أَحْسَنَ اللهُ عَزَاءَكُمْ 10 جماد الأولى 1434 هـ
محمد بن مبارك الشرافي
أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ , وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً إِلَى يَوْمِ الدِّين .
أَمَّا بَعْدُ : فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ وَاعْلَمُوا أَنَّ الْمَصَائِبَ كَتَبَهَا اللهُ عَلَى الْعِبَادِ حِكْمَةً مِنْهُ وَرَحْمَة , فَتُكَفَّرُ بِهَا سَيِّئَاتُهُمْ وَتَعْظُمَ بِهَا حَسَنَاتُهِمْ , وَتَكُونُ لَهُمْ ذِكْرَى لِئَلَّا يَرْكَنُوا لِهَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا .
وَإِنَّ مِنْ مَحَاسِنِ دِينِنِا أَنَّ شَرَعَ لَنَا مُوَاسَاةَ بَعْضِنَا بَعْضَاً , وَجَبْرَ قَلْبِ الْمُصَابِ وَالْوُقُوفَ مَعَهُ , وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالتَّعْزِيَةِ , وَفِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ بِإِذْنِ اللهِ سَنَتَنَاوَلُ هَذَا الْمَوْضُوعَ بِشَيْءٍ مِنَ التَّفْصِيلِ , وَمِنْ أَجْلِ تَيْسِيرِ فَهْمِهِ وَالإِحَاطَةِ بِهِ فَنَجْعَلُهُ عَلَى هَيْئَةِ مَسَائِلَ , أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَرْزُقَنِي وَإِيَّاكُمُ الْعِلْمَ النَّافِعَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ .
فَأَوَّلاً : مَعْنَى التَّعْزِيَةِ : أَنْ يُخَاطِبَ الْمُسْلِمُ أَخَاهُ الْمُصَابَ بِكَلِمَاتٍ يُخَفِّفُ بِهَا عَنْهُ مُصِيبَتَهُ , وَيُذِكِّرُهُ بِرَبِّهِ , وَيُسَلِّيهِ عَمَّا أَصَابَهُ .
ثَانِيَاً : التَّعْزِيَةُ مَشْرُوعَةٌ لِكُلِّ مَنْ أَصَابَهُ مَوْتُ قَرِيبٍ أَزْعَجَهُ , أَوْ هَمٌّ أَقْلَقَهُ , أَوْ دَيْنٌ أَثْقَلَهُ , أَوْ حَادِثٌ آلَمَهُ , فَلَيْسَتِ التَّعْزِيَةُ مَقْصُورَةً عَلَى مَوْتِ الْمَيِّتِ , وَإِنْ كَانَ الْمَوْتُ أَشَدَّهَا .
ثَالِثَاً : التَّعْزِيَةُ سُنَّةٌ قَدْ فَعَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَفَعَلَهَا أَصْحَابُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ , وَلِذَلِكَ فَاحْتَسِبِ الأَجْرَ فِي تَعْزِيَتِكَ لِأَخِيكَ الْمُسْلِمِ فَهَذِهِ عِبَادَةٌ وَلَيْسَتْ عَادَةً , عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ : كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ رَسُولُ إِحْدَى بَنَاتِهِ يَدْعُوهُ إِلَى ابْنِهَا فِي الْمَوْتِ , فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ارْجِعْ إِلَيْهَا فَأَخْبِرْهَا أَنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ , وَلَهُ مَا أَعْطَى , وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمَّىً , فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه .
رَابِعَاً : الْحِكْمَةُ مِنَ التَّعْزِيَةِ هِيَ تَقْوِيَةُ الْمُصَابِ عَلَى مُصِيبَتِهِ , وَتَذْكِيرُهُ الصَّبْرَ وَاحْتِسَابَ الأَجْرِ , وَتَحْذِيرُهُ مِنَ الْجَزَعِ أَوِ النِّيَاحَةِ , وَبِنَاءً عَلَيْهِ فَالتَّعْزِيَةُ تَبْدَأُ مِنْ حُصُولِ الْمُصِيبَةِ وَمَوْتِ الْمَيِّتِ , لِأَنَّ هَذَا وَقْتُ الْمُصِيبَةِ .
