أبو طالب بطل إلى النار
راكان المغربي
أما بعد:
بطلٌ من الأبطال، تميز بالشهامة، وتحلّى بالكرم، واتصف بالشجاعة.
كان أحدَ أكبرَ دعائم الإسلام منذ بدء الدعوة إليه، نصر النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ووفر له الحماية، ودافع عنه أعظمَ الدفاع.
كان حائطَ صدٍّ أمام أذى قريشٍ للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم تزل قريشُ تخافه وتهابه وتَجْبُنُ عن الإمعان في أذى الحبيبِ صلى الله عليه وسلم حتى مات ذلك الذي كان يحميه، واضطر حينها للخروج من مكة للبحث عن حامٍ آخرَ للدعوة.
إنه أبو طالب! عمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ضحى عشر سنين للدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم والذبِّ عنه.
لكنَّ أبا طالب لم يدافعُ عن محمدٍ لأنه رسولُ الله، بل كان يدافع عنه حميةً لأنه ابن أخيه. أيقن أبو طالب بصدقه، لكنه لم يشهد بشهادة الإسلام، ورضي بدين الشرك.
كان يقول في شعره:
واللهِ لن يَصلوا إليكَ بجمعِهمْ حتى أُوَسَّدَ في الترابِ دَفينا
فاصدَعْ بأمرِك ما عليكَ غَضاضة ٌ وأبشِرْ بذاكَ، وقرَّ منهُ عُيونا
ودَعَوْتَني، وزَعمتَ أنك ناصحٌ ولقد صدقْتَ، وكنتَ ثَمَّ أَمينا
وعَرضْتَ دِيناً قد علمتُ بأنَّهُ مِن خيرِ أديانِ البريَّة ِ دِينا
لولا المَلامة ُ أو حِذاري سُبَّة ً لوجَدْتني سَمحاً بذاك مُبِينا
كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى دعوة الإسلام ليسعد بها، لينعم بها، لينجو بها، لكنه كان يأبى إلا الإصرارَ على انتحالِ دينِ آبائِه وأجدادِه. استمرت المحاولاتُ معه طوالَ عشرِ سنين، ولم يكن يجد من أبي طالب إلا الرفضَ والعناد.
حاصرت قريشٌ المسلمين في الشعب، فدخل أبو طالب مع المسلمين، وتحمل مقاطعةَ قريشٍ الاجتماعيةَ والاقتصاديةَ، أكل معهم الجلود، وتقرَّحت أشداقُه بأوراق الشجر، فصبر على كل ذلك من أجل ابن أخيه.
حتى انقضت ثلاثُ سنين من حصار الشعب، فرُفع الحصار، وخُفِّفتُ المعاناةُ على المسلمين. وبعد خروجهم بعدة أشهر يباغت المرضُ أبا طالب فيقعده في الفراش، ويبدو أنها اللحظاتُ الأخيرةُ من حياته.
يقدمُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى أبي طالب، وكله أملٌ في أن تنجحَ المحاولةُ الأخيرةُ لدعوتِه إلى الإسلام والإذعانِ لشهادة الحق.
يدخل عليه ويجد عنده رفقاءَ السَوْءِ أبا جهل وعبدَالله بن أبي أمية، يسكتان ويتكلم النبي صلى الله عليه وسلم فيقول لعمه: (يا عمِّ قُلْ : لا إلهَ إلَّا اللهُ أحاجُّ لكَ بها عندَ اللهِ). كلمةٌ واحدةٌ يريد النبي صلى الله عليه وسلم أن يستنطقَها من أبي طالب، ثم يتولى هو أمر المحاجةِ عنه عند الله ليدخلَ بها الجنة.
يتدخل شياطينُ الإنس أبو جهل وابن أبي أمية فيقولان له: (يا أبا طالبٍ أترغَبُ عن ملَّةِ عبدِ المُطَّلبِ؟!)، النبي صلى الله عليه وسلم لا ييأس ولا يسكت، هذه هي الفرصة الأخيرة (فلَمْ يزَلِ يعرِضُها عليه ويُعيدُ له تلكَ المَقالةَ:) (يا عمِّ قُلْ: لا إلهَ إلَّا اللهُ أحاجُّ لكَ بها عندَ اللهِ).
