعبهم ويمازحهم يقول ابن عباس رضي الله عنهما " قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أغيلمة بن عبد المطلب فجعل يَلْطَح أفخاذنا ويقول أبني لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس.
ويقول الحارث بن عمرو السهمي أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمنى أو بعرفات وقد أطاف به الناس قال فتجئ الأعراب فإذا رأوا وجهه صلى الله عليه وسلم قالوا هذا وجه مبارك.
هذه بعض الجوانب اللفتات المشرقة من أحوا النبي صلى الله عليه وسلم في الحج مع أمته .
صلوا وسلموا
المشاهدات 1149 | التعليقات 0