وَأَمَّا اعْتِقَادُ بَعْضِ النَّاسَ أَنَّ التَّعْزِيَةَ لا تُشْرَعُ قَبْلَ الدَّفْنِ فَهُوَ خَطَأٌ , بَلْ هُوَ تَحْويلٌ لِلتَّعْزِيَةِ إِلَى طُقُوسٍ وَمَرَاسِمَ تُتَّبَعُ عِنْدَ النَّاسِ , وَهُوَ إِخْرَاجٌ لَهَا مِنْ كَوْنِهَا عِبَادَةً إِلَى أَنْ تَصِيرَ عَادَةً وَأَعْرَافَاً وَتَقَالِيد .
خَامِسَاً : لَيْسَ لِلتَّعْزِيَةِ صِيغَةٌ مُعَيَّنَةٌ لا بُدَّ مِنْهَا , وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَقْوِيَةُ الْمُصَابِ عَلَى مُصِيبَتِهِ وَإِسْمَاعِهِ كَلِمَاتٍ تَرْفَعُ مَعْنَوِيَّاتِهِ وَتَجْبُرُ قَلْبَهُ . وَإِنَّ أَفْضَلَ صِيَغِ التَّعْزِيَةِ هُوَ مَا وَرَدَ عَنْ نَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا مَرَّ فِي الْحَدِيثِ , فَتَقُولَ : إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى , اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ ... وَلَوْ قُلْتَ : أَحْسَنَ اللهُ عَزَاءَكَ وَجَبَرَ مُصِيبَتَكَ وَغَفَرَ لِمَيِّتِكَ فَهَذَا حَسَنٌ .
سَادِسَاً : لَيْسَ لِلتَّعْزِيَةِ مَكَانٌ مُعَيَّنٌ وَلا طَرِيقَةٌ مٌعَيَّنَةٌ , فَيُعَزَّى فِي الْمَسْجِدِ وَفِي الطَّرِيقِ وَفِي الْمَقْبَرَةِ وَفِي السُّوقِ , وَيُعَزَّى مُبَاشَرَةً وَمُوَاجَهَة , وَيُعَزَّى بِالْمُكَالَمَةِ الْهَاتِفِيَّةِ , وَبِالرِسَالَةِ الْكِتَابِيَةِ , وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ .
وَأَمَّا التَّعْزِيَةُ فِي الصُّحُفِ وَوَسَائِلِ الإِعْلَامِ فَهَذَا مِمَّا لا يَنْبَغِي , وَرُبَّمَا يَدْخُلُ فِي الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ , وَ مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ , وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ , فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ وَلا تَجْعَلُوا هَذِهِ الْعَبَادَةَ مَحَلًّا لِلْمُبَاهَاةِ وَالْمُفَاخَرَةِ .
سَابِعَاً : لَيْسَ لِلتَّعْزِيَةِ مُدَّةٌ مُعَيَّنَةٌ , وَأَمَّا مَنْ يَجْعَلُهَا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فَلَيْسَ لِذَلِكَ أَصْلٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , بَلْ إِنَّ الْعَزَاءَ قَدْ يَكُونُ يَوْمَاً وَقَدْ يَكُونُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ بِحَسَبِ شِدَّةِ الْمُصِيبَةِ وَخِفَّتِهَا , وَهَذَا أَمْرٌ يَجِبُ أَنْ يُعْرَفَ , وَالنَّاسُ مَعَ الأَسَفِ حَدَّدُوا هَذِهِ الْمُدَّةَ لِلْعَزَاءِ فِي كُلِّ حَالَةِ وَفَاةٍ حَتَّى وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْمُصِيبَة , وَهَذَا خَطَأٌ وَإِخْرَاجٌ لِلتَّعْزِيَةِ عَنْ مَعْنَاهَا .
