أحكام الجنائز (مشكولة)
صالح عبد الرحمن
خطبة عن أحكام الجنائز (مشكولة) 13-07-1447هـ
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ، خلقَ الإنسانَ (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ) وأشهدُ أن لا إله إلا اللهَ وحدهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، بعثهُ اللهُ بالشرعِ المطهرِ، فأتمَّ اللهُ به الدينَ وكمّلَه، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ ما كبّر للهِ مكبّرٌ وهللَّه. آية التقوى
أما بعد: فإن اللهَ -تعالى- شرَعَ من الأحكامِ ما يبهرُ العقول، وما يجلِّي عنايةَ الشريعةِ بأهلها أحياءً وأمواتاً، ومِن ذلكَ ما يتعلقُ بالإنسانِ إذا غادرَ هذه الحياة.
ولما كانَ بعضُ الناسِ قد يقعُ في أخطاءٍ مُجانِبةٍ للهديِ النبويِ في هذا البابِ؛ كان لزاماً أن تُبيَّنَ هذه الأمور ولو بشيءٍ من الإجمالِ، الذي به يتضحُ المنهجَ الشرعي، والهديَ النبوي في التعاملِ مع خبرِ الوفاةِ حتى يَنتهي الدفنُ.
فلقد علّمَ نبينا -صلى الله عليه وسلم- أُمتَهُ ماذا نقولُ حين نُصابُ بموتِ أحدٍ فقال: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ، فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ اؤْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا. إِلَّا أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا " (أخرجه مسلم)
وتُقولُ أمُ سلمةَ رضي الله عنها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: " إِذَا حَضَرْتُمُ الْمَرِيضَ، أَوِ الْمَيِّتَ، فَقُولُوا خَيْرًا، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ ". قَالَتْ: فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ، أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا سَلَمَةَ قَدْ مَاتَ، قَالَ: " قُولِي: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلَهُ، وَأَعْقِبْنِي مِنْهُ عُقْبَى حَسَنَةً ". قَالَتْ: فَقُلْتُ، فَأَعْقَبَنِي اللَّهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ لِي مِنْهُ؛ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (أخرجه مسلم)
وعلّم رسولُ ﷺ أمّتَه أن يُسرعوا بالجَنازةِ تَجهيزاً وحَمْلاً وصََلاةً، فقال: " أَسْرِعُوا بِالْجَنَازَةِ، فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا، وَإِنْ يَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ ". (متفق عليه)
فعُلم من ذلك أن تأخيرَ دفنِهَا لغيرِ سببٍ شرعيٍ معتَبرٍ، مخالفٌ لهذا الهديِ النبويِ الكريمِ.
وشرعَ -صلى الله عليه وسلم- لأمتِهِ أن يُصلّوا على الجَنازةِ، وحثََّهُم على حضورها حتى تُدفَن، فقال: " مَنْ شَهِدَ الْجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلِّيَ فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَ حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ ". قِيلَ: وَمَا الْقِيرَاطَانِ؟ قَالَ: " مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ ". (متفق عليه).
واعلموا - عباد الله- أن لُبَّ هذه الصلاةِ هو الدعاءُ، والإخلاصُ في ذلك.
وقد بيَّن -صلى الله عليه وسلم- بفعلِهِ صفةَ هذه الصلاة: فيكبرُ المصلي ثم يقرأُ الفاتحةَ، ثم يُكبرُ ثم يُصلي على النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، ثم يكبرُ ثم يدعو بما وردَ، ومن فاتتهُ الصلاةُ مع الناسِ، صلى عليها بعدَ الدفنِ كما صنعَ -صلى الله عليه وسلم- مع الأَمَةِ السوداءِ التي كانت تنظفُ المسجدَ، وإن صلّى قبل الدفنِ جاز.
ثم تُحملُ الجَنازةُ، ويُسرَعُ بها سرعةً فوقَ المشيِ المعتادِ، وبدونِ إسراعٍ يؤذي الحاملينَ، أو المارينَ في الطريقِ.
فإن كان القبرُ جاهزاً دُفنت، وإلا انتُظِر حتى تُدفَن.
ولقد كان من هديِ السلفِ في هذه المقامات: خفضُ الصوتِ،
قال قيسُ بن عُبَاد -وهو أحدُ كبارِ التابعين-: "كانَ أصحابُ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يكرهونَ رفعَ الصوتِ عند ثلاث: عند القتالِ، وعند الجنائزِ وعند الذكرِ".
