أثر الإيمان بالملائكة في حياتنا.

الشيخ محمد الوجيه
1447/06/14 - 2025/12/05 01:41AM
الخطبة الأولى 
 
 
الحمد لله العظيمِ القوي، القاهرِ فوق عباده، المدبِّرِ لأمر خلقه؛ الذي بسط ملكوته، وأجرى مقاديره بعلمه وحكمته، وأشهد أن لا إله إلا هو؛ بيده ملكوت كل شيء، لا يخفى عليه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
 
 نحمده حمدًا كثيرًا على عظيم فضله، وجميل عنايته، إذ وكّل بنا ملائكةً كرامًا حافظين وكتابًا مسجلين، لا يغفلون عن حركة، ولا يَسْهَون عن سكون، ليُقِيمَ الحجة، ويُتِمَّ الموعظة.
 
 سبحانه تجلت قدرته، وعظمت هيمنته، وصدقت وعوده في النصر والتأييد للمؤمنين. نحمدك يا ربنا على ما أنعمت به علينا من نور الإيمان، وراحة الطمأنينة، وجميل السكينة، ونعوذ بك من الضلال والخذلان.
 
ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله،
​اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، الذي أتاه الوحي من السماء على لسان الروح الأمين جبريل عليه السلام، وعُرِج به إلى الملأ الأعلى حيث سدرة المنتهى، وصاحَبَهُ في غزواته الملائكةُ نصرةً وتثبيتًا، وعلى آله وصحبه الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
 
​فيا أيها المؤمنون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى ولزوم طاعته، فإنها نعم الزاد ونعم المستقر.
 
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
 
عباد الله: يا مَن صدقتم بالغيب،
​تخيلوا معي جيشًا سماويًا لا يُحصى، خُلقوا من ضياء، وسُخروا للطاعة، وشُغلوا بالعبادة. إنهم الملائكة!
 
 رسل الله الموصولون بنور العرش، سفراءُ السماء إلى الأرض، ورسل الله في الغيب في تدبير أمر الكون.
 
 هم أرواحٌ طاهرة، لا يعتريهم الكلال ولا يدركهم الملل، لا يعرفون الشهوات، ولا يعصون لحظةً ما أُمروا به. 
 
هم الصفوفُ المرصوصةُ حول عرش الرحمن، بل ما من شبر في السماء الا وملك لله راكعا او ساجد كما قال صلى الله عليه وسلم. 
 
أصواتهم ترنُّ بالتسبيح والتقديس، تلك المخلوقات الشريفة، يُنفذون في كل ركن من أركان حياتنا أمرًا إلهيًا، من قَطْرِ الغيث إلى حِفظِ النفوس، ومن كتابةِ الحسنات إلى استغفارهم للمؤمنين. 
 
إنهم شهود الله علينا، ومرافقونا في درب الحياة إلى الممات! هذا هو الركن العظيم الذي نتحدث عنه من أركان الإيمان الستة الإيمان بالملائكة. 
 
 إنهم موجودون الأن بيننا في المسجد وفي كل مكان، أن الملائكة تحيط بك كالسوار، فهم رفقاؤك في السوق، شهودك في العمل، حضورك في المنزل، ملازمون لك في يقظتك ومنامك، لا يغادرونك إلا في بقعة واحدة ضيقة، لا تطيب لهم، ولا يليق بهم نورهم، ألا وهي أماكن الخبث والأذى (بيوت الخلاء). 
 
 إن هذا الاستثناء الوحيد في مُلازمة الملائكة، هو رسالة قوية لنا: إذا كان الطاهر يبتعد عن مواطن النجاسة، فكيف يجرؤ القلب المؤمن على أن يحمل الخبث والذنوب وهو في حضرة الملائكة؟!
 
أيها المؤمنون:
عندما نؤمن بالملائكة، نُدرك عظمة مَن خلقهم. إنهم ليسوا كالبشر، بل خُلقوا من نور، لهم مهام عظيمة، فمنهم جبريل الموكل بالوحي، ومنهم ميكائيل الموكل بالقطر، ومنهم إسرافيل الموكل بالنفخ في الصور، ومنهم ملك الموت ومنهم ملائكه الرحمة وملائكة العذاب، ومنهم حملة العرش الذين وصفهم الله بقوله: ﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾ (الحاقة: 17).
 
إن عظمة المخلوق تدل على عظمة الخالق! فكلما ازددنا علمًا بملائكة الله ومهامهم، ازداد في قلوبنا تعظيمًا لله تعالى، ويقينًا بسلطانه المطلق وقوته القاهرة، وهذا هو أصل زيادة الإيمان.
 
ألا تشعرون بالطمأنينة والأمان وأنتم تستشعرون أن الله لم يترككم وحيدين؟ بل وكل بكم ملائكة تحرسكم وتتولى شأنكم بأمر الله! قال تعالى: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ (الرعد: 11). إنهم يسهرون على حمايتكم، يذبون عنكم ما لا تعلمون، ويدعون لكم. هذه العناية الإلهية تبعث في القلب اليقين والثبات، وتجلب السكينة عند اضطراب الأحوال، وتُبعد شبح الخوف والقلق.
 
أيها المؤمنون: إذا اشتدت عليكم الكروب، وتكالبت عليكم الأمم، فلا ييأس المؤمن الصادق؛ لأنه يتذكر أن الملائكة جندٌ من جنود الله، مُرسَلون لتأييد المؤمنين ونصرهم.
​تذكروا ما كان يوم بدر، حينما نزلت الملائكة بثياب بيض عمائم صفر، تثبت قلوب المؤمنين، وتقاتل بجانبهم! ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ (الأنفال: 9). هذه القصة تُعلمنا أن النصر والفرج قد يأتيان من حيث لا نحتسب، وأن استشعار النصر الإلهي والتأييد الملائكي هو من أعظم ثمار الإيمان بهم. 
 
إن الإيمان يأن هناك ملائكة موكلين بكتابة الأعمال (الكرام الكاتبين) يوجب استشعار مراقبة الله في السر والعلن، وهذا يُفضي إلى مرتبة الإحسان وهي: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". وهذا يدفع المؤمن إلى الاجتهاد في الطاعات وترك السيئات.
 
​إن الملائكة عباد طائعون لله لا يعصونه ولا يسأمون من عبادته، وهذا يحفز المؤمن على اقتدائهم في الطاعة، والبعد عن الذنوب والفسق، طمعًا في محبتهم ودعواتهم.
 
إن الملائكة مع عظيم قدرهم يخشون الله ويشفقون من خشيته، وهذا يذكر المؤمن بوجوب الخوف من الله تعالى، قال تعالى: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [النحل: 50]. 
 
​أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
 
الخطبة الثانية
 
الحمد لله الذي جعل لكل أمرٍ سببًا، ولكل عبادةٍ أثرًا. تعالوا بنا نتحدث الآن في أعظم ثمرةٍ لهذا الإيمان بالملائكة: ثمرةِ العملِ والمحاسبة! 
 
حياتكم ليست مجرد معاشٍ دنيويٍ زائل؛ بل هي ساحةُ ابتلاءٍ واختبار، تُرصدُ فيها أنفاسُكم وأعمالُكم، بعينِ اللهِ التي لا تنام، ويقظةِ ملائكتِه الذين لا يُسأمون. فكيف نُقابلُ هذا الكرم الإلهي؟ وكيف نُحوّلُ هذا الوجود الغيبي إلى يقظةٍ في الضمير وخشيةٍ في السر؟
 
أيها المؤمنون: إن وظائف الملائكة الكرام لا تتوقف عند حدود حمل العرش والقيام بشؤون الكون الكبرى، بل تمتد لتشمل أدق تفاصيل حياتكم اليومية؛ فمنهم الحافظ لك، ومنهم الشاهد عليك، ومنهم الداعي لك.
 
​أما الحفظ والدعاء، فذاك أمنٌ وسلامة: فهم ملائكةٌ مخصصون للحراسة والدفاع عنك بأمر الله، وهم في الوقت نفسه دعاةٌ لك إلى الخير والمغفرة.
 
 وتأملوا في كرم الله، كيف سخَّر لكم أهل السماء: ​فهم دعاةٌ لكم أيها المؤمنون:
فإن كنت في صفوف الصلاة تنتظرها، فإنهم معك داعون لك بالرحمة:
​قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث، تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه". (رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه).
 