وَإِنَّكَ لَتَجِدُ فَرْقَاً بَيْنَ مُصِيبَةِ شَخْصٍ مَاتَ ابْنُهُ الشَّابُّ فِي حَادِثِ سَيَّارَةٍ مُفَاجِئٍ , وَبَيْنَ شَخْصٍ آخَرَ مَاتَ قَرِبُيهُ ذُو الِمائَةِ سَنَةٍ وَالذِي طَالَ مَرَضُهُ فَبَقِيَ سِنِينَ مُقْعَدَاً بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ . فَهَلْ تَسْتَوِي الْمُصِيبَتَان ؟
إِنَّ الذِي مَاتَ ابْنُهُ الشَّابُّ مَوْتَاً مُفَاجِئَاً لَنْ تَزَالَ مَعَهُ الْمُصِيبَةُ رَدْحَاً مِنَ الزَّمَنِ , وَرُبَّمَا لا يَنْسَاهُ طُولَ حَيَاتِهِ , وَأَمَّا الآخَرُ فَرُبَّمَا فَرِحَ بِمَوْتِ لِكَوْنِهِ تَعِبَ فِي نَفْسِهِ وأَتْعَبَهُمْ وَصَارَ هَمَّاً لَهُمْ وَعِبْئَاً عَلَيْهِمْ !!! وَالنَّاسُ فِي كِلا الْحَالَيْنِ يُعَزُّونَ أَهْلَ المَيِّتِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ , وَهَذَا غَلَطٌ يَجِبُ أَنْ يُنْتَبَهَ لَهُ .
ثَامِنَاً : السُّنَّةُ أَنْ يُصْنَعَ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ طَعَامٌ يُبْعَثُ بِهِ إِلَيْهِمْ , بِشَرْطِ أَنْ يَكُونُوا قَدِ انْشَغَلُوا بِالْمُصِيبَةِ فَلَمْ يَتَفَرَّغُوا لِإِصْلاحِ طَعَامِهِمْ , فَهُنَا يُعْمَلُ لَهُمْ طَعَامٌ وَيُبْعَثُ بِهِ إِلَيْهِمْ , عَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : لَمَّا جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرٍ حِينَ قُتِلَ قَالَ اَلنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا , فَقَدْ أَتَاهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ) أَخْرَجَهُ الْخَمْسَةُ إِلَّا النَّسَائِيُّ وَحَسَّنَهُ الأَلْبَانِيُّ . فَأَمَّا أَنْ يَصْنَعُوا هُمْ لِلنَّاسِ طَعَامَاً فَهَذَا هُوَ الْخَطَأُ , فَإِنْ صَحِبَهُ اجْتِمَاعٌ فَهَذَا مِنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ الْمُحَرَّمَةِ , عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْبَجَلِيِّ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كُنَّا نَرَى الاجْتِمَاعَ إِلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ وَصَنْعَةَ الطَّعَامِ مِنَ النِّيَاحَةِ . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ . وَالنِّيَاحَةُ مِنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ .
تَاسِعَاً : هَلِ التَّجَمُّعُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَيِّتِ مَشْرُوعٌ أَمْ مَمْنُوعٌ ؟ الْجَوَابُ : فِيهِ تَفْصِيلٌ , إِنَّ كَانَ الاجْتِمَاعُ لِفَتْرَةٍ قَصِيرَةٍ , وَمِنْ أَهْلِ الْمَيْتِ القَرِيبِينَ مِنْ أَجْلِ تَيْسِيرِ الأَمْرِ عَلَى الْمُعَزِّينَ لِيَجِدُوا أَهْلَ الْمَيِّتِ جَمِيعَاً وَيُعَزُّونَهُمْ , وَلَمْ يَصْحَبْ ذَلِكَ صُنْعُ طَعَامٍ فَلا بَأْسَ , وَأَمَّا إِنْ كَانَ لِفَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ وَمِنْ كُلِّ مَنْ هَبَّ وُدَبَّ , وَصَحِبَ ذَلِكَ صَنْعَةُ طَعَامٍ وَوَلائِمُ -كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ - فَهَذَا أَمْرٌ يَجِبُ عَلَى الكِبَارِ فِي العَوَائِلِ وَشُيُوخِ العَشَائِرِ أَنْ يَعْمَلُوا عَلَى قَطْعِهِ وَمُحَارَبَتِهِ .
