آداب المزاح وضوابطه, وخطره وآثاره 16-3-1435
أحمد بن ناصر الطيار
1435/03/15 - 2014/01/16 16:09PM
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وسلم تسليما كثيراً. أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنَّ العاقلَ لا يتسبَّبُ في جلبِ أعداءٍ له, بخلقِ مشاكلَ معهم, أو بعدمِ مُداراتِهِم والصبرِ على أذاهُم.
والحكيمُ اللَّبيب: لا يُحوِّل أصدقاءه أعداءً, فبفعلِ أمرٍ يُغضبهُم, أو بعدمِ تحمُّلهم والصبرِ على ما يصدُرُ منهم.
والمؤمن الموفق المسدد: من يُحوِّل أعداءه أصدقاء, بأنْ يُقابل السيّئةَ بالحسنة, {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}[فصلت: 34 -36].
جعلنا الله تعالى منهم بمنِّه وكرمه.
وإنَّ أقْصَرَ طريقٍ لجلب العداوة, وكسرِ رباط الأُخوَّة والصداقة: المزاحُ والجدال, فبسببهما وقعتِ الفرقةُ بين الأقارب والأصدقاء، وشُتِّتَ شملُ المتحابين والأخلاء، وعن طريقهما حلَّ الحزنُ والوحشةُ في القلوب، ووقع الناس في الآثام والذنوب.
فكم دار الحديث في المجالس, فتحوَّل الحديث الهادئ الأخويّ, إلى جدالٍ شديدٍ وتعصُّبِّ كلِّ طرفٍ لرأيه, فتنتهي الجلسةُ والقلوبُ مشحونةٌ حنقًا وغيضًا, والخواطرُ مُنغَّصة.
وشأْنُ المزاح كذلك, يَمْضِي الأصدقاءُ زمنًا طويلاً في صداقةٍ ومحبَّة, فتبدأُ شرارةُ الفرقةِ والكراهيةِ بمزحةٍ قاسيةٍ.
فإذا كانتْ هذه آثارُهُما وخطرُهما, فالواجب أنْ نعرف آدابَهما لِنَأخذَ بها، وسنقتصر في هذه الجمُعة على آداب المزاح, ونُرجئُ الكلام عن الجدال في جُمُعةٍ أُخرى بإذن الله.
واعملوا - يا أمة الإسلام- أنَّ المرادَ بالمزاح : الملاطفةُ والمؤانسة، وتطييبُ الخواطر، وإدخالُ السرور, فإذا خلا المزاحُ من ذلك: فليس هو بمزاحٍ محمود, بل هو اسْتهتارٌ واسْتخفافٌ بالناس, وإنْ زعم أنه يُمازحُ ويُداعب.
وقد كان المزاح من هديِ النبي صلى الله عليه وسلم, فقد كان يُمازح أصحابه ويُداعبَهم, حتى قالوا له: يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّكَ تُدَاعِبُنَا ، قَالَ : إِنِّي لاَ أَقُولُ إِلاَّ حَقًّا.
ولا شك أن التبسط مطلوبٌ ليطردَ عن النفسِ السآمةَ والملل، ويُريحَ الجسم من التعب والكلل, وتَطْيِيْبُ المجالسِ بالمزاحِ الخفيفِ فيه خيرٌ كثير، ولكن بضوابطَ وآدابٍ مِنْ أهمِّها:
أولاً: ألا يكون فيه شيء من الاستهزاء بالدين, فإن ذلك من نواقض الإسلام, قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَباللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ،لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}.
وكم هم أولئك الذين لا يتورَّعون عن المزح بأمورٍ شرعيَّة, كاللِّحية ونحوها.
ثانيًا: ألا يكون المزاح إلا صِدْقاً وحقًّا, فكم من مزحٍ يقودُ صاحبَه إلى العذاب الْمُهين يوم القيامة. قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ، مَا يَتَبَيَّنُ مَا فِيهَا، يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ، أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ». متفق عليه
قال العلماء: معناه: أنه يتكلَّم بكلمةٍ لا يتدبرها ويتفكر في قبحها, ولا يخاف ما يترتب عليها, وهذا كالكلمة يقذف بها أحدًا, أو يترتب عليها إضرارٌ بأخيه المسلم, من مزاحٍ يُحزنه, أو سبٍّ بغير حقٍّ يُؤذيه.
ومن المزاح المذموم: أنْ يُحدِّث الناس بالكذب ليُضحكهم ويُؤانسهم, أو يبتكرَ نُكتًا مُضحكة.
وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله: المتحدثُ بأحاديثَ مُفتعلةٍ ليُضْحِكَ الناسَ, أو لغرضٍ آخرَ فإنه عاصٍ لله ورسولِه، وقد رَوى بَهْزُ بن حَكيم عن أبيه عن جده أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : "وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ، وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ"، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إنّ الكذبَ لا يَصلح في جدٍّ ولا هَزْلٍ. ا.ه كلامه
ثالثًا: عدم الترويع, وما أقبح المزاح الذي فيه ترويعٌ للناس, ورُبَّما وصل الأمر إلى إلحاق الأذى والرعبِ, وكلُّ هذا باسم المزاح مع الصديق.
وكم أحْدَثَ هذا المزاحُ آثارًا سيِّئةً على النفوس, وكم تفرَّق الأصحابُ والأصدقاءُ بسببه.
وقد قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا".
وقد وصل المزاحُ ببعضهم, أنْ ألقى صديقه في بركةِ ماء, وهو لا يحسن السباحة، وبعضُهم يُطارده بالسيارة, أو يُفاجئه بها على حين غفلة.
وكم هي الْمآسي التي حصلتْ, بسبب مثل هذا الهزلِ السَّيِّء.
رابعًا: أن لا يكون فيه استهزاءٌ وغمزٌ ولَمْزٌ, وقد نهى الله عز وجل عن ذلك فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ}، قال ابن كثير في تفسيره: المراد من ذلك احتقارهم واستصغارهم, والاستهزاء بهم، وهذا حرام، ويُعدُّ من صفات المنافقين. ا.ه كلامه
واعلموا أنَّ من أخطر المزاح وأقبحِه: أن يسخر المازح من شكلِ أحدٍ من الناس أو هيئتِه.
فهذا المزاحُ يُدخل أشدّ الأذى في النفوس, حيث إنَّ شكل الإنسان وخِلْقتَه ليست بيده, وإنما هي صنعُ الله تعالى, وما أقرب هذا المازح أنْ يُبتلى هو أو أحدٌ من أبنائه, بما عاب به غيرُه, فالبلاء مُوكلٌ بالمنطق.
ويجب على الإنسان أن يكون أدبياً حكيمًا في مزاحه, يراعي مشاعر الناس وأحوالَهم, وإذا أراد أن يمازح أحدًا فلا يُزْعِجْه ويُغْضِبْه, وكثيرٌ من المزاحِ يكون فيه ضحايا جرَّاء ذلك, حيث يبدأ بالتعليق على أحد الحاضرين, بأسلوبٍ تعافُه النفس, وتشمئزُّ منه الطباع البشرية.
وبعض الناس متخصصٌ في هذه القضية, مُتفنِّنٌ في جعلِ الآخرين أضحوكةً, يهزأ ويسخرُ بهم في المجلس، ويجعلهُم فكاهةً بين الناس, وهذا حرام إذا لم تتيقن أنه يتقبَّل مثل ذلك.
وإنْ كان يتقبَّل ذلك, فأقلُّ أحوالها الكراهة؛ لأنه لا يخلو هذا التعليقُ من سُخريةٍ أو كلامٍ بذيء, وإنْ تقبَّل ذلك ليومٍ أو يومين, فلن يتقبَّل ذلك على الدوام.
ولْيعلمْ هؤلاء, أنَّ الإكثار من الكلام الطيب يكون مُمِلاًّ أحياناً, فلو أنَّ شخصًا كلَّما قابلك قال لك: إني أحبك في الله, أو أنت كريمٌ وشُجاعٌ, لَمَلَلْتَ من ذلك, ورأيت أنه قد يكون يستخفّ بك, فما الظن بالتعليق الشديد على صاحِبك, ولمزِه وعيبِه أمام الناس, وصدق الشاعر:
أَفِدْ طبعكَ المكدودَ بالجدِّ راحةً ... بِجَمٍّ وعللّهُ بشيءٍ من المزْحِ
ولكنْ إِذا أعطيتَهُ المزحَ فليكنْ ... بمقدارِ ما تعطي الطعامَ من الملحِ
خامسًا: أن لا يكون المزاحُ كثيراً, فإن بعض الناس يغلب عليهم هذا الأمر, ويصبح ديدناً لهم، وهذا عكس الجدِّ الذي هو من سمات المؤمنين، والمزاحُ إنما هو فسحةٌ ورخصةٌ, للترويح عن النفس وتنشيطها, أما أنْ تكون سمةً بارزةً للإنسان, فهذا لا يليق أبدًا.
