أبو الوليد والعروضُ المغرية

HAMZAH HAMZAH
1442/12/26 - 2021/08/05 23:32PM
  الحمدُ للهِ الذي جعل القرآنَ للناس بيانًا ، وجعل فيه موعظةً وبرهانًا ، وهدى له عباده رحمةً وامتنانا ، نحمدُه على آلائهِ الكثيرة، ونعمِه الوفيرة… ونشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريك له ، ونشهدُ أنّ محمدًا عبده ورسوله ، صلّى اللهُ عليه وعلى آلِه وصحبِه وسلم تسليمًا مزيدًا..   ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) . أما بعد : أيها الناس :  لا تزالُ قريشٌ في حَيرةٍ من أمر رسول الله ، والدعوةِ الجديدة ، والطائفةِ المؤمنة ، وتزايدِ الناس، والكلامِ المؤثر والخطاب الأخلاقي الراقي… مما شوّش على قريش ، وسفّه دينَها وعقولها، وشجع الآخرين على الانضمام … وذاتَ يومٍ جاءَ عتبةُ بنُ ربيعة فقال:   يا معشرَ قريشٍ ، ألا أقومُ إلى محمد فأكلِّمُه ؟! فقالوا: بلى يا أبا الوليد، قم إليه فكلمه،  فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا ابنَ أخي؛  إنك منا حيث قد علمت من السِّطة في العشيرة-أي الشرف- والمكان في النسب  ، وإنك قد أتيتَ قومَك بأمرٍ عظيم ، فرَّقتَ به جماعتَهم ، وسفّهت به أحلامَهم  وعبتَ به آلهتَهم ودينَهم  وكفرتَ به من مضى من آبائهم ، فاسمع مني أعرضْ عليك أمورا ، تنظر فيها ، لعلك تقبل منها بعضَها . قال: فقال له رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- : قل يا أبا الوليد أسمع قال: يا ابنَ أخي إن كنتَ إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالًا ، جمعنا لك من أموالِنا ، حتى تكونَ أكثرَنا مالا!  وإن كنتَ تريدُ به شرفًا، سوّدناك علينا حتى لا نقطعَ أمرا دونك  ، وإن كنتَ تريد به مُلكاً ملّكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه-أي من الجن- لا تستطيع ردَّه عن نفسِك، طلبنا لك الطب ، وبذلنا فيه أموالَنا حتى نبرئك منه ، فإنه ربما غلبَ التابعُ على الرجل ، حتى يُداوى منه أو كما قال له، …! حتى إذا فرغَ عتبةُ، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستمع منه قال: أقد فرغتَ يا أبا الوليد ؟ قال: نعم.. قال:  فاسمع مني  قال: أفعل.. قَالَ : بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ (حم  تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ  كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ  بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ  وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ). سورة فُصّلَتْ . ثم مضى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فيها يقرؤها عليه ، فلما سمعها منه عتبة أنصتَ لها، وألقى يديه خلفَ ظهرهِ معتمدا عليهما  يسمع منه ، ثم انتهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى السجدة منها؛ فسجد ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك . وفي رواية أنه تلاها حتى بلغ:( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ..) فقال: ناشدتك الله والرحم، هلا سكتّ؛…؟!   فقام عتبةُ إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض: نحلفُ بالله لقد جاءكم أبو الوليد ، بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد ؟ قال: ورائي .. أني قد سمعتُ قولاً، والله ما سمعتُ مثلَه قط،  واللهِ ما هو بالشعر ، ولا بالسحر ، ولا بالكهانة،  يا معشرَ قريش : أطيعوني واجعلوها بي  ، وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه ، فوالله ليكونَنَّ لقوله الذي سمعت منه نبأٌ عظيم ، فإن تُصبْه العرب فقد كُفيتموه بغيركم، وإن يظهرْ على العرب ، فملكُه ملككم ، وعزه عزُّكم ، وكنتم أسعدَ الناس به. قالوا: سحَرك والله يا أبا الوليد بلسانه..،!!  فقال: هذا رأيي فيه ، فاصنعوا ما بدا لك.   وهنا وقفاتٌ ودروس .. جديرٌ بنا تأمُّلها والانتفاع بها : أولاها: ثباتُ رسول الله وقناعتُه بمنهجه وطريقه، وعدمُ اكتراثِه بهذه الإغراءات من المال والملك والنساء ..( أتمدوننِ بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم) سورة النمل .   ثانيها: عِظمُ وقعِ القرآن عند من أصغى له، ووعى خطابَه ، وتأمل ما فيه من ترغيب وترهيب…( قد جاءتكم موعظةٌ من ربكم وشفاء لما في الصدور ) سورة يونس . وثالثها : أدبُ رسول الله ، وحسنُ إصغائه لمخالفيه ، وهو درسٌ في الحوار والمناظرات . ورابعها : يقينُ مشركي مكةَ بظهور هذا الدين، وأن علاماتِ الحق ظاهرةٌ ، ودلائلَ الصدق ساطعةٌ ، ولكن ركبهم العنادُ، وتسلط عليهم الضلال ..( وقالوا لو كنا نسمعُ أو نعقلُ ما كنا في أصحاب السعير ) سورة الملك . وخامسها : أنّ القرآنَ حقٌ من عند الله ، قد تلألأت نصوصُه، وبزغت براهينُه ، ليس بسحرٍ ولا شعر ولا كهانة..( إن هو إلا ذكرٌ للعالمين ، ولتَعلمُنَّ نبأه بعد حين ).   وسادسها : أنّ المبادئَ لا تُشترى بالأموال عند من يعتقدها ، ويعيش من أجلِها ، ويَحتملُ من أجلها كل شدةٍ وبلاء ..!   اللهم وفقنا للخيرات ، وجنبنا الغفلةَ والحسرات…. أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائر المسلمين….. …… الحمدُ لله وحده، والصلاةُ والسلام على من لا نبيَ بعده، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبِه أجمعين … وبعد :  ويظهر في القصة يا مسلمون : تأثرُ عتبةَ بن ربيعة، وليونتُه للحق ، ولكنَّ قريشاً اتهمته، وأعرضت عن قوله وعقلانيته ، وقدموا التراثَ الجاهلي على الوعي الإيماني المستقبلي..( ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ).(سورة الانعام: ٣٣ . ومن دروسِ القصة : أن الإسلامَ مصيرهُ ومنتهاه إلى النصر والتمكين، وإن ضعف أهلُه ابتداءً ، وشقي حملتُه، وقد أدرك ذلك المشركُ العاقل ، فكيف يترددُ فيه بعضُ أهل الإسلام ، ويتلعثمُ حينما يرى التطورات الغربية..؟! ، ويعيشُ آلامَ الذل والمهانة ، قال تعالى :( وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) . سورة آل عمران : ١٣٩ . ومن دروسِها : خطورةُ رفقاءِ السوء ومجالستِهم على الدين والخلق ، فكاد عتبةُ أن يسلمَ لولا تواطؤ أهل مكة وسادتها عليه ، حتى حُرمَ هذه النعمة، فقُتل مشركًا يوم بدر ، والله المستعان . ومنها : أن أساليبَ الأعداء تتنوعُ ما بينَ ترغيبٍ وترهيب، أو تلويح أو تجريح ، حتى يصيبوا هدفَهم، وأن لديهم من التضحية المالية والاجتماعية ما يحافظون بسببه على عقائدهم الفاسدة ..! فكيف بحالِنا نحنُ أهلَ الإسلام ، … جهدٌ فاتر، وبخلٌ حاصل ، واستقامةٌ متقلبة ، ..؟! وقد اشتهرَ قولُ عمرَ الفاروقِ رضي الله عنه:" اللهم إني أعوذُ بك من جلَد الفاجر، وعجز الثقة " .   هدانا اللهُ وإياكم لأحسنِ الأقوال والأفعال والأعمال، إنه جوادٌ كريم … وصلوا وسلّموا يا مسلمون….
المشاهدات 910 | التعليقات 0