عَاشِرَاً : الْبُكَاءُ عَلَى الْمَيِّتِ جَائِزٌ وَلا مَحْذُورَ فِيهِ , وَهَذَا مِنْ طَبِيعَةِ الْبَشَرِ , بَلْ هُوَ مِمَّا يُخَفِّفُ الآلامَ وَيُهَوِّنُ الْمُصِيبَةَ , وَقَدْ بَكَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَكَى أَصْحَابُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ رِجَالاً وَنِسَاءً , فَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ : شَهِدْتُ بِنْتًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُدْفَنُ وَرَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ عِنْدَ اَلْقَبْرِ، فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (إِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلَا بِحُزْنِ الْقَلْبِ , وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا) وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ (أَوْ يَرْحَمُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا النَّيَاحَةُ فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ , وَالنِّيَاحَةُ : هِيَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالنَّدْبِ وَالصِّيَاحِ وَتَعْدَادِ مَحَاسِنِ الْمَيِّتِ , وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ بَصَوْتٍ يُشْبِهُ نَوْحَ الْحَمَامِ , مِمَّا يُشْعِرُ بِأَنَّ الْمُصَابَ مُتَسَخِّطٌ مِنْ قَضَاءَ اللهِ وَقَدَرِهِ , فَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنَ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لاَ يَتْرُكُونَهُنَّ : الْفُخْرُ فِي الأَحْسَابِ ، وَالطَّعَنُ فِي الأَنْسَابِ , وَالاِسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ , وَالنِّيَاحَةُ ، وَالنَّائِحَةُ إذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلِ مَوْتِهَا تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم .
أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِمَوْتِ الإِنْسَانِ وَتَخْتَصُّ بِهِ النِّسَاءُ : إِحْدَادَ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا الْمَيِّتِ . وَمَعْنَى الإِحْدَادِ : اجْتِنَابُ الْمَرْأَةِ لِكُلِّ مَا يَدْعُو إِلَى نِكَاحِهَا أَوْ يُرَغِّبُ فِي النَّظَرِ إِلَيْهَا مِنَ الزِّينَةِ وَنَحْوِهَا . فَإِذَا مَاتَ زَوْجُ الْمَرْأَةِ وَجَبَ عَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً , وَتُحِدُّ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمُدَّةِ , وَهَذَا مِنْ تَعْظِيمِ حَقِّ الزَّوْجِ وَحِفْظِ عَشِرَتِهِ , وَفِيهِ تَطْيِيبٌ لِنُفُوسِ أَقَارِبِ الزَّوْجِ , وَسَدٌّ لِذَريعَةِ أَنْ تَتَطَلَّعَ الْمَرْأَةُ لِلنِّكَاحِ , وَفِيهِ أَيْضَاً إِعْطَاءٌ لِنَفْسِ الزَّوْجَةِ حَقَّهَا مِنَ التَّعْبِيرِ عَنْ مَشَاعَرِ الْحُزْنِ وَالأَلَمِ بِالْمُصَابِ , مَعَ الرِّضَا بِمَا قَضَى اللهُ تَعَالَى وَقَدَّرَ .
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ أَنْ تَجْتَنِبَ الأَشْيَاءَ التَّالِيَةَ :
الطِّيبَ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ سَوَاءٌ كَانَ بُخُورَاً أَوْ دُهْنَاً أَوْ بَخَّاخَاً , وَأَلْحَقَ بَعْضُ الْعُلَمَاءُ الصَّابُونَ الْمُطَيَّبَ وَالشَّامْبُو الْمُطَيَّبَ لِأَنَّهُمَا مِنْ جُمْلَةِ الأَطْيَابِ .
وَتَجْتَنِبُ الزِّينَةَ فِي ثِيَابِهَا أَوْ بَدَنِهَا , سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ دُهْنَاً فِي الْرَّأْسِ أَوْ خِضَابَاً مِنَ الْحِنَّاءِ وَغَيْرِهِ , أَوْ كَانَ كُحْلاً فِي الْعَيْنِ , أَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَكَايِيجِ الْحَدِيثَةِ , أَوْ كَانَ حُلْيَّاً فَإِنَّهُ مَمْنُوعٌ بِأَنْوَاعِهِ , بَلْ حَتَّى السَّاعَةُ فِي الْيَدِ إِذَا كَانَتْ مِمَّا يُلْبَسُ لِلزِّينَةِ فَإِنَّهَا تَخْلَعُهَا وَتَسْتَبْدُلُهَا بِأُخْرَى لَيْسَ فِيهَا زِينَة .
وَمِمَّا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُحَادِّ : أَنْ تَلْزَمَ بَيْتَهَا الذِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَهِيَ سَاكِنَةٌ فِيهِ , فَإِنْ بَلَغَهَا وَفَاةُ زَوْجِهَا وَهِيَ خَارِجَهُ وَجَبَ عَلَيْهَا الرُّجُوعُ إِلَى مَنْزِلِهَا , وَلَكِنْ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ فِي النَّهَارِ لِلْحَاجَةِ , وَأَمَّا فِي اللَّيْلِ فَلا تَخْرُجُ إِلَّا لِلضَّرُورَةِ .
أَيُّهَا الإِخْوَةُ : وَلَيْسَ مِنَ الإِحْدَادِ أَنْ تَلْبَسَ الْمَرْأَةُ الثَّوْبَ الأَسْوَدَ , بَلْ لَهَا أَنْ تَلَبْسَ مِنَ الثِّيَابِ مَا شَاءَتْ مِنْ غَيْرِ زِينَةٍ , وَأَمَّا تَخْصِيصُ الْمُحَادِّ بِالأَسْوَدِ مِنَ الْمُحْدَثَاتِ , وَكَذَلِكَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَخْرُجَ إِلَى سُورِ الْمَنْزِلِ وَتَصْعَدَ السَّطْحَ وَتُشَاهِدَ الْقَمَرَ وَتُكَلِّمَ الرِّجَالَ لِحَاجَةٍ , وَتُكِلِّمَ بِالْهَاتِفِ , خِلافَاً لِبَعْضِ الْعَوَامِ الذِينَ يُلْزِمُونَ النِّسَاءَ الْمُحِدَّاتِ بِهَذَا وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ .
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ عِلْمَاً نَافِعَاً وَعَمَلاً صَالِحَاً اَللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ , اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمُسْلمينَ وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالمُشْرِكِينَ وَدَمِّرْ أَعَدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينَ , اللَّهُمَّ أَعْطِنَا وَلَا تَحْرِمْنِا , اللَّهُمَّ أَكْرِمْنَا وَلَا تُهِنَّا , اللَّهُمَّ أَعِنَّا وَلا تُعِنْ عَليْنَا , اللَّهُمَّ انْصُرْنَا عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيْنَا , اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ عَيْشَ السُّعَدَاءِ , وَمَوْتَ الشُّهَدَاءِ , وَالحَشْرَ مَعَ الأَتْقِيَاءِ , وَمُرَافَقَةَ الأَنْبِيَاءِ , اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وِأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ اللَّهُمَّ ارْضَ عَنْ صَحَابَتِهِ وَعَنِ التَّابِعِينَ وَتَابِعيِهِم إِلَى يَوْمِ الدِّينِ وَعَنَّا مَعَهُم بِعَفْوِكَ وَمَنِّكَ وَكَرَمِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ .
المرفقات
أَحْسَنَ اللهُ عَزَاءَكُمْ 10 جماد الأولى 1434 هـ.doc
أَحْسَنَ اللهُ عَزَاءَكُمْ 10 جماد الأولى 1434 هـ.doc
المشاهدات 4185 | التعليقات 7
تلخيصٌ ممتاز لأحكام العزاء . وحبّذا لو أشرتُم شيخنا إلى ما يتعلّق بالمرأةِ في العزاء ، حتى تستفيدَ الأخواتُ والأمّهات هذا . جزاك الله كل خير .
