أثر الإشاعة في المجتمع المسلم
أ.د عبدالله الطيار
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره،ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبدالله ورسوله، المتحلي بكريم الشمائل، الهادي إلى جميل المكارم والفضائل، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون: واعلموا أن تقواه طريق النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران:102).
عباد الله: إن من أشد الأمراض وأعتاها مما يعاني منه المجتمع المسلم قديماً وحديثاً مرض الإشاعة الخبيث، هذا المرض الذي عانى منه الأنبياء والصالحون؛ وعلى رأسهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، إنه مرض ترتبت عليه آثار ضارة وخطيرة، وخاصة مع تعدد وسائل الاتصال الحديثة من قنوات فضائية، وصحف، ومجلات، وتواصل اجتماعي، وإنترنت، وإذاعات، فهذه الوسائل في الغالب لا تتحرى المصداقية والدقة في النقل سواء كانت رسمية أو غير رسمية لأنها حريصة على الإثارة والجذب فقط.
إن مرض الإشاعة يعاني منه الجميع، تعاني منه الدول والبلدان، والمجتمعات والأفراد، ويعانى منه الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والصالح والطالح، والغني والفقير، والمسؤول والعامل، والقوي والضعيف، والعالم والمتعلم، والكاتب والإعلامي. إنه مرض العصر، والداء العضال الذي سبب كثيراً من الشرور والآثام. فكم سمعنا عن إشاعات تبث وتنشر، وأكاذيب تبعث وترسل، وأقاويل تسمع وتنقل دون تحري أو تثبت. وما أكثر الشائعات التي تطلق بين الناس، بقصد أحياناً ودون في بعض الأحيان، وصار لها من
الضحايا ما الله به عليم.
إن خطر الإشاعة عظيم، وشرها كبير، فكم ظلمت من أبرياء، وهدمت من وشائج، وشتت من أسر، وسببت من مشاكل، وأدمت من قلوب، وفرقت بين أحبة، وأورثت من حسرة، وأهدرت من أموال، وضيعت من أوقات، وحطمت من عظماء ودمرت من مجتمعات، ويعظم الشر ويزداد الخطر إذا كانت في قضايا الأمة الكبرى، أو كانت تتعلق بالعلماء وولاة الأمر، أو كانت تمس الأعراض والبيوت، ألا يتقي الله أولئك الذين يروجون لمثل هذه الشائعات، ألا يتحرون الصدق ولا يظلمون، ألا يعلمون أنهم موقوفون بين يدي الله، ومسئولون عن كل كلمة قالوها، وكل حديث كتبوه، وكل رسالة أرسلوها، وكل تغريدة نشروها، يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم بين يدي الحكيم العليم فبما سيجيبون.
عباد الله: وإذا أردنا أن نعلم عظيم شرها، وأثرها الفتاك في إشاعة الفتن، فللنظر إلى حادثة الإفك التي تعدى فيها المنافقون على عِرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، تلك الشائعة التي هزت بيت النبوة شهراً كاملاً، وهزت المدينة كلها، هذا الحادث الأليم الذي كلّف نبي الأمة صلى الله عليه وسلم وزوجه عائشة رضي الله عنها هموماً وآلاماً وأحزاناً لا تطاق، وكلف الأمة المسلمة كلها همّا وغماً وقلقاً، فهم يعلمون عن أهل بيته كل خير، وأنهم أهل طهر وعفاف، ولم ينزل الوحي طوال هذه المدة، ليكون البلاء أشد، وليميز الله الخبيث من الطيب، والمؤمن من المنافق.
إن ما واجهه النبي صلى الله عليه وسلم في حادثة الإفك أشدُّ حدثٍ مرّ في تاريخه صلى الله عليه وسلم بل في تاريخ الأمة كلها، فلم يمكر المنافقون بالمسلمين مكراً أشدَّ من تلك الإشاعة، على الرغم من أنها مجرد إشاعة مختلقة بيَّن الله تعالى كذبها، ولولا لطف الله عز وجل، برسوله صلى الله علي وسلم وعباده المؤمنين لعصفت هذه الإشاعة بالأخضر واليابس، ولم تُبقي على نفس مستقرة مطمئنة، لكن رحمة الله تعالى عجلت بالفرج، ونزل الوحي ليضع حداً لتلك المأساة العظيمة، وليكون درساً تربوياً رائعاً لجيل الصحابة، وللأمة الإسلامية جمعاء. يقول الله جل وعلا {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ... الآيات}(النور: 11ــ 20).
عباد الله: يوجد في كل مجتمع فئام من الناس نفوسهم مريضة، وقلوبهم فاسدة، وذممهم خربة، لا تخشى الله، ولا تستحي من عباده، وظيفتهم وهوايتهم نشرُ الشائعات بين الناس، وإصدارُ الأحكام الباطلة، والتلفظُ بالألفاظ الجارحة، ونشرُ الأفكار الهدامة، دون تمحيص أو توثيق، وغير خافٍ أنَّ من أعظم الطرق المفضية إلى انتشار الفوضى واضطراب الأمور بثّ الشائعاتِ المختلقة والافتراءات الأثيمة التي تكون غالباً عارِية تمامًا عن أي وجهٍ من وجوه الحق، وخاصة في أوقات الأزمات والفتن، حينما تكون الأمة في أَمَسّ الحــاجـة إلى توحيـد الكلمـة واتحاد الصف وضبط الأمن.
