أبواب من الصدقة
مبارك العشوان
1436/04/16 - 2015/02/05 22:30PM
Size="5"]إن الحمد لله ... أما بعد: فقد روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أَبِي ذَرٍّ رضي الله أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ، قَالَ أَوَ لَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ؟ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ ؟! قَالَ أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرًا ) . وعن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ فَقَالَ وَمَا ذَاكَ قَالُوا يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ وَيُعْتِقُونَ وَلَا نُعْتِقُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً ) قَالَ أَبُو صَالِحٍ فَرَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الْأَمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا فَفَعَلُوا مِثْلَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِهِ مَنْ يَشَاءُ ) رواه مسلم
رضي الله عن صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرضاهم، يجتهدون في الأعمال ما لا يجتهد غيرهم، ويحزنون على فوات ما لا يقدرون عليه من الخير؛ يحزن فقراؤهم، وعلى أي شئ يا ترى يحزنون ؟! أعلى حطام الدنيا وشهواتها وملـذاتها ؟! كلا والله؛ إنما حزنوا على فوات الصدقة بالأموال التي يقدر عليها الأغنياء دونهم، حزنوا على التخلف عن الجهاد لعدم القدرة على آلته، كما قال تعالى: { وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِـلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقـُونَ } التوبة92 . عند ذلك دلهم النبي صلى الله عليه وسلم على أبواب من الخير يقدرون عليها ويدركون بها من سبقهم، دلهم على ذكر الله تعالى، تلك العبادة الميسرة يستطيعها الغني والفقير، والقوي والضعيف، والقائم والقاعد والراكب والماشي، عبادة على اللسان خفيفة، وفي الميزان ثقيلة، عبادة تحيا بها القلوب وتطمئن: { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلــُوبُ } الرعد 28 جاء في الحديث أنها خير الأعمال وأزكاها: ( أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟ قَالُوا بَلَى قَالَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى ) أخرجه الترمذي وصححه الألباني قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا شَيْءٌ أَنْجَى مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ.
عباد الله: وهذا من فضل الله تعالى على عباده، أن يسر لهم العبادات ونوع فيما يتقربون به إليه، فكما يستطيع الغني أن يتصدق، فإن الله تعالى لم يحرم الفقير من هذا الباب من العبادة.
وقد ذكر الإمام ابن رجب رحمه الله في كتابه جامع العلوم والحكم: أن الصدقة بغير المال نوعان: أحدهما ما نفعه قاصر على فاعله كأنواع الذكر من التكبير والتسبيح والتحميد والتهليل والاستغفار، وكذلك المشي إلى المساجد وغيره .
والنوع الثاني من الصدقة بغير المال: ما فيه تعدية الإحسان إلى الخلق فتكون صدقة عليهم، وربما كانت أفضل من الصدقة بالمال وهذا كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه دعاء إلى طاعة الله، وكف عن معاصيه وذلك خير من النفع بالمال وكذلك تعليم العلم وإقراء القرآن وإزالة الأذى عن الطريق والسعي في جلب النفع للناس ودفع الأذى عنهم وكذلك الدعاء للمسلمين والاستغفار لهم .
وفي الحديث: ( كُلُّ سُلاَمَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ؛ يَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا أَو يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ وَكُلُّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلاَةِ صَدَقَةٌ، وَيُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ ) رواه البخاري ومسلم .
بارك الله لي ولكم في القرآن ... أقول ما تسمعون ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله ... أما بعد: فإن من أنواع الصدقة كف الأذى عن الناس ففي البخاري من حديث أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ، قُلْتُ فَأَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ أَعْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا، قُلْتُ فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ، قَالَ تُعِينُ ضَايِعًا أَوْ تَصْنَعُ لِأَخْرَقَ، قَالَ فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ، قَالَ تَدَعُ النَّاسَ مِنْ الشَّرِّ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَدَّقُ بِهَا عَلَى نَفْسِكَ ) نعم عباد الله، من الصدقة أن تدع الناس من الشر؛ وما أشد الحاجة إلى هذه الصدقة في زمن كثرت فيه الاعتداءات على حقوق الآخرين، كثر فيه الاعتداء على الأنفس بالضرب والجرح والقتل، كثر فيه الاعتداء على الأموال بالنهب والسرقة والغش والخداع.
فكف أيها المسلم شرك عن الناس، كف أذى يدك، كف أذى لسانك، كف أذى قلمك، واعلم أن المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده؛ إياك أخي المسلم إياك وغيبة الناس فقد شبه المغتاب بمن يأكل لحم أخيه ميتا، لا تسب ولا تشتم و لا تلمز أحدا من الناس أو تنبزه بلقب، كف هذا الشر عن الناس وفقك الله.
ومن أنواع الصدقة عباد الله، ومن أفضلها: النفقة على الأهل والأولاد فعن عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( أَفْضَلُ الدِّينَارِ دِينَارٌ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ عَلَى عِيَالِهِ، وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ عَلَى دَابَّتِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي سَبِيلِ اللَّه ) قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: بَدَأَ بِالعِيَالِ.
