آسية ... قدوة المؤمنين

كانت تعيش في سُدة المجد .. وترتقي عرش الملوك.. يحيط بها الخدم والحشم والحراس من كل جانب ... حتى لو شائت لم تمس لها قدم صعيداً أو ترابا ..

 

القول قولها .. والأمر أمرها ..

لا تملك قصراً مزيناً بما حوله من روائع الأشجار والزروع ... لا.. بل في ملكها وتحت أمرها قصور وقصور.. وبساتين ورياض غاية في الجمال والأبهة والعظمة .. حتى لكأنها نسجٌ نُسجَ من خيال ..

 

أخوة الإيمان..

يحار الفؤاد كيف يفهم كنه تلك النفس الكبيرة، والروح العظيمة..

والله إن القلب ليرتجف... والبنان يحاول أن يسطر شيئاً يسيراً عن سيرة لا كالسير ..  سيرة هي أعجوبة الدهر بحق ..

 

 فنحن على موعدٍ اليوم مع الصديقة الصادقة ، والراضية المرضية، والمؤمنة التقية، الراسخة الثابتة الأبية، الزاهدة الصفية، الشهيدة الهنية، نحن على موعدٍ مع البطلة التي انتصرت بإيمانها على أقوى جبّارٍ عرفته البشرية ..

 

نحن في حضرة الكاملة المكملة .. التي خلد الله ذكرها في آي الكتاب.. مثلاً يضربه الله لكل مؤمن يتلمس طريق النجاة .. ويهفو إلى الصراط المستقيم والنهج القويم ... عقيدة وإيماناً ومنهجاً وثباتاً .. فقال جل وعلا :

«وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ»

 

آسية بنت مزاحم زوجة فرعون...

 

الملكة المؤمنة  في بيت الملك الكافر المعاند ..

البرة التقية في مملكة الشقي الفاجر ...

 

روى البخاري ومسلم  عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ: إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ)

 

تعالوا بنا نتلمس ذلك الكمال البشري .. والاصطفاء والرباني ..

 

لقد كان *المعلم الأول* في اصطفاء الله لهذه المرأة القدوة ... أن جعلها الله سبباً في استبقاء موسى الرضيع عليه السلام فلم تنله سكين القتلة من جنود فرعون وزبانيته ..

وذلك أن الجواري  التقطنه من الماء في تابوت مغلق فلم يتجاسرن على فتحه حتى وضعنه بين يدي الملكة ، فلما فتحت التابوت وكشفت... رأت وجه طفل ليس كغيره من الأطفال ... براءته تبعث رسائل الحب إلى قلب كل من رأه .. قسمات وجهه تتلألأ بقسمات تضيء بأنوار النبوة فلما رأته وملأت عينيها منه أحبته حباً شديداً وتعلق قلبها به وصدق الله (وألقيت عليك محبة مني) واستوهبته السيدة المؤمنة من فرعون ودافعت عنه وقالت: (قرة عين لي ولك) قال ابن كثير رحمه الله :

فقال لها فرعون: أما لك فنعم، وأما لي فلا. أي: لا حاجة لي به والبلاء موكل بالمنطق. وقولها: «عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا» وقد أنالها الله ما رجت من النفع، أما في الدنيا فهداها الله به، وأما في الآخرة فأسكنها جنته بسببه.

 

وأما *المعلم الثاني* من معالم اصطفاء الله لهذه المرأة العظيمة القدوة :

أنها لم تتذرع أو تعتذر بفساد المجتمع حولها .. لتجعله سبباً في انجرافها معهم في الفساد والكفر والاستكبار .. بل علمت أنها مسؤولة عن سلوك طريق الهداية و اتباع الحق مهما كان الواقع مؤلماً والمحيط القريب بعيداً شارداً .. بل غاوياً وإماماً في الكفر والطغيان . (فطوبى للغرباء) قيل من هم يارسول الله قال (الذين يصلحون إذا فسد الناس)

 

وفي أي الكتاب(وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِى مُسْتَقِيمًا فَٱتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِۦ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)

 

لقد جعل الله هذه المؤمنة مثلاً لكل مؤمن (وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون) بألا يترك الحق أو التمسك به وسلوك طريقه والثبات عليه متذرعاً بفساد المحيط القريب منه ، أو قلة المعين والنصير .. أي واقع يعيشه مسلم اليوم سيكون أشد ألماً وبلاءً من واقع المؤمنة آسية .. (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله)

 

إنها وقفة مراجعة لفهمنا وتطبيقنا لمعنى الإسلام العميق .. رضانا بالله رباً و بالإسلام ديناً ومنهجاً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً وقدوة وإماماً .. وتمسكنا بهذه المعاني وثباتنا على مضامينها ومقضاها . (  وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (٦٦) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (٦٧) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (٦٨) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (٦٩) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا).

 

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ...

 

أما *المعلم الثالث* في حياة آسية السيدة الكاملة صبرها على البلاء في سبيل الإيمان بالحق والثبات عليه حتى ارتفعت روحها إلى باريها تحت وطأة عذاب فرعون وتنكيله بها ... ومع مفارقتها لدنيا الغرور والفناء تمتمت بدعواتها الصادقة التي ارتفعت إلى السماء وتقبلها ربها بقبول حسن وأعقبها أن خلد تلك الدعوات في أعظم كتاب... المنزل على قلب أعظم رسول... قرأناً يتلى تترنم به أفواه المؤمنين إلى قيام الساعة (   وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱمْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ٱبْنِ لِى عِندَكَ بَيْتًا فِى ٱلْجَنَّةِ وَنَجِّنِى مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِۦ وَنَجِّنِى مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ )

 

نقل ابن كثير رحمه الله عن بعض العلماء قولهم : اختارت الجار قبل الدار ، فكان لها هذا ... فلنعم الدار دارها .. ولنعم المنقلب والمرجع .. ويا طيب ما ظفرت به .. ويا فوزها وفلاحها ..

 

فسلامٌ على آسية في الصالحات القانتات ... وسلامٌ عليها في القدوات الثابتات ..

المشاهدات 807 | التعليقات 0