​وهم حُفّاظٌ لمجالس الخير والذكر:
وإن كنت في حلقة علم أو ذكر، هبطوا إليك نورًا وسكينة:
​قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده". (رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه).
 
هل تطلبون سكينةً أعظم من هذه؟ وهل تطلبون رفعةً أعلى من أن تُذكروا في الملأ الأعلى؟ فاجعلوا مجالسكم كلها ذكر لله واتركوا مجالس الغيبة والفسق والنميمة. 
 
​وهم كُتّابٌ يسجلون كل حَرَكةٍ منك:
فالحذر الحذر، والمراقبة المراقبة، أحسنوا أعمالكم، فهم كرامٌ ﴿يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾:
​قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ المَلَكَ عن يَمِينِهِ أَمِيرٌ علَى الشِّمالِ، فَإِذَا عَمِلَ العبدُ حَسَنَةً كَتَبَهَا بضَعْفِهَا، وإذا عَمِلَ سيِّئَةً قالَ الَّذِي عن يَمِينِهِ لِلَّذِي عن شِمَالِهِ: أَمْسِكْ سبْعَ سَاعَاتٍ، لَعَلَّهُ يَتُوبُ". (أخرجه الطبراني في الكبير وحسنه الألباني).
 
​الله أكبر! حتى في كتابة السيئة، هناك مهلةٌ إلهيةٌ كريمة بانتظار توبتك! فماذا بعد هذا الكرم، أيها المسلمون؟ ألا يُورث هذا العلم بالمهمة الملائكة العظيمة هذه خشية ومحبة لله لا تنقطع؟!
 
أيها الساجدون والراكعون: ​بعد كل هذا، أما آن للقلب أن يخجل؟ ليتَ حياءَك من هؤلاء الملائكة الأطهار يكون أولُ خطوةٍ لحياءٍ أعظم، وحياءٍ أجَلّ، إنه الحياءُ من الله ربِّهم وربِّك! إذا خجلتَ من أن يرى كاتبُ الحسناتِ منك سيئةً، فكيف لا تخجلُ من ربٍّ لا يغيبُ عنه شيءٌ، ولا ينامُ، وناصيتُك بيده؟! لنجعل حياتنا إذن شهادةَ إحسانٍ، ويقظةَ ضميرٍ دائم.
 
واعلموا أن الملائكة نعمة عظيمة جليلة، هم نعمةُ الحفظ، ونعمةُ الدعاء، ونعمةُ الشهادة لنا أو علينا. فما أكرمنا الله به، حين سخّر لنا هذا العالم العلوي النقي لخدمتنا وتسجيل أعمالنا! فاشكروا هذه النعمة، وحافظوا على طهارتكم، والخجل منهم واستشعار عدم مفارقنهم لكم يزداد إيمانك، وتكونوا جديرين بدعواتهم الصادقة أن يغفر الله لكم.
 
​اللهم إنا نسألك إيمانًا صادقًا ويقينًا ثابتًا، ونسألك أن تجعلنا ممن يراقبك في السر والعلن، وأن تجعل الملائكة من الشاهدين لنا لا علينا، يا رب العالمين. 
 
اللهم يا واحد يا أحد، يا فرد يا صمد، نسألك باسمك الأعظم الذي إذا دُعيت به أجبت، أن تجعل الإيمان بالملائكة الكرام نورًا لقلوبنا، وهاديًا لسلوكنا، وزيادة في إيماننا.
 
​اللهم ارزقنا الطمأنينة الكاملة والسكينة العظيمة التي تنزل على أهل الذكر وحافظي بيوتك، واجعلنا ممن تحفهم الملائكة وتغشاهم رحمتك.
 
​اللهم اجعلنا ممن يستشعر مراقبتك في كل حين، وهيئ لنا من أمرنا رشدًا، ووفقنا لمرتبة الإحسان، أن نعبدك كأننا نراك.
 
​اللهم يا رب الملائكة والروح، اجعل ملائكتك الكرام شاهدين لنا لا علينا، واكتبنا في ديوان الصالحين المتقين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
​اللهم إنا نسألك يا واسع المغفرة، أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك، واختم بالصالحات آجالنا. اللهم آمين.
 
 
المرفقات

1764888445_DOC-20251204-WA0069. (2).pdf

المشاهدات 24 | التعليقات 0