ثُمَّ قَالَ: ( فَأَيُّ رَجُلٍ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ رَجُلٍ يُنْفِقُ عَلَى عِيَالٍ لَهُ صِغَارٍ يُعِفُّهُمُ اللَّهُ بِهِ وَيُغْنِيهِمُ اللَّهُ بِهِ ) أخرجه الترمذي وقال هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وقال الألباني : صحيح
وقال عليه الصلاة والسلام: ( إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فَمِ امْرَأَتِكَ ) رواه البخاري وفي الحديث الآخر: ( دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ) رواه مسلم
ومن أنواع الصدقة عباد الله: ما جاء في صحيح البخاري أن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ( مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ ) .
ومن أنواع الصدقة ماجاء عن أبي جُرَيٍّ الْهُجَيْمِيُّ رضي الله عنه قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فعلِّمنا شَيْئًا يَنْفَعُنَا اللَّهُ بِهِ فقَالَ: ( لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْمُسْتَسْقِي وَلَوْ أَنْ تُكَلِّمَ أَخَاكَ وَوَجْهُكَ إِلَيْهِ مُنْبَسِطٌ وَإِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الْإِزَارِ فَإِنَّهُ مِنَ الْمَخِيلَةِ وَلَا يُحِبُّهَا اللَّهُ وَإِنِ امْرُؤٌ شَتَمَكَ بِمَا يَعْلَمُ فِيكَ فَلَا تَشْتُمْهُ بِمَا تَعْلَمُ فِيهِ فَإِنَّ أَجْرَهُ لَكَ وَوَبَالَهُ عَلَى مَنْ قاله) أخرجه ابن حبان وقال الألباني صحيح
ومن أنواع الصدقة أداء حقوق المسلم على المسلم ومنها ما جاء في البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ رَدُّ السَّلَامِ وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ ) وما في البخاري أيضا من حديث الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَمَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَإِجَابَةِ الدَّاعِي وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ وَرَدِّ السَّلَامِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ ... ) الخ
وفي رواية لمسلم : ( وإرشاد الضال ) بدل إبرار القسم.
ومن الصدقات إنظار المعسر فعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ لَهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ ) أخرجه الترمذي وصححه الألباني
ومنها الإحسان إلى البهائم كما قال النبي صلى الله عليه: ( بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَنَزَلَ بِئْرًا فَشَرِبَ مِنْهَا ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ فَقَالَ لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي فَمَلَأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ ثُمَّ رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا قَالَ فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ ) رواه البخاري
فاتقوا الله عباد الله واجتهدوا في الأعمال الصالحة مادمتم في دار العمل تزودوا فإن خير الزاد التقوى، لا تحقروا من العمل شيئا فقد قال تعالى: { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } الزلزلة 7ـ 8
ثم صلوا وسلموا ...
عباد الله : اذكروا الله العظيم ...
رضي الله عن صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرضاهم، يجتهدون في الأعمال ما لا يجتهد غيرهم، ويحزنون على فوات ما لا يقدرون عليه من الخير؛ يحزن فقراؤهم، وعلى أي شئ يا ترى يحزنون ؟! أعلى حطام الدنيا وشهواتها وملـذاتها ؟! كلا والله؛ إنما حزنوا على فوات الصدقة بالأموال التي يقدر عليها الأغنياء دونهم، حزنوا على التخلف عن الجهاد لعدم القدرة على آلته، كما قال تعالى: { وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِـلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقـُونَ } التوبة92 . عند ذلك دلهم النبي صلى الله عليه وسلم على أبواب من الخير يقدرون عليها ويدركون بها من سبقهم، دلهم على ذكر الله تعالى، تلك العبادة الميسرة يستطيعها الغني والفقير، والقوي والضعيف، والقائم والقاعد والراكب والماشي، عبادة على اللسان خفيفة، وفي الميزان ثقيلة، عبادة تحيا بها القلوب وتطمئن: { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلــُوبُ } الرعد 28 جاء في الحديث أنها خير الأعمال وأزكاها: ( أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟ قَالُوا بَلَى قَالَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى ) أخرجه الترمذي وصححه الألباني قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا شَيْءٌ أَنْجَى مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ.
عباد الله: وهذا من فضل الله تعالى على عباده، أن يسر لهم العبادات ونوع فيما يتقربون به إليه، فكما يستطيع الغني أن يتصدق، فإن الله تعالى لم يحرم الفقير من هذا الباب من العبادة.
وقد ذكر الإمام ابن رجب رحمه الله في كتابه جامع العلوم والحكم: أن الصدقة بغير المال نوعان: أحدهما ما نفعه قاصر على فاعله كأنواع الذكر من التكبير والتسبيح والتحميد والتهليل والاستغفار، وكذلك المشي إلى المساجد وغيره .
والنوع الثاني من الصدقة بغير المال: ما فيه تعدية الإحسان إلى الخلق فتكون صدقة عليهم، وربما كانت أفضل من الصدقة بالمال وهذا كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه دعاء إلى طاعة الله، وكف عن معاصيه وذلك خير من النفع بالمال وكذلك تعليم العلم وإقراء القرآن وإزالة الأذى عن الطريق والسعي في جلب النفع للناس ودفع الأذى عنهم وكذلك الدعاء للمسلمين والاستغفار لهم .