قال الحافظ ابنُ حجرٍ رحمه الله: الْمزاحُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ: مَا فِيهِ إِفْرَاطٌ أَوْ مُدَاوَمَةٌ عَلَيْهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الشُّغْلِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ, وَالتَّفَكُّرِ فِي مُهِمَّاتِ الدِّينِ, وَيَئُولُ كَثِيرًا إِلَى قَسْوَةِ الْقَلْبِ, وَالْإِيذَاءِ وَالْحِقْدِ, وَسُقُوطِ الْمَهَابَةِ وَالْوَقَارِ. ا.ه كلامه
سادسًا: معرفة مقدار الناس, فالبعضُ من الناسِ يمزح مع كلِّ أحدٍ دون اعتبار، فللعالم والكبير توقيره ومكانتُه، ولهذا يجب معرفة شخصية المقابِل, فلا يمازحِ السفيه ولا الأحمق, ولا من لا يعرف.
سابعًا: ألا يكون فيه غيبة ونميمةٌ, وهذا من أعظم الكبائر والعياذ بالله.
ثامنًا: اختيار الأوقات المناسبة للمزاح, كأن يكون في رحلة برية، أو عند ملاقاة صديق، فلا بأس بالتَّبسط معه بطرفةٍ لطيفة، أو مِزحةٍ خفيفة، لتُدخل السرور والراحةَ على قلبه, فالمزحُ في غيرِ وقته, كالمزح وقتَ الجدِّ, أو حينَ لا يكون الصديقُ مُتهيِّأً له: يكون مُضرًّاً وجالبًا للعداوة.
مَازِحْ صَدِيقَكَ مَا أَرَادَ مِزَاحاَ ... فَإِذَا أَبَاهُ فَلا تَزِدْهُ جِماحا
وَلَرُبَّمَا مَزَحَ الصَّديقُ بِمَزْحَةٍ ... كَانَت لِبَدْءِ عَدَاوَةٍ مفْتَاحا
تاسعًا: ألا يكون فيه فحش وبذاءة, فبعض النكت عبارةٌ عن قلة حياء، وقلةِ أدب وبذاءة, يأتي أحدُهم بطرفةٍ فيها تصريحٌ بالعورات المغلظة, أو بجماعِ الرجل بزوجته, واللهُ تعالى لا يحب الجهر بالسوء من القول.
نسأل الله تعالى أنْ يَمُنَّ علينا بالأخلاق الحسنة, والْمُعاملةِ الليِّنة السهلة, إنه سميعٌ قريبٌ مُجيب.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين, وسلَّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين..
أما بعد: أيها المسلمون: إنَّ المزاحَ قنطرةٌ قصيرةٌ إلى البغي والإثم، فمتى أكثر الإنسان من الهزل, جرَّه ذلك إلى الوقوعِ في أعراض الناس، والعبثِ بمشاعرهم, والاستهتارِ بكثيرٍ من الأمورِ الْمُصانة، وإنَّ كثرة المزاح تفقدُهُ أنسَه وبهجته، وتنقلَه إلى حدِّ السماجة الْمُسْتَثْقَلَة، وربما الوقاحةِ الْمُسْتَنْكَرة.
وستبقى الفضيلةُ وسطًا بين رذيلتين.
ولا تَغْلُ في شَيْءٍ مِنَ الْأَمْرِ واقتصدْ ... كِلا طَرَفيْ قَصْدِ الأمورِ ذَميمُ
فلا ينبغي الجهامة والقطوب, والتوافرُ الثقيل، التي تَجعلُ صاحبها ثقيلاً بغيضًا, لا يأنس أحدٌ بصحبته, ولا يَطمعُ أحدٌ بِمُجالسته.
ولا ينبغي كذلك: السماجَةُ والمزاحُ العابث, فيكونُ صاحبُه منزوعَ الهيبة, مسلوبَ الكرامة, بل الصوابُ أنْ نتحلَّى بالسماحة والرزانة, وحسنِ الخلقِ والبشاشة.
نسأل الله تعالى أنْ يُوفقنا لسلوكِ صراطه المستقيم, وأنْ يُحبب إلينا الوسط في التعامل والدين, إنه على كل شيء قدير.
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنَّ العاقلَ لا يتسبَّبُ في جلبِ أعداءٍ له, بخلقِ مشاكلَ معهم, أو بعدمِ مُداراتِهِم والصبرِ على أذاهُم.
والحكيمُ اللَّبيب: لا يُحوِّل أصدقاءه أعداءً, فبفعلِ أمرٍ يُغضبهُم, أو بعدمِ تحمُّلهم والصبرِ على ما يصدُرُ منهم.
والمؤمن الموفق المسدد: من يُحوِّل أعداءه أصدقاء, بأنْ يُقابل السيّئةَ بالحسنة, {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}[فصلت: 34 -36].
جعلنا الله تعالى منهم بمنِّه وكرمه.
وإنَّ أقْصَرَ طريقٍ لجلب العداوة, وكسرِ رباط الأُخوَّة والصداقة: المزاحُ والجدال, فبسببهما وقعتِ الفرقةُ بين الأقارب والأصدقاء، وشُتِّتَ شملُ المتحابين والأخلاء، وعن طريقهما حلَّ الحزنُ والوحشةُ في القلوب، ووقع الناس في الآثام والذنوب.