وها هو أبو طالب يستجيبُ أخيرا، ويتهيأُ للكلام، والكلُّ يترقب، يا ترى ما الذي سيتفوه به؟! تخرجُ الكلمات بصعوبةٍ فيقول لابن أخيه: "لَوْلا أنْ تُعَيِّرَنِي قُرَيْشٌ، يقولونَ: إنَّما حَمَلَهُ علَى ذلكَ الجَزَعُ لأَقْرَرْتُ بها عَيْنَكَ، ثم كان آخر ما قاله: "على ملَّةِ عبدِ المُطَّلبِ" وأبى أن يقول لا إله إلا الله.
ثم فاضت روحه إلى بارئها، والنبي صلى الله عليه وسلم يعتصر ألما وحزنا على عمه الذي أحبه وأحب هدايته، تفيضُ تلك العاطفةُ الجياشةُ من القلب الرحيم فيقول له بعد أن مات: (لَأستغفِرَنَّ لكَ ما لَمْ أُنْهَ عنكَ). ولكن أرحم الراحمين سبحانه، والذي كل رحمة في الدنيا إنما هي من جزء واحد من مئة جزء من رحمته سبحانه، أنزل الحكيم الرحيم سبحانه حكمَه العادلَ في كتابه: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ)، ونزل قوله سبحانه: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).
أنزل ذلك ليبينَ لنا أن الشركَ جريمةٌ لا تُغتفر، وأن الكفرَ مصيبة لا تَهون، وأن من وفى حقوق الناس ثم جحد حق الله فإن ذلك لن يغني عنه في الآخرة شيئا، وإن كان نال نصيبه في الدنيا. أراد أبو طالب الدنيا، وأراد سمعة الناس وذكرهم فأعطاه الله ما يريد، كما قال سبحانه: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
تعلم هذا الدرس ابنُ أبي طالب، وتلميذُ مدرسةِ النبوةِ عليُّ رضي الله عنه، فحين توفي أبوه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكله حنق وقهر فقال له: "إنَّ عمَّك الشَّيخَ الضَّالَّ قد مات فمن يواريه؟" "سؤال غاضب من إصرار هذا الشيخ على الشرك .. سؤال يَبكي هذا الشيخَ الضالَّ .. تشعر بمرارتها في حلقه وهو يقول: الضال .. كمن يقولها بعد أن استنفذ كل محاولات الإقناع لشخص متهور يريد الانتحار فأبى إلا الانتحار .. الكلمات بعد ذلك تخرج مزيجًا من الغضب والحزن والأسى.
لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان طبيبًا للقلوب .. طبيبًا للنفوس .. قال لعلي الحزين: (اذهَبْ فوارِه ولا تُحْدِثنَّ حدَثًا حتَّى تأتيَني)، قال علي: "فأتيتُه فأمرني فاغتسلتُ ثمَّ دعا لي بدعواتٍ ما يسُرُّني ما على الأرضِ بهنَّ من شيءٍ""[1]
وأما أخو أبي طالب العباسُ رضي الله عنه فقد حركته العاطفة أيضا للسؤال عن مصير أخيه، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله، هل نفعت أبا طالب بشيء، فإنه كان يحوطك، ويغضب لك؟ فقال: (نعم. هو في ضَحْضَاحٍ من النار -أي في مَوضعٍ قَريبِ القَعْرِ خَفِيفِ العَذابِ- ، ولولا أنا لكان في الدركِ الأسفلِ من النار). خُفِّف عنه العذاب، فالنار دركات بعضها أخف من بعض، لكنه باقٍ في النار لا يخرج منها خالدا مخلدا فيها أبدا.
هذا هو مصيرُ أبي طالب، وهذا هو مصير كل مات على الكفر والشرك، هذا هو حكم الله العادل (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا)
اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين
بارك الله لي ولكم..
الخطبة الثانية:
أما بعد:
في كل مرة يموت أحدٌ من الكفار الذين كانت لهم سيرةٌ حسنةٌ مع الناس في الدنيا، تثور عواطف الكثير من الناس، شفقةً على مصيره، وألماً على فقده. وهذه العاطفةُ قد تكون طبيعية، فإن النفس مجبولة على حب من أحسن إليها. ولكنَّ هذه العاطفةَ لا بد أن تنضبطَ بضوابط الشرع، فلا تكونُ هي التي تقودنا وتصوغ أفعالَنا، فالله أعلمُ منا، وأعدلُ منا، وأرحمُ بنا من أنفسنا، وحكمه هو النافذ الذي يجب علينا طاعتُه واتباعُه.
حين ثارت عاطفةُ إبراهيم عليه السلام تجاه أبيه دعا له بالمغفرة، ولكن لما عرف حكم الله توقف عن ذلك كما قال سبحانه: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ۚ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)، وكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي طالب، وعده بالاستغفار فلما نهي عنه توقف لأمر الله. ومثل ذلك حصل مع أمه حين زار قبرها "فَبَكَى وَأَبْكَى مَن حَوْلَهُ، فَقالَ: (اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي في أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا، فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ في أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا، فَأُذِنَ لِي).
وقد أجمع العلماء على عدم جوازِ الصلاةِ على من مات على الكفر أو الاستغفارِ له أو الترحمِ عليه، ولو كان ذلك جائزا لفَعَلَهُ النبي صلى الله عليه وسلم مع أمِّه وعمِّه.
فالكفرُ بالله وجحودُه والشركُ به وشتمُه بنسبةِ الولدِ والصاحبةِ إليه جرائمٌ كبيرة، وذنوبٌ عظيمة، لا يمحوها شيء إلا التوبة منها، قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا ۖ لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ (162) وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ)
وننبه إلى أن مذهب أهلِ السنة أنهم لا يشهدون لأحدٍ معينٍ بالجنة أو بالنار إلا بنص شرعي من الكتاب والسنة، فإذا لم يوجد نصٌ فلا نحكم على أحد بعينه، وإنما نحكم بالحكمِ العام الذي حكم به اللهُ ورسولُه "فالشهادة بالجنة والنار تنقسم إلى قسمين :-
القسم الأول الشهادةُ العامة: المتعلقة بوصف، كأن تقول : من أشرك بالله تعالى شركاً أكبر فقد كفر وخرج من الدين وهو في النار ]فهذه شهادةُ حقٍّ ثبتت بالقرآن والسنة نعلنُها ونبينُها للناس[
والقسم الثاني الشهادة الخاصة أو المعيّنة : لشخص بذاتِه واسمِه أنه في الجنة أو في النار ، فهذه لا تجوز إلا في حق من أخبر الله تعالى عنه ، أو رسوله أنه في الجنّة أو في النار .
فمن شهد لهم الله أو رسوله بالجنة بأعيانهم فهم من أهلها قطعا كالعشرة المبشرين بالجنة. وممن شهد له الشّرع بالنار على التعيين فهو من أهلها كأبي لهب، وامرأتِه، وأبي طالب وغيرِهم."[2]
ولكن من مات على الكفر في الظاهر، فإنه تجري عليه أحكامُ الكفرِ في الدنيا، فلا نصلي عليه ولا ندعو له بالرحمة أو المغفرة، وإن لم نكن نجزم أنه في النارِ بعينِه.
اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام راقدين.
[1] السيرة النبوية لمحمد الصوياني (1/177) بتصرف يسير.
[2] موقع الإسلام سؤال وجواب (رقم السؤال: 731) بتصرف
المرفقات
1652949066_أبو طالب بطل إلى النار.docx
1652949066_أبو طالب بطل إلى النار.pdf