أحكام المعاهدين والمستأمنين في الإسلام.
أ.د عبدالله الطيار
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ ربٍِّ العالمين، كَتَبَ عَلى نفسِهِ الرّحْمَةَ فَهُوَ الرَّحْمَنُ الرحيمُ، ارتضَى لعبادِه الإسلامَ دينًا، وختمَ بمحمدٍ الأنبياءَ والمرسلينَ، وَجَعَلَ شريعتَهُ هِدَايةً وَرَحْمَةً لِلْعَالمَيِنَ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أرسله بالهدى بشيرًا ونذيرًا، صلّى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلّمَ تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[آلِ عِمْرَانَ: 102].
أيها المؤمنون: اعلموا -رحمكم اللهُ-أنَّ الإسلامَ هو الدينُ الذي ارتَضَاهُ اللهُ عزَّ وجلَّ للنّاسِ كافّةً، وأنَّ شَرِيعتَهُ السَّمْحَةَ صَالِحَةٌ لكلّ زمانٍ ومكانٍ.
ونظرةُ الإسلامِ إلى جميعِ أهلِ الأرضِ -بلا استثناءِ-نظرةُ رحمةٍ وشفقةٍ ورعايةٍ عادلةٍ، سواء أَكَانُوا مسلمينَ أمْ غيرَ مسلمينَ.
وقد نَظَّمَتْ الشريعةُ الإسلاميةُ العلاقاتِ بينَ جميعِ الناسِ، على أُسُسٍ وَطِيدَةٍ مِنَ التَّسَامُحِ والعدالةِ، وهِيَ أُسُسٌ لَمْ تَعْرِفهَا الْبَشَرِيَّةُ مِنْ قَبْل، ولمْ يَجِدْ غَيْرُ المسلمينَ مُعَامَلَةً كَالَّتِي وَجَدُوهَا تَحْتَ حُكْم الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، والتاريخُ خيرُ شاهِدٍ عَلَى ذَلِكَ.
عِبَادَ اللهِ: لقد راعى الإسلامُ اختلافَ الناسِ في العقائدِ والدّياناتِ، والدّيار التي يقيمونَ فيهَا، بحيثُ أَلْحَقَ بكلّ فريقٍ مَا يناسبُهُ منَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الضّامِنَةِ لِحقوقِهِ، والحافظةِ لمسئولياتِهِ وواجباتِهِ، وبذلكَ تستمرُّ العلاقاتُ الإنسانيةُ في العالمِ بالصُّورةِ التِي تَتَمَاشَى مَعَ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ في الْعَدْلِ والتَّسَامُحِ والرحمةِ.
والمجتمعُ الإسلاميُّ لمْ يَخْلُ يومًا قطُّ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي أيِّ عصرٍ مِنَ الْعُصُورِ، ولَا عَجَبَ فِي ذَلِكَ، فَالْإِسْلَامُ لَا يَمْنَعُ المسلمينَ مِنَ العيشِ معَ منْ يخالفونَهًُمْ في العقيدةِ والدّينِ فَهُمْ جميعًا خَلْقُ الله، وليس من لوازمِ الإيمانِ بهذا الدِّينِ أَذِيَّةُ غيرِ المسلمينَ، ورفضُ العيشِ معهم في ظلِّ الإسلامِ.
ولنَا في رسولِ اللهِ ﷺ القدوةُ الحسنةُ، فقد جاورَ النبيُّ ﷺ في المدينةِ قبائلَ مِنَ اليهودِ، فَأَحْسَنَ جِوَارَهُمْ، وَبَاعَ وَاشْتَرَى مِنْهُمْ، فَوفَّاهُم حقوقَهم، وزارَ مريضَهُم، وتجاوزَ عن مسيئِهِمْ، فعن أنسٍ رضيَ اللهُ عنهُ أنّهُ قالَ: (كانَ غُلامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النبيَّ ﷺ، فَمَرِضَ، فأتاهُ النبيُّ ﷺ يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقالَ له: أسْلِمْ، فَنَظَرَ إلى أبِيهِ وهو عِنْدَهُ فَقالَ له: أطِعْ أبا القاسِمِ، فأسْلَمَ، فَخَرَجَ النبيُّ ﷺ وهو يقولُ: الحَمْدُ لِلَّهِ الذي أنْقَذَهُ مِنَ النّارِ) أخرجه البخاري (1356).
أيُّهَا المؤمنونَ: لقد جاءتْ نصوصُ القرآنِ والسنةِ تنظّمُ العلاقاتِ بينَ المسلمينَ وغيرِ المسلمينَ فِي مواضعَ كثيرةٍ، منهَا قولُ اللهِ تَعَالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (الشورى: الآية15) وقالَ عزّ وجلّ:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ}(التوبة: الآية6) وقال النبيُّ ﷺ: (الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ مِنْ عَلَّاتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ) أخرجه مسلم (2365).
وقال ﷺ: (مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلَا يَحُلَّنَّ عُقْدَةً وَلَا يَشُدَّهَا حَتَّى يَمْضِيَ أَمَدُهَا أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ) أخرجه الترمذي (4/143)، وقال حديث حسن صحيح.
أيُّها المؤمنونَ: وغيرُ المسلمينَ في بلادِ الإسلامِ أصنافٌ منهَا: المعاهَدُ أو المستَأْمَنُ.
والمعاهَدُ هوَ الرجلُ من غيرِ المسلمينَ يَدْخُلُ دارَ الإسلامِ بأمانٍ وعهدٍ، ومنهم الوافدونَ مِنْ غَيْرِ المسلمينَ إلى بلادِنَا بعقدِ عملٍ، أو زيارةٍ، أو إقامةٍ، أو سياحةٍ، وغيرِها. فهؤلاءِ بمجردِ حصولِهِم على تأشيرةٍ نظاميةٍ لدخولِ هذَا البلدِ، أصبحوا آمنينَ على أنفسِهِم، وأموالِهِم، وأعراضِهِم، يَحْرُمُ إيذاؤُهم، أو ظلمُهُم، أو التعرُّضُ لهم بأذى؛ لما لهم من عهودٍ وحقوقٍ كَفَلَتْهَا الشريعةُ الإسلاميةُ، والتزمتْ بِهَا بلادُنَا.
أعوذُ باللهِ مِنَ الشّيْطَانِ الرَّجِيمِ: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}(التوبة: الآية4).
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذكْرِ الحكيمِ، فاستغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ، محمدِ بنِ عبدِ اللهِ النبيِّ الأمينِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين. وبعد:
أيُّهَا المؤمنونَ: وللمعاهدينَ في الشريعةِ الإسلاميةِ جملةٌ مِنَ الْحُقُوقِ، منهَا مَا يلي:
أولًا: حُرْمَةُ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ. قالَ النبيُّ ﷺ: (مَن قتلَ معاهَدًا لم يَرَحْ رائحةَ الجنَّةِ وإنَّ ريحَها ليوجَدُ مِن مسيرةِ أربعينَ عامًا) أخرجه البخاري (٣١٦٦) باختلاف يسير، وقالَ أيضًا: (أيُّما رجُلٍ أمَّن رجُلًا على دمِه ثمَّ قتَله فأنا مِن القاتلِ بريءٌ وإنْ كان المقتولُ كافرًا) أخرجه ابن حبان (5982) وصححه الألباني في صحيح الترغيب (3007).
ثانيًا: حُرْمَةُ ظُلْمِهِم، أو إيذائِهِم، أو التعرُّضِ لهم بأذى. قال ﷺ: (مَن ظلم معاهدًا أو انتقَصه حقًا، أو كلَّفه فوقَ طاقتِه، أو أخذ منه شيئًا بغيرِ طيبِ نَفسٍ منه، فأنا حَجيجُه يوم َالقيامةِ) رواه أبو داود (3052) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2655).
ثالثًا: حقُّهم في العدلِ. قالَ تعالَى: {فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} المائدة (42).
أيُّها المؤمنونَ: وهَا هي بلادُ الحرمينِ الشريفينِ، تُعْلِنُ شَرْعَ اللهِ وَتَتَحَاكَمُ إِلَيْهِ وتَتَعَامَلُ مَعَ مَنْ يُقِيمُ عَلى ثَرَاهَا مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ حَسْبَ النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ، وتلتزمُ بِمَا يُبْرَمُ مَعَهُمْ مِنَ الْعُقُودِ والْعُهُودِ والموَاثِيقِ، ولا يُضَارَّ أحدٌ منهم، بَلْ يَأْخُذُونَ حُقُوقَهُمْ كَامِلَةً، بِشَرْطِ أَنْ يُؤَدُّوا مَا عَلَيْهِمْ مِنْ وَاجِبَاتٍ، وَيَلْتَزِمًوا بِالْعَقْدِ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فَهَؤُلَاءِ حُقُوقُهُم محفوظةُ، وأرواحُهم معصومةُ، وحمايةُ أموالِهِم وأعراضِهِم، مسؤوليةُ هذِه البلادِ.
ووصيتي للمتعجلينَ الذينَ يفهمونَ النصوصَ على غيرِ وجهِهَا، أنْ يرجِعُوا للعلماءِ ويأخذوا عنهم، وألَّا يعتمدوا على فهمهِم الخاطئِ، فكمْ أَرْدَى هذا الفَهمُ مِنْ أقوامٍ ضلَّتْ في تفكيرِهَا، وبالتَّالِي تخبَّطَتْ فِي تصرُّفَاتِهَا، فأحدثَت الضَّرَرَ للبلادِ والعبادِ.
أسألُ اللهَ عزَّ وجلَّ أنْ يُدِيمَ عَلى بلادِنا نِعمةَ الأمْنِ والأمَانِ لكلِّ مّنْ يُقِِيمُ عَلَى ثَرَاهَا.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفى فقد أَمَرَكم اللهُ بذلكَ فقالَ جلَّ من قائلٍ عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}[الأحزاب:56]. الجمعة: 21/1/1444هـ