فكم دار الحديث في المجالس, فتحوَّل الحديث الهادئ الأخويّ, إلى جدالٍ شديدٍ وتعصُّبِّ كلِّ طرفٍ لرأيه, فتنتهي الجلسةُ والقلوبُ مشحونةٌ حنقًا وغيضًا, والخواطرُ مُنغَّصة.
وشأْنُ المزاح كذلك, يَمْضِي الأصدقاءُ زمنًا طويلاً في صداقةٍ ومحبَّة, فتبدأُ شرارةُ الفرقةِ والكراهيةِ بمزحةٍ قاسيةٍ.
فإذا كانتْ هذه آثارُهُما وخطرُهما, فالواجب أنْ نعرف آدابَهما لِنَأخذَ بها، وسنقتصر في هذه الجمُعة على آداب المزاح, ونُرجئُ الكلام عن الجدال في جُمُعةٍ أُخرى بإذن الله.
واعملوا - يا أمة الإسلام- أنَّ المرادَ بالمزاح : الملاطفةُ والمؤانسة، وتطييبُ الخواطر، وإدخالُ السرور, فإذا خلا المزاحُ من ذلك: فليس هو بمزاحٍ محمود, بل هو اسْتهتارٌ واسْتخفافٌ بالناس, وإنْ زعم أنه يُمازحُ ويُداعب.
وقد كان المزاح من هديِ النبي صلى الله عليه وسلم, فقد كان يُمازح أصحابه ويُداعبَهم, حتى قالوا له: يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّكَ تُدَاعِبُنَا ، قَالَ : إِنِّي لاَ أَقُولُ إِلاَّ حَقًّا.
ولا شك أن التبسط مطلوبٌ ليطردَ عن النفسِ السآمةَ والملل، ويُريحَ الجسم من التعب والكلل, وتَطْيِيْبُ المجالسِ بالمزاحِ الخفيفِ فيه خيرٌ كثير، ولكن بضوابطَ وآدابٍ مِنْ أهمِّها:
أولاً: ألا يكون فيه شيء من الاستهزاء بالدين, فإن ذلك من نواقض الإسلام, قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَباللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ،لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}.
وكم هم أولئك الذين لا يتورَّعون عن المزح بأمورٍ شرعيَّة, كاللِّحية ونحوها.
ثانيًا: ألا يكون المزاح إلا صِدْقاً وحقًّا, فكم من مزحٍ يقودُ صاحبَه إلى العذاب الْمُهين يوم القيامة. قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ، مَا يَتَبَيَّنُ مَا فِيهَا، يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ، أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ». متفق عليه
قال العلماء: معناه: أنه يتكلَّم بكلمةٍ لا يتدبرها ويتفكر في قبحها, ولا يخاف ما يترتب عليها, وهذا كالكلمة يقذف بها أحدًا, أو يترتب عليها إضرارٌ بأخيه المسلم, من مزاحٍ يُحزنه, أو سبٍّ بغير حقٍّ يُؤذيه.
ومن المزاح المذموم: أنْ يُحدِّث الناس بالكذب ليُضحكهم ويُؤانسهم, أو يبتكرَ نُكتًا مُضحكة.
وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله: المتحدثُ بأحاديثَ مُفتعلةٍ ليُضْحِكَ الناسَ, أو لغرضٍ آخرَ فإنه عاصٍ لله ورسولِه، وقد رَوى بَهْزُ بن حَكيم عن أبيه عن جده أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : "وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ، وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ"، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إنّ الكذبَ لا يَصلح في جدٍّ ولا هَزْلٍ. ا.ه كلامه
ثالثًا: عدم الترويع, وما أقبح المزاح الذي فيه ترويعٌ للناس, ورُبَّما وصل الأمر إلى إلحاق الأذى والرعبِ, وكلُّ هذا باسم المزاح مع الصديق.
وكم أحْدَثَ هذا المزاحُ آثارًا سيِّئةً على النفوس, وكم تفرَّق الأصحابُ والأصدقاءُ بسببه.
وقد قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا".
وقد وصل المزاحُ ببعضهم, أنْ ألقى صديقه في بركةِ ماء, وهو لا يحسن السباحة، وبعضُهم يُطارده بالسيارة, أو يُفاجئه بها على حين غفلة.
وكم هي الْمآسي التي حصلتْ, بسبب مثل هذا الهزلِ السَّيِّء.
رابعًا: أن لا يكون فيه استهزاءٌ وغمزٌ ولَمْزٌ, وقد نهى الله عز وجل عن ذلك فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ}، قال ابن كثير في تