أثر الأصحاب.

عاصم بن محمد الغامدي
1444/06/19 - 2023/01/12 16:55PM

الحمدُ لله وليِّ من اتقاهُ، من اعتمدَ عليه كفاه، ومن لاذ به وقاه، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وحبيبه وخليله ومصطفاه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، ومن دعا بدعوته واهتدى بهداه، أما بعد:

فاتقوا الله تعالى -أيها الناس-؛ فالتقوى خيرُ زادٍ وخيرُ لِباسٍ ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾.

إنَّ الدنيا تفنَى، وإنَّ الآخرةَ تبقَى، فلا تُلهِيَّنَّكم الفانية، ولا تُشغِلنَّكم عن الباقِية، الدنيا مُنقطِعة، والمصيرُ إلى الله.

عباد الله:

كان من مطالب كبارِ المشركينَ، لسماعِ ما جاء به النبي الأمين صلى الله عليه وسلم، أنْ يخصصَ لهم مجلسًا لا يجلسُ فيه الفقراء من أصحابه، قالوا: إن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد، فأنزل الله تعالى: ﴿‌وَلَا ‌تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾، فسمى الله تعالى التخصيصَ طردًا للصالحين، تأكيدًا للنهي عن إبعادهم، وفي المنع من التخصيص حِكَمٌ كثيرةٌ من أهمها إظهار الله سبحانه استغناءَ دينه ورسولِه عن الاعتزاز بأولئك الطغاة القساة، وأن هؤلاء الضعفاءَ خيرٌ منهم، وأن الدينَ يكرمُ الناس به، وليس هو الذي يكرمُ بالناس.

ولم يكتف القرآن بهذا النهي، بل أُمر النبيُّ عليه الصلاة والسلام بالصبر على الجلوس معهم ﴿‌وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾.

والأمر بالصبرِ يعني ملازمتهم، وشدَّ نفسِه بمكانهم بحيث لا يفارقه، وفي الآية إشارة إلى سبب هذا الأمر، وهو إقبالهم على الله دعاءً وصلاةً ومناجاةً وطلبًا، في سائر يومهم وليلتهم، فهم الأجدرُ بمصاحبةِ النبي صلى الله عليه وسلم ومقارنته.

﴿وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾، فلا تتجاوز الصالحينَ بحثًا عمَّن تزينَ بشيءٍ من زينةِ الحياةِ الدنيا في لُبسه أو هيئته، ولا تطع من غفل قلبه عن الذكر، واتبع هواه، فقد ضيع بتفريطه ما فيه رشده وفلاحه.

وقد جاءت هذه الآية الكريمة في سورة الكهف، بعد حكاية خبر أصحاب الكهف الذين اجتمعوا على الإيمان، وأفردوا الله بالعبادة، فربط على قلوبهم عندما فتنوا في دينهم.

وفي هذا الإتْبَاعِ تنبيهٌ على أنَّ صحبة الأخيار سببٌ من أسبابِ العصمةِ عندَ الفتنِ.

والصحبة هي الاقتران بالشيء ومقاربته، وفي الآيتين تأكيد على أثرِها، وشدةِ تأثير الأصحاب على بعضهم، وهذا ملاحظٌ في كلِّ صحبةٍ.

بل إنَّ طباعَ الحيواناتِ تؤثِّرُ على من يصحَبُها، ويُكثرُ الجلوسَ معَهَا، ولذا جاءت السنة بأنَّ الفخرَ والخيلاءَ في أهلِ الإبلِ، والسكينةَ والوقارَ في رعاةِ الغنمِ، قال صلى الله عليه وسلم: «‌رَأْسُ ‌الْكُفْرِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ، وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ فِي أَهْلِ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ وَالْفَدَّادِينَ أَهْلِ الْوَبَرِ، وَالسَّكِينَةُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ».

ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: ‌رَأْسُ ‌الْكُفْرِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ: أن -ظُهورَه- سَيكونُ مِن ناحيةِ المشَرْقِ؛ فمِنها يَخرُجُ الدَّجَّالُ، ومنها مَنشَأُ الفِتَنِ العَظيمَةِ، وقيل: في ذلك إشارةٌ إلى شِدَّةِ كُفْرِ المجوسِ -وهمْ عبَدةُ النَّارِ-.

عباد الله:

إذا كان للحيوانِ تأثير على صاحبه، فكيف بحالِ من أدمنَ متابعةَ التافهينَ في وسائلِ التواصلِ، وأصبحَ يملأُ وقتَهُ بفراغِهِمْ!!

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد عباد الله:

فإن للصاحبِ أثرُه في الدنيا والآخرةِ، ففي الدنيا يكون التشابُه بين الأصحاب ظاهرًا، وتجدُ الذي يجلسُ مع الصالحينَ الطيبينَ تعمُّه بركتُهم، فيتأثرُ بأخلاقِهمْ، وينالُ من أفضالِهم، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنَّ للهِ ملائكةً يطوفون الأرضَ بحثًا عمَّنْ يذكرُ الله، فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله «تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ، فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا»، وفي آخر الحديث يقول الله تعالى لملائكته: «فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، فيَقُولُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: فِيهِمْ فُلَانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ، قَالَ: هُمُ الْجُلَسَاءُ ‌لَا ‌يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ».

ومن لطائفِ قصةِ أصحابِ الكهفِ، أنَّ برَكتَهم شَمِلَتْ كلبَهم، فأصابَهُ ما أصَابَهُمْ منَ النومِ، وهذا من فائدةِ صحبةِ الأخيارِ، فإنَّه صارَ لهذا الكلبِ ذكرٌ وخبرٌ وشأنٌ.

أما أثر الصاحب في الآخرة، فيتبين جليًا من مشهدين، إذا تأملهما العاقلُ، كانَ حريًا به أن يحسنَ اختيار صاحبه في الدنيا.

المشهد الأول: ﴿‌وَيَوْمَ ‌يَعَضُّ ‌الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا* يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا* لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا﴾.

والمشهد الثاني: أخبرَ عنه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة الطويل، فقد ذكر أنَّ الناجين من المؤمنين، يناشدون ربهم في إخراج بعض إخوانهم من النار، قال النبي صلى الله عليه وسلم:  «‌فَمَا ‌أَنْتُمْ ‌بِأَشَدَّ لِي مُنَاشَدَةً فِي الْحَقِّ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مَنِ الْمُؤْمِنُ يَوْمَئِذٍ لِلْجَبَّارِ فِي إِخْوَانِهِمْ، يَقُولُونَ: رَبَّنَا إِخْوَانُنَا، كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا، وَيَصُومُونَ مَعَنَا، وَيَعْمَلُونَ مَعَنَا، فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ، وَيُحَرِّمُ اللهُ صُوَرَهُمْ عَلَى النَّارِ، فَيَأْتُونَهُمْ وَبَعْضُهُمْ قَدْ غَابَ فِي النَّارِ إِلَى قَدَمِهِ، وَإِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا، ثُمَّ يَعُودُونَ، فَيَقُولُ: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا ثُمَّ يَعُودُونَ، فَيَقُولُ: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا».

والعاقل يحسن الاختيار، فإن الصاحبَ غدًا هو الصاحبُ اليوم.

ألا فاتقوا الله يا عباد الله وكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واستشعروا مراقبة السميع البصير، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وقوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة، فإن الشقي من حرم رحمة الله عياذًا بالله، وتقربوا إلى ربكم بعبادته، وأكثروا في سائر أيامكم من طاعته، وصلوا وسلموا على خير الورى طرًّا، فمن صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا.

المرفقات

1673531720_أثر الأصحاب.docx

1673531730_أثر الأصحاب للجوال.pdf

1673531731_أثر الأصحاب.pdf

المشاهدات 780 | التعليقات 0