أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ

مبارك العشوان
1436/09/16 - 2015/07/03 02:10AM
الحمد لله...أما بعد: فاتقوا الله… مسلمون.
عباد الله: روى البخاري من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ ).
الجودُ والإنفاق في وجوهِ الخير من أعظم العبادات، وأحبِّها إلى الله تعالى، وَصَفَ اللهُ تعالى به عبادَه في كتابه وعلى لسانِ رسوله صلى الله عليه وسلم، وَرَغَّبهم فيه، ووعدهم عليه عظيم الجزاء، وأن يخلف عليهم ما أنفقوا، قال تعالى: { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }البقرة 261 وقال سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مـِنَ الأرْضِ } البقرة 267 وقال سبحانه: { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } سـبأ 39 وقال صلى الله عليه وسلم: ( مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ العِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا ) رواه البخاري.
عباد الله: إنَّ المالَ لا ينفعُ صاحبَهُ، ولا تظهرُ فائدتُه إلا بإنفاقه في المصالح النافعة، وفي وجوه الخير، من زكواتٍ أونفقاتٍ واجبةٍ أو مستحبة، أمَّا جمعُه وكنزُه فهو في الحقيقة حرمانٌ منه وخسرانٌ مبين؛ فعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: (هُمُ الْأَخْسَرُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ ) قَالَ: فَجِئْتُ حَتَّى جَلَسْتُ، فَلَمْ أَتَقَارَّ أَنْ قُمْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: ( هُمُ الْأَكْثَرُونَ أَمْوَالًا، إِلَّا مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا - مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ - وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، مَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ، وَلَا بَقَرٍ، وَلَا غَنَمٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إِلَّا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمَ مَا كَانَتْ، وَأَسْمَنَهُ تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا وَتَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا كُلَّمَا نَفِدَتْ أُخْرَاهَا، عَادَتْ عَلَيْـــهِ أُولَاهَا، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النــاسِ ) رواه مسلم.
عباد الله: في الإنفاق زكاءُ النفوس، كما قال تعالى: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } التوبة 103 وفي الإنفاق السلامةُ من البخل المقيت، والوقايةُ من الشُح المذموم، ووفيه السبيل للفلاح قال تعالى: { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } الحشر 9 وفي الإنفاق ـ عباد الله ـ وفي إطعامِ الطعام النجاةُ من عذاب الله يوم القيامة، والفوزُ بجنته، كما قال تعالى: { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً، إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً، وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً، مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً ... } .
عباد الله: عرف المؤمنون المتقون هذه الحقيقة، وأنَّ المالَ متاعٌ زائل، بل الحياة الدنيا بما فيها، كلها متاع؛ قال تعالى عن مؤمن آل فرعون: { يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ } غافر39 أيقن المتقون بهذا فكانت الدنيا في أيديهم لا في قلوبهم، ينفقون إنفاق من لا يخشى الفقر، ويتسابقون في ذلك أسوة بنبيهم صلى الله عليه وسلم. روى الترمذي في سننه من حديث عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قال: َأمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَتَصَدَّقَ فَوَافَقَ ذَلِكَ عِنْدِي مَالًا فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا قَالَ فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟ قُلْتُ مِثْلَهُ، وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟ قَالَ أَبْقَيْتُ لَهُمْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قُلْتُ وَاللَّهِ لَا أَسْبِقُهُ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا )
عباد الله: صح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ أنه قال: ( يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ، يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ ) رواه البخاري ومسلم.
ما هو إلا أن يموت الإنسان ويتخلى عن جميع أمواله، ثم يقتسمها ورثته من بعده.
أخي المسلم: بادر بالنفقات، وسابق إلى الخيرات، وقدم لآخرتك ما دمت تتولى أموالك، قبل أن يأتي يوم يتولاها فيه غيرُك، له غُنمها وعليك غُرمُها. { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ، وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ، وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }المنافقون9ـ 11
بارك الله لي ولكم في القرآن ... إنه هو الغفور الرحيم .




الخطبة الثانية:
الحمد لله ... أما بعد: فاتقوا الله تعالى أيها الناس، واغتنموا فرص الخيرات في شهركم، وأنفقوا مما رزقكم ربكم.
تفقدوا المحتاجين من أقربائكم، وجيرانكم، وخدمكم وعمالكم، ثم تذكروا رحمكم الله إخوانا لكم في الدين أهلكتهم الحروب وتسلط عليهم الظلمة، فقتَّلوا، وشرَّدوا، وهدَّموا.
لا يُلهينكم الغنى عن الفقراء، إن كنت أخي المسلم تعيش آمنًا في سربك فتذكرهم وقد فقدوا الأمن، إن كنت في ري وشبع فتذكرهم وقد أهلكهم العطش والجوع، إن بت بين أهلك على وثير الفرش فتذكرهم وهم لا يجدون مأوى، ولا ما يحتمون به من الحر أو البرد، يعيشون ما عاشوا مكروبين مهمومين مغموين.
تذكر رحمك الله أن الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) رواه البخاري
تذكر أن : ( مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى ) رواه مسلم .
لا تحقرن من المعروف شيئا، ولو كان أقل القليل، فليس الإنفاق خاص بالتجار دون غيرهم، بل قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَتَصَدَّقُ أَحَدٌ بِتَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ إِلَّا أَخَذَهَا اللَّهُ بِيَمِينِهِ فَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ قَلُوصَهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ أَوْ أَعْظَمَ ) رواه مسلم وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ ) رواه البخاري
صاحب القليل قد ينفق، وقد تفضُلُ نفقتُه غيرَها مما هو أكثرَ منها، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ( جُهْدُ الْمُقِلِّ، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ ) رواه أبو داود وصححه الألباني.
أخلصوا لله ـ رحمكم الله ـ نفقاتكم.
لا تمنوا على محتاج بعطية، فقد نهى الله تعالى عن ذلك :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى } البقرة 264
احرصوا على إخفاء صدقاتكم، فإن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ( رَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ ) رواه البخاري.
تحروا صاحبَ الحاجة وبادروه بالصدقة قبل أن يسألها.
اختاروا لنفقتكم من طيب أموالكم؛ لتنالوا البر، فقد قال تعــــالى: { لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ }
طيبوا نفسا بصدقاتكم، و لا تكونوا كمن قال الله فيهم: { وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ }التوبة54
وفقني الله وإياكم لهداه، وجعل عملنا في رضاه، ووقانا شح أنفسنا { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } الحشر 9
ثم صلوا وسلموا ...
عباد الله : اذكروا الله ...
المشاهدات 1391 | التعليقات 0