أبو بكر الصديق رضي الله عنه
فهد عبدالله الصالح
أيها المسلمون : إن التاريخ الإنساني بعرضه وطوله لم يشهد من الصدق والتوثيق وتحرى الحق والحقيقة مثل ما شهد تاريخ الإسلام في سير رجاله السابقين , رجال اشتد بالله عزمهم وصدقت بالله نواياهم , في غايات شريفة من الإيمان والإصلاح نذروا لها حياتهم , صدقوا ما عاهدوا الله عليه في تضحية وفداء , إنه لم يشهد كما شهد في الرجال من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين , كيف أنجز هؤلاء الإبرار هذا الإنجاز وفتحوا هذه الفتوحات في بضع سنين، كيف أقاموا بكتاب الله نظاماً جديداً , أضاءوا الإنسانية بحقيقة التوحيد وصفاء العقيدة ونور الشريعة عاشوا مع نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، نفوس صدقت في إيمانها فتولدت فيها قوة الثبات وحقيقة الولاء , فكان ذلك البذل العظيم الذي بذلوا والهول الشديد الذي احتملوا , والفوز الكبير الذي حازوا لقد حرروا البشرية من وثنية العبودية , عبودية الأموات وعبودية الأحياء.
أيها الإخوة : وهذه وقفة مع سيرة رجل من هؤلاء الرجال , بل إنه رجل لا كالرجال , إنه الصديق أبو بكر خليفة رسول الله الأول , والمؤمن الأول من الرجال رضي الله عنه وأرضاه , وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيراً , سبق إلى الإيمان وبادر إلى الرفقة , ولازم الصحبة واختص بالمرافقة في الغار والهجرة ( ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا )
نعم أيها المصلون : إن الأمة بحاجة إلى الاقتداء والتأسي بهؤلاء الرجال وبتاريخهم المشرف الذي أقاموه بهدى الله ومن جهدهم وبذلهم , دروس عظام نأخذها من بعض سيرة هذا الرجل العظيم والصحابي الكريم .
من سره أن ينظر إلى عتيق من النار فلينظر إلى أبي بكر كيف لا وقد أعلن المصطفي الأول وهو على المنبر خطيباً (إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذلاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر ولكن إخوة الإسلام ومودته), وفي حديث آخر (إن الله بعثني إليكم فقلتم : كذبت , فقال أبو بكر : صدقت , وواساني بنفسه وماله , فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟).
أبو بكر الأبيض النحيف اللطيف , خفيف العارضين , جعد الشعر , دقيق الساقين , خفيف اللحم , يخضب بالحناء والكتم , وهو الوقور ، جميل السمت , يغار على مروءته , ويتجنب ما يريب , ما سجد لصنم قط ، ولم يشرب الخمر في الجاهلية , لأنها تخل بوقار مثله , وقد سئل عن ذلك يوماً فقال : كنت أصون عرضي وأحفظ مروءتي .
أيها الإخوة في الله : أصحاب المقامات والقيادات وذو الشرف والوجاهات يعتصمون بالوقار والاحتشام , ويستزيدون من خلائق الصدق والمروءة والوفاء في شفافية النفس , ورهافة حس , لقد بلغت نفسه قصارى ما تبلغه نفس طيبة من رعاية حقوق الناس ومسارعة إلى الخيرات , ودرء للشرور وساقط الأمور .
أبو بكر يكره أن يسيء إلى أحد لأنه ـ وهو الودود المؤدب ـ يعلم ما توقعه الإساءة في النفس من الم قد يخرجها من طورها في حلمها وأناتها , لقد كان يتحاشى السقط من الكلام وإذا مدحه مادح قال : اللهم أنت أعلم مني بنفسي واغفر اللهم لي مالا يعلمون واجعلني خيراً مما يظنون
لقد كان كريم النزعات والطوايا , سريع التأثر بماسي من حوله مع طموح عجيب إلى المثل العليا , يسابق إلى الخيرات ويبادر إلى صنوف البر والإحسان ومواساة ذوي الحاجات .
صلى رسول الله الفجر ذات يوم بأصحابه فلما قضى صلاته قال (أيكم أصبح اليوم صائماً؟ قال أبو بكر أنا ، قال : من تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر : أنا , قال : من اطعم اليوم مسكيناً؟ قال أبو بكر : أنا , قال : فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر : أنا , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة) أخرجه مسلم .
ومن أجل هذا فلا جرم أن يقول عمر وعلى رضي الله عنهما : ما سابقنا أبا بكر إلى خير قط إلا سبقنا عليه , فما أجمل أن يسعي الإنسان في الخير وأن يبحث عن الأجر في كافة مجالات الحياة لا يحتقر شيئاً ولا يضيع فرصة بل يغتنمها , فالحياة قصيرة وهي فرصة الإعمال الوحيدة
أيها المسلمون : لقد كان أبو بكر رجلاً تاجراً فلما أسلم سخر كل ماله في سبيل الإسلام وقضايا المسلمين صار يشتري بماله كل من أسلم من العبيد والإماء ممن يعذبهم مواليهم لأجل إسلامهم ثم يعتقهم حتى أعتنق عشرين من السابقين الأولين منهم بلال , وبادر إلى الدعوة إلى الله تعالى فأسلم على يده في أول يوم لإسلامه خمسة من العشرة المبشرين بالجنة ثم أسلم على يده بعدها أبو عبيدة ، وسخر أبو بكر كل إمكاناته في خدمة الدعوة ونصرة الإسلام .
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ما لأحد عندي يد إلا كافأته بها إلا ما كان من أبي بكر فإن له عندي يداً والله يكافئه بها ما نفعني مال أحد قط ما نفعني مال أبي بكر).
ولم يكتفي رضي الله عنه ببذل نفسه في سبيل الدين بل بجميع أسرته لقد ترك موطنه ومسكنه وأهله وعشيرته وأمواله مهاجراً ومخاطراً إلى المدينة نصرة لدين الله ورسول الله , ما ترك غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم إلا وخرج فيها بنفسه مجاهداً في سبيل الله بسيفه كما جاهد بماله .
أيها المسلمون : إن الرجل حتى يكون غني النفس محبوباً عند الخلق فإنه يجب عليه أن يترفع عن الحاجة للمخلوقين لقد كان من سيرة أبي بكر الصديق أنه لم يطلب من مخلوق شيئاً , بل إنه إذا سقط سوطه من يده لا يقول لأحد ناولني إياه ويقول (إن خليلي صلى الله عليه وسلم أمرني ألا اسأل الناس شيئاً)رواه أحمد
والرجل الشريف في قومه المحافظ على هيبته وسمته المحترم لنفسه ولغيره الذي لا يضع نفسه موضع الريب ولا يغشى أماكن ليست لمثله , مثل هذه الرجل يكون مهاباً ومحترماً ويقدر حق قدره , ولهذا لما خرج من مكة مهاجراً الهجرة الأولى للحبشة لقيه ابن الدغنة فقال إلى أين ذاهب قال فاراً بديني لأعبد الله فقال ابن الدغنة إن مثلك لا يخرج ولا يخرج إنك رجل تكرم الضيف وتساعد الملهوف وتعين على نوائب الدهر فأمره بالرجوع إلى بلده ورجع معه وأنكر على من ضايقه وجعله تحت حمايته .
عباد الله : لئن كان أبو بكر أليفاً مألوفاً سمحاً ودوداً ليناً سهلاً حسن الحديث أديب المجالسة – فلتعلموا أيها الأحبة أن هذا الرفيع من السجايا والجميل من المحامد يؤازره قسط وافر من رجاحة العقل وحصيف الذكاء الذي يتميز به ويحتاجه ذو الأقدار الكبيرة من الرجال , فقد قيل فيه وفي أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما (هما داهيتا قريش) ولقد كان أبو بكر أسرع إلى الفطنة والإدراك فيما يعرض به النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه من التلميح دون التصريح .