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا ونفع بك
[FONT="]مثلما بيّن الشيخ الفاضل حفظه الله :[/FONT][FONT="] [/FONT][FONT="]فإنَّ التعزيةَ هي حمل ذوي الميِّتِ على الصبر والاحتساب،بذكر الصبر وفضله،والابتلاء وأجره،والمصيبة وثوابها ، فهي مشاركة مع أهل الميِّتِ في مصابهم بما يُجَمِّلُ المصيبة وينفع الميِّتَ ولا يضُرُّه .[/FONT]
[FONT="]قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"ما من مؤمن يعزِّي أخاه بمصيبة إلاَّ كساه اللهُ[/FONT][FONT="][FONT="]U[/FONT][/FONT][FONT="] من حُلَلِ الكرامة يوم القيامة[/FONT][FONT="]"[FONT="][1][/FONT].[/FONT][FONT="] [/FONT]
[FONT="] والنساءُ نصف المجتمع بل أكثر ، وهنَّ في أحكام العزاءِ شقائق الرّجال ، وهذا حكمٌ عامٌّ في جميع أبواب الدّين إلا ما وردَ فيه التخصيص من الشرع ، كما قال النبي صلى الله عليه :" إنما النساء شقائق الرّجال " ( صحيح الجامع : 2333 ) . [/FONT]
[FONT="] غيرَ أنَّنا نعاني في العزاءِ من جهةِ النّساءِ نفسَ ما نعانيهِ من الرّجال من تقصيرٍ وعدوانٍ ووقوعٍ في البِدع ، أو رُبّما أكثر ، لأنَّ النّساءَ هنَّ من يُشرفُ على داخل بيتِ المصاب ، و لوعةُ المُصابِ بالنّسبة للمرأةِ ومظاهرُهُ أقوى منها عند الرّجُل لما علمتموهُ من الفرق بين الجِنسين ، ومظاهر الإسراف في الطعام منهن أكثر ، فمن هذا الباب وجبَ التأكيدُ على ما يتعلّقُ بعزاءِ المرأةِ من أحكامٍ و آداب : [/FONT]
[FONT="]منها : القضاءُ على عوائدِ الجاهليّة في العزاء[/FONT][FONT="] : فالعزاءُ في الجاهلية إسعادٌ لأهل المُصابِ بشق الجيوب و خمش الوجوه و الدعاء بالويل والثبور ، وهذا من شرّ ما تقع فيه النّساء عند التعزية : عن أم سلمة قالت : لما مات أبو سلمة قلت غريبٌ وفي أرض غربة ، لأبكينَّهُ بكاءً يُتَحَدّث عنه ، فكنت قد تهيأت للبكاء عليه ، إذ أقبلت امرأة تريد أن تسعِدَنِي فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "أتريدين أن تدخلي الشيطان بيتا أخرجه الله منه ؟! " مرتين ، وكففت عن البكاء فلم أبك . رواه مسلم . [/FONT][FONT="]فالمسلمة إنّما تأتي إن جاءت للعزاءِ بالتخفيف والحمل على الصبر كالرّجال تمامًا ، أما الإسعادُ بالبُكاءِ و النّوح و اللطم فهذا خلافُ الشرع ، فانتبهي ! . [/FONT][FONT="][/FONT]
[FONT="]ومنها عدم إطالة المكث إن حصلت التعزية في بيت المصاب[/FONT][FONT="] : فإنّ الاجتماع عند أهل الميّت منهيٌّ عنه كما أشار الشيخ ، وهو من النياحة وممَّا يجدّد الحُزن ، وهو في حق النّساء أشد ، لما في النساءِ عمومًا من ضعفٍ و إسراعٍ إلى مظاهر تجديدِ الحزن ، واجتماع النساء أشدّ من اجتماع الرجال ، وهو من أسباب توسّع ظاهرة إطعام الناس في المصائب ، فقومي بالعزاءِ و انصرفي على الفور ينصرف معك زوجُك ، فتسلمي ويسلم المجتمع . [/FONT]
[FONT="]ومنها المساهمة في التقليل من عادة صنع الطعام للناس[/FONT][FONT="] : فالنساء هنّ من يُشرفن على الطبخ ، بل ويتباهين به و يتوسّعن فيه، فلو قامت النساء بالقضاء على هذه العادة ولو على وجه التدرّج لرجع الرجالُ إلى السنّة شيئًا فشيئًا ، وسهل عليهم ذلك ، فهذا واجبك أختي في الله . [/FONT]
[FONT="] هذا ما تيسّر إعدادُهُ و للشيوخ الأفاضل الزيادة و الإفادة . [/FONT]
[FONT="][1][/FONT] - حسن: سنن ابن ماجه(1601).
جزاك الله خيرا أخي الفاضل الشيخ رشيد بن ابراهيم بوعافية على هذه الإضافة القيمة , سدد الله خطاك وبارك في جهودك .
أمّا حديث التعزية فما دفعني للاستشهادِ به إلا تراجُعُ العلاّمة محمد ناصر الدّين الألباني عن تضعيفه إلى تحسينه ، في ( صحيح ابن ماجه 1311 ) ، و للتفصيل ( السلسلة الصحيحة - الطبعة الجديدة 195 ) [ الإعلام بآخر أحكام الألباني الإمام - محمد كمال السيوطي ص 154 ، رقم 209 ]. و الحكم بالتحسين اجتهاديٌّ كما تعلمون وهو من أشقّ أنواع علوم الحديث .
ابو عبدالله التميمي
بارك الله فيك ياشيخنا.
تعديل التعليق