إن منشأ الإشاعة وأساسها غالباً ما يكون: خبراً من شخص، أو من جريدة، أو من مجلة، أو من إذاعة، أو من تلفاز، أو من رسالة خطية، أو من شريط مسجل، أو عن طريق القنوات، والإنترنت، وهذه الأخيرة هي من أخطر وسائل تناقل الأخبار بين الناس وانتشارها بينهم.
والإشاعة لها أشكال عديدة، فمنها ما يكون مدحاً، ومنها ما يكون ذمّاً، ومنها ما يكون خليطاً، ومنها ما يكون للوقيعة، ومنها ما يكون للإضرار بالناس، ومنها ما يكون على سبيل التشفي، ومنها أشياء لا يُقصد من ورائها إلا شهوة الحديث ونقل الأخبار وحب الاستطلاع. وصاحبها ومروجها يكون فيه من الخفة والاستهتار وقلة التحرج ما يجعله يتناول أعظم الأمور وأخطرها مما يوقعه في الذنب لأنه يروج لشيء فيه خطورة على الفرد والمجتمع والدولة وهو لا يحسب لذلك حساب.
لقد حرَّم الإسلام نقل الإشاعة وسـماعها لأنها في الغالب مغرضة وعارية عن الصحة، وكل مسلم مطالب بعدم الانسياق وراء الإشاعات وعدم ترديد أي حديث أو تقرير لا يتأكد من صحته، ومن يقوم بترديد وترويج ذلك فهو آثمٌ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:(كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع)(رواه مسلم).
كما يجب على المسـلم أن يتأكد ويتثبت من صحة كل ما يسمعه، أو يُنقل إليه لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}(الحجرات: 6).
وهذا نبي الله سليمان عليه الصلاة والسلام في قصته مع الهدهد لما أخـبره بخبر بلقيس ملكة سبأ لم يصدقه مباشرة ولكنه قال له، {سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْكَاذِبِينَ} (سبأ: 27). فينبغي على المسلم ألا يُسلِّم بصحة أي شيء يسمعه أو يقرأه، ولا يتخذ قراراً، أو يسلك سلوكاً تجاهه إلا بعد أن يتأكد من صحته.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً}(النساء: 83).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون: واعلموا أن التقوى تجارة المؤمنين الصادقين، وهي أفضل ما يتزود به المسلم للقاء الله.
عباد الله: يكثر في هذه الأوقات ترويج الإشاعات، حتى أصبحت تدخل كل بيت بسهولة ويسر بسبب التساهل في نقلها، وكثرة وسائل الاتصال التي تنقلها، ولكي لا تؤثر هذه الإشاعات على المسلم عليه أن يتعامل معها بمنهج واضح، بحيث يقدم حسن الظن بإخوانه المسلمين، كما في قوله تعالى في حادثة الإفك:{لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا}(النور:12)، ويتأكد من صحة النقل، ويطلب الدليل عليه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}(الحجرات:6)، وأن يَكِل أمره إن كان من أمور العامة إلى أولي الأمر من العلماء الذين يستنبطونه منهم:{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء:83).
وإني أوصي أصحاب القنوات والإذاعات، وأصحاب المواقع والمنتديات، ورجالِ الصحافة والإعلام، وكل من ينقل الأخبار أن يتقوا الله فيما يقولون وينقلون، وأن يتحروا الصدق في ذلك، وعليهم أن يتذكّرُوا قول الله تعالى:{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}(الانفطار: 10ـ12)، وقولَ النبي صلى الله عليه وسلم:(رأيت الليلةَ رجلين أتياني، قالا لي: أما الذي رأيته يشق شدقه فكذاب يُحدِّث بالكذبة فتُحمل عنه حتى تبلغ الآفاق فيُصنع به هكذا إلى يوم القيامة)(رواه البخاري).
وعلينا جميعاً أن نتصدى لهذه الظاهرة الخطيرة، والآفة المدمرة كل حسب استطاعته، في المنزل وفي المسجد وفي المدرسة وفي العمل، وفي كل مكان، وعلى وسائل الإعلام أن يكون لها دور كبير في المحافظة على سلامة المجتمع، وذلك بتقوية الوازع الإيماني، وتبيين الحقائق ونشرها، وعدم التساهل في نقل الكلام وبث الأنباء، لا سيما في أوقات الأزمات، وعدم التهويل والإثارة في التعليقات، والمبالغة في التحليلات، وأن تكون المقروءات والمسموعات دون تزييف أو التواء حفظاً للمجتمع من شرورها وآثارها.
وعلى كل عاقل أن يتروى ويتثبت في كل ما يقال وينقل، وألا يبادر بالتصديق فإن الأصل البراءة التامة، وأن يتذكر قوله تعالى:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق: 18)، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع)(رواه مسلم).
أسأل الله تعالى أن يكفينا شر أنفسنا وألسنتنا، وأن يرزقنا الصدق في القول والعمل، وأن يجنبنا الفتن والشرور ما ظهر منها وما بطن.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(الأحزاب: ٥٦).