يحدث أبو سعيد ألخدري رضي الله عنه يقول : جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يوماً فقال (عبد خيره الله أن يؤتيه زهرة الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده) فبكى أبو بكر , وقال : فديناك بأبائنا وأمهاتنا , فكان رسول الله هو المخير وكان أبو بكر أعلمنا به .
ويقترن بدماثة الخلق وهدوء الطبع ورجاحة العقل قوة في الحق وشجاعة في النفس وإخلاص للمبدأ , فحين أسلم أعلن إسلامه وجهر بصلاته ولقي من الأذى في مكة ما لقي وتحمل في ذلك ما تحمل , شهد المشاهد كلها وكانت معه الراية يوم تبوك ولم تذكر له قط هزيمة في ساعة من ساعات الشدة لا في أحد ولا في الخندق ولا في حنين ولا ثبت أحد حيث يصعب الثبات إلا كان هو أول الثابتين , لم يفارق حبيبه وصاحبه صلى الله عليه وسلم لا حضراً ولا سفراً .
ولقد اجتمعت تلك الصفات كلها وبرزت في أجلي صورها وأبهى ممارستها حينما تولى الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقد كان خير خليفة أرحم الناس وأحناهم عليهم في عفة وصدق ودعة وحزم وأناة وكيس ويقظة ومتابعة الضعيف عنده قوي حتى يأخذ الحق له والقوي عنده ضعيف حتى يأخذ الحق منه , نعم لقد كان قوة للضعيف ونصفه للمظلوم ومفزعاً للملهوف فهو الخليقة الشفيق وهو الراعي الرفيق , يذود الأمة عن مراتع الهلكة ويحمي من الحر والقر يهتم بشئونهم ويغتم لشكايتهم وصي اليتامى وخازن المساكين كالقلب بين الجوانح تصلح بصلاحه كل الجوارح .
أيها الإخوة : والحديث يطول في مسيرة هذا الرجل العظيم , مواقف صادقة وأخلاق عالية إخلاص لله في النوايا والأعمال وبعد عن ما يشين الرجال , فهل تعي الأمة ويعي شبابها هذه القدوات وبالذات في زمن الذل والهوان في زمن اختلال القيم والمبادي؟؟
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).
الخطبة الثانية :
ولما ولي الخلافة نزل بنفسه إلى السوق ليتكسب بالتجارة كما كان قبل أن يليها فلقيه عمر وقال (اذهب إلى أبي عبيدة وكان أميناً على بيت المال ليفرض لك راتباً كي تتفرغ لأمر المسلمين) فقبل وهو كاره .
ومع ذلك لما حضرت وفاته حسب كل ما كان أخذه من بيت المال من الرواتب فرده فيه وكان قد أخذ من بيت المال قعباً يشرب فيه ووسادة من ليف وجارية لتخدمه فرد ذلك كله حتى لم يبق لأهله إلى اليسير فقال عمر رضي الله عنه (لقد اتعب أبو بكر من جاء بعده)وكانت خلافته حافلة بالأعمال العظيمة في بلاد فارس وبلاد الروم .
وتجدون أيها الإخوة في الله : في سيرة أبي بكر جهاد المؤمن الصادق الذي يبذل نفسه لله ويرفع علم الدين قال على رضي الله عنه يوماً لأصحابه : ناشدتكم الله أي الرجلين خير مؤمن آل فرعون أو أبو بكر؟ فامسك القوم , فقال علي : والله ليوم واحد من أبى بكر خير من مؤمن آل فرعون ذلك رجل كتم إيمانه فأثنى الله عليه وهذا بذل نفسه ودمه .
وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(أبو بكر وعمر من هذا الدين كمنزلة السمع والبصر من الرأس) وعن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (هذا أي أبي بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين) رواه الترمذي وصححه الألباني .
وقال في حديث أخر (اقتدوا بالذين من بعدي : أبي بكر وعمر).
فاتقوا الله يا أمة الإسلام واقتدوا بالصالحين من عباد الله وتأملوا سيرهم وربوا أنفسكم وأهليكم عليها.
هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة عليه ..............