وفي الحديث: ( كُلُّ سُلاَمَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ؛ يَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا أَو يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ وَكُلُّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلاَةِ صَدَقَةٌ، وَيُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ ) رواه البخاري ومسلم .
بارك الله لي ولكم في القرآن ... أقول ما تسمعون ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله ... أما بعد: فإن من أنواع الصدقة كف الأذى عن الناس ففي البخاري من حديث أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ، قُلْتُ فَأَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ أَعْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا، قُلْتُ فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ، قَالَ تُعِينُ ضَايِعًا أَوْ تَصْنَعُ لِأَخْرَقَ، قَالَ فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ، قَالَ تَدَعُ النَّاسَ مِنْ الشَّرِّ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَدَّقُ بِهَا عَلَى نَفْسِكَ ) نعم عباد الله، من الصدقة أن تدع الناس من الشر؛ وما أشد الحاجة إلى هذه الصدقة في زمن كثرت فيه الاعتداءات على حقوق الآخرين، كثر فيه الاعتداء على الأنفس بالضرب والجرح والقتل، كثر فيه الاعتداء على الأموال بالنهب والسرقة والغش والخداع.
فكف أيها المسلم شرك عن الناس، كف أذى يدك، كف أذى لسانك، كف أذى قلمك، واعلم أن المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده؛ إياك أخي المسلم إياك وغيبة الناس فقد شبه المغتاب بمن يأكل لحم أخيه ميتا، لا تسب ولا تشتم و لا تلمز أحدا من الناس أو تنبزه بلقب، كف هذا الشر عن الناس وفقك الله.
ومن أنواع الصدقة عباد الله، ومن أفضلها: النفقة على الأهل والأولاد فعن عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( أَفْضَلُ الدِّينَارِ دِينَارٌ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ عَلَى عِيَالِهِ، وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ عَلَى دَابَّتِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي سَبِيلِ اللَّه ) قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: بَدَأَ بِالعِيَالِ.
ثُمَّ قَالَ: ( فَأَيُّ رَجُلٍ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ رَجُلٍ يُنْفِقُ عَلَى عِيَالٍ لَهُ صِغَارٍ يُعِفُّهُمُ اللَّهُ بِهِ وَيُغْنِيهِمُ اللَّهُ بِهِ ) أخرجه الترمذي وقال هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وقال الألباني : صحيح
وقال عليه الصلاة والسلام: ( إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فَمِ امْرَأَتِكَ ) رواه البخاري وفي الحديث الآخر: ( دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ) رواه مسلم
ومن أنواع الصدقة عباد الله: ما جاء في صحيح البخاري أن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ( مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ ) .
ومن أنواع الصدقة ماجاء عن أبي جُرَيٍّ الْهُجَيْمِيُّ رضي الله عنه قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فعلِّمنا شَيْئًا يَنْفَعُنَا اللَّهُ بِهِ فقَالَ: ( لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْمُسْتَسْقِي وَلَوْ أَنْ تُكَلِّمَ أَخَاكَ وَوَجْهُكَ إِلَيْهِ مُنْبَسِطٌ وَإِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الْإِزَارِ فَإِنَّهُ مِنَ الْمَخِيلَةِ وَلَا يُحِبُّهَا اللَّهُ وَإِنِ امْرُؤٌ شَتَمَكَ بِمَا يَعْلَمُ فِيكَ فَلَا تَشْتُمْهُ بِمَا تَعْلَمُ فِيهِ فَإِنَّ أَجْرَهُ لَكَ وَوَبَالَهُ عَلَى مَنْ قاله) أخرجه ابن حبان وقال الألباني صحيح
ومن أنواع الصدقة أداء حقوق المسلم على المسلم ومنها ما جاء في البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ رَدُّ السَّلَامِ وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ ) وما في البخاري أيضا من حديث الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَمَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَإِجَابَةِ الدَّاعِي وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ وَرَدِّ السَّلَامِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ ... ) الخ
وفي رواية لمسلم : ( وإرشاد الضال ) بدل إبرار القسم.
ومن الصدقات إنظار المعسر فعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ لَهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ ) أخرجه الترمذي وصححه الألباني
ومنها الإحسان إلى البهائم كما قال النبي صلى الله عليه: ( بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَنَزَلَ بِئْرًا فَشَرِبَ مِنْهَا ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ فَقَالَ لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي فَمَلَأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ ثُمَّ رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا قَالَ فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ ) رواه البخاري
فاتقوا الله عباد الله واجتهدوا في الأعمال الصالحة مادمتم في دار العمل تزودوا فإن خير الزاد التقوى، لا تحقروا من العمل شيئا فقد قال تعالى: { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } الزلزلة 7ـ 8
ثم صلوا وسلموا ...
عباد الله : اذكروا الله العظيم ...
زياد الريسي - مدير الإدارة العلمية
نفع الله بعلمك وزادك الله من فضله وعلمه وبارك الله فيك وفي تواجدك
تعديل التعليق