وإن موقفاً كهذا لخليقٌ بالمؤمنِ أن يجعلَهُ فرصةً للاعتبارِ والتذكُّرِ، لا للأحاديثِ الجانبيةِ، وأقبحُ منها حينَ تكونُ دُنيويَّة!
فليتَ شِعري إذا لم يتعظُ الإنسانُ بمصيرِهِ ومآلِه وهو في المقبرةِ فمتى يَتعظ؟
ألا إنها غايةُ الغفلةِ أن يَنتقلَ حديثُ الدنيا إلى المقابرِ!
ومما يُنتبهُ له -عند الدفنِ- أن يُراعَى حقُّ الأقاربِ في تولي دَفنَ ميِّتهم، لا أن يُزاحَموا على ذلك، فتجدُ بعضُ الناسِ يتحلقُ على القبرِ، مضايقاً ورثةَ الميتِ، وهذا لا ينبغي!
ومما يظنُّه بعضُ الناسِ -ولا أصلَ له- أن أجرَ الدفنِ لا يثبتُ حتى يشاركَ الإنسانُ في الحثْيِ على القبرِ؛ فيتزاحمُ الناسُ، وربما أثاروا الغبارَ، أو تسلّقَ الصغار! وهذا لا دليل عليه، غايةُ ما في ذلك حديث ورد في فضل الحثو على القبرِ، ولا علاقةَ له بأجرِ القيراطين، ومع ذلك فبعضُ أهل العلمِ ضعفه، فالقيراطانِ ثابتانِ بمجردِ الحضورِ حتى الدفنِ، ولو لم يشاركُ الإنسانُ في الحثي.
ومما شرَعَ -صلى الله عليه وسلم- لأُمّتِهِ أن يُدعا للميتِ بعدَ دفنِهِ، يقول عثمان بن عفان رضي الله عنه: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: " اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ، وَسَلُوا لَهُ بِالتَّثْبِيتِ؛ فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ ". (أبو داود).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ وَفَّقَ مَنْ شَاءَ مِن عِبادِهِ لِمَكَارِمِ الأَخلاقِ، وَهدَاهُم لِما فِيهِ فَلاحُهُمْ في الدُّنيا، وَيومَ التَّلاقِ، وَأَشهدُ ألاَّ إلهَ إلاِّ اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لهُ، وَأَشهدُ أنَّ مُحمَّداً عبدُ اللهِ وَرَسولُهُ، صلَّى اللهُ وسَلَّمَ وَبَارَكَ عليهِ وعلى آلِهِ وأَصحابِهِ وَمنْ تَبِعَهم بِإحسَانٍ وإيمانٍ إلى يَومِ التَّلاقِ؛ أما بعد:
فإن مما شرعهُ النبيُ -صلى الله عليه وسلم- لأمته: التعزيةُ لمن كان مصاباً.
والمصابُ قد يكونُ قريباً، وقد يكونُ صديقاً أو جاراً.
والتعزيةُ تَثبتُ بمجردِ وقوعِ المصيبةِ، ولا يُنتظرُ حتى تُدفنَ الجنازةُ كما يَظنُّ بعضُ الناسِ.
ولا حرجَ في الاجتماعِ للتعزيةِ، بشرطِ ألا يكلَّفَ أهلُ الميتِ شيئاً، ولا يُشغَلوا بصنعُ الطعامِ للمُعزِّين، بلِ السنةُ أن يُصنَعَ لهم، كما في الحديث: اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا؛ فَإِنَّهُ قَدْ أَتَاهُمْ أَمْرٌ شَغَلَهُمْ» مع تجنُّبِ المنكراتِ الأخرى التي تَقعُ في بعضِ البلاد؛ مِن استئجارِ مُقرئٍ، أو نُواحٍ أو لطمٍ، أو غيرِ ذلك من المنكراتِ والبدعِ.
هذه جملةٌ من الأحكامِ التي تتعلقُ بهذه الشعيرةِ العظيمةِ؛ فاحمدوا اللهَ -تعالى- على كمالِ شريعتِه، واتقوا اللهَ في اتباعها، والبعدِ عن كل ما يكدّرها.
اللهم ارزقنا الفقهَ في دينك والبصيرةَ فيه، اللهم اغفر لجميعِ موتى المسلمين.