أثر الفساد على البلاد و العباد..
الشّيخ محمّد الشاذلي شلبي
أثر الفساد على البلاد والعباد
الحمد لله ربّ العالمين، والعاقبة للمتّقين، ولا عدوان إلاّ على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وليّ الصّالحين، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله النبيّ الصّادق الوعد الأمين صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه والتّابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدّينً..
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله: فالتقوى سبيل النجاة والرشاد والفوز بجنّة ربّ العباد..
عباد الله: لقد خلق الله الخلق لعبادته، وفطرهم على توحيده وحبه، وأسبغ عليهم نعمه من أجل تيسير طاعته، ورفع عنهم المشقّة والعنت، وجعل الدّين رحمة لخلقه، فللّه الحمد والمنّة على نعمة الإسلام، ونعمة الإيمان، ولله الحمد في الأولى والآخرة على كلّ حال..
أيّها النّاس: لقد جاء الإسلام آمراً بكلّ خير للعباد، ناهياً عن كلّ شرّ، فأمر بالرّحمة والعدل والإحسان، ونهى عن الفساد والظلم والعدوان، وجعل التعامل بين الخلق مبنياً على قوّة الإيمان بلقاء الله الواحد الدَّيان.. يقول الحقّ تبارك و تعالى في كتابه العزيز: " ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ". ( سورة الروم الآية:41)، فالفساد كثر في البرّ والبحر بسبب ذنوب الخلق، فعاد عليهم ذلك بفساد معايشهم ونقصها، وحلول الآفات بها، كما قال تبارك وتعالى: " وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ". ( سورة الشورى الآية: 30 )..
معاشر المسلمين: لقد نهى الله سبحانه عن الفساد في الأرض بجميع صوره، بداية من الوقوع في الكفر والشّرك، ووصولاً إلى ظلم النّفس والعباد، قال جلّ ثناؤه: " فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ".( سورة هود الآيتان:116، 117).
وجاءت رسُل الله عليهم الصلاة والسلام آمرة بالإصلاح والنهي عن الفساد، وقد ذكر ذلك في كثير من الآيات: " فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ". ( سورة الأعراف:74)، " فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ".( سورة هود:85 )، " اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ". ( سورة الأعراف:142 )، وها هم الصّالحون من قوم قارون يحذّرونه من مغبة الفساد: " وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ ٱلْفَسَادَ فِى ٱلأرْضِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ ". ( سورة القصص:77 )، فالفسادُ يا عباد الله خُلُق ذميم يبغضه الله تعالى، ولا يرتضيه لخلقه..
والنّاظر لحال النّاس اليوم يرى بينهم كثيراً من صور الفساد، وهي تنذر بالخطر، وتبشر بسوء العاقبة للمفسدين، ومن تلك الصور:
1) الكفر بالله جلّ وعلا: قال تعالى: " ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ زِدْنَـٰهُمْ عَذَابًا فَوْقَ ٱلْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ ".( سورة النحل الآية:88 )..
2) الوقوع في الشّرك: قال صلّى الله عيه و سلّم عندما سئل عن أيّ الذنب أعظم: " أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ ". ( رواه البخاري ومسلم )..
3)ـ صدّ الناس عن سبيل الله والمنهج الحقّ، قال تعالى: " وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلأرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ ". ( سورة البقرة:11، 12 )..
4) نشر البدع بين الناس، قال صلّى الله عليه وسلم: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ ". ( رواه البخاري ومسلم )..
5) سفكُ الدّماء المعصومة من مسلمين ومعاهدين بغير حقّ وإخافة الآمنين وهي كبيرةٌ من كبائر الذنوب قال صلّى الله عليه وسلم: " لَزَوَالُ الدّنيا أهونُ على الله مِن قتل المسلم "'. ( رواه الترمذي والنسائي )، وقال صلّى الله عليه وسلم: " مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ..". ( رواه البخاري )..
6) قطع الطريق، والاعتداء على الآمنين، وسرقة الأموال والممتلكات، " إِنَّمَا جَزَاء ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى ٱلأرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خِلَـٰفٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ ٱلأرْضِ ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى ٱلدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم ".( سورة المائدة:33 )..
7) أخذ الرّشاوى، والتعامل بالرّبا، وأكل المال بالباطل، والغشّ، والتحايل، ومعاونة الظالم على المظلوم..
8) ترك الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، والسكوت عن الباطل و الظلم وأهله و السّاكت عن الظلم شيطان أخرس..
9) محاربة العلماء والمصلحين والقدح فيهم لصرف النّاس عنهم..
10) عقوق الوالدين، وقطع صلة الرّحم، قال تعالى: " فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ".( سورة محمّد: 22، 23 )..
11) نشر الأفكار السيئة المخالفة للشريعة، والتعاون على نشر الرذيلة والإباحية بين المسلمين..
12) الفساد المالي الذي استشرى في بلادنا بانتشار الرّشاوي، واستغلال المناصب للمنافع الشخصية و الذاتية وسرقة الأموال بطرق مختلفة عن طريق الانتداب الكاذب كلّ ذلك يدخل في الفساد المالي الذي ينبغي أن نتعاون جميعاً لاجتثاثه من المجتمع، وكم نادينا بذلك وحفزنا عليه..
وهناك كثير من صور الفساد، التي أصابت مجتمعنا المسلم الآمن، فليتّق الله تعالى كلّ مسلم ومسلمة من الوقوع في أيّ صورة من تلك الصور التي ذكرناها، ولا يكونوا مثل من سبقهم ممّن حادوا عن طريق الحقّ، وسلكوا طريق الفاسدين فنالهم الوعيد الشديد.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: " وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ". ( سورة الرعد: 25 ) صدق الله العظيم.. أقول قولي هذا..
الثانيـــة: الحمد لله على فضله وإحسانه وجوده وإكرامه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمّداً عبد الله ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين..
أمّا بعد: فاتقوا الله تعالى أيها المؤمنون واعلموا أنّ التّقوى خير زاد ليوم المعاد.. وأنّه يجب على المسلمين أن ينْأوْا بأنفسهم عن جميع صور الفساد، فقد رتّب الله تعالى عليه عقوبات عظيمة وخيمة: " وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَاد ".( البقرة:204ــ 206 )..
وبيّن سبحانه أن من أعان المفسدين أو رضي بأفعالهم فهو شريك لهم في الإثم، وقد نهى الله تعالى عن ذلك بقوله: " وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ ". ( سورة المائدة:2 )، فاحذروا يا عباد الله أن تعينوا مفسدًا، أو أن ترضوا بعمل المفسدين، فإنّكم إن رضيتم بعملهم أصبحتم شركاء لهم في الإثم والعياذ بالله..
أيها المؤمنون: اعلموا أنّه لا نجاةَ لنا من عقوبات الله تعالى إلا إذا حارَبنا جميع صور الفساد، سواء كان هذا الفساد اعتقاديّاً، أو فكريّاً أو عمليّاً، أو مالياً، أو اجتماعياً، وكنّا ممّن قال الله تعالى فيهم: " فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ ٱلْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْفَسَادِ فِى ٱلأرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ ". ( سورة هود:116 )..
فعلينا التخلّص من كلّ صور الفساد بأن تتعاون جميع الجهات، وأن نتناصح فيما بيننا، وأن نأخذ على أيدي السّفهاء، وأن نحرص على طهارة النّفوس من أدران الذنوب والمعاصي، والبعد عن الحرام بشتّى صوره، وأن نرجع إلى الله تعالى، وأن نتوب إليه، وفي ذلك النجاة بإذن الله تعالى في الدنيا قبل الآخرة.. أسأل الله أن يصلح أحوالنا وأحوال المسلمين، وأن يرد المسلمين إلى دينهم رداً جميلاً..
اللهمّ صلّ و سلّم و بارك على سيّدنا محمّد وعلى آل سيّدنا محمّد كما صلّيت و سلّمت و باركت على سيّدنا إبراهيم و آل سيّدنا إبراهيم في العالمين.... اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، و اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدّين ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.. اللهمَّ لك أسلمناُ، وبك آمناُ، وعليك توكَّلنا، وإليك أنَبْنا، وبك خاصَمنا، وإليك حاكَمنا، فاغفِر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا، وما أسْررنا وأعلنّا، أنتَ إلهنا لا إله لنا غيرك ".. اللهم احفظنا و أبناءنا من الأهواء المتردّية و الأفكار الهدّامة الضّالة المنحرفة.. اللهم احمي تونس و شعبها من كلّ عمل مشين مدبّر مكين.. اللهم احفظ بلادنا و سائر بلاد المسلمين.. اللهمّ من دبّر لنا مكرا أو كيدا أو عدوانا أو إرهابا أو حقدا فاجعل تدبيره في تدميره يا أرحم الرّاحمين يا ربّ العالمين.. اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، وردّ كيده في نحره، يا سميع الدعاء.. اللهم إنا نعوذ بك من القنوط من رحمتك، ومن اليأس من الخير والفرج، يا رب العالمين.. اللهم أسقنا و لا تجعلنا من القانطين.. اللهم سقيا رحمة و لا سقيا عذاب.. اللهم حوالينا و لا علينا يا ربّ العرش المجيد.. اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامّة يا ربّ العالمين.. آمين.. آمين و صلّى الله على سيّدنا محمّد و على آله و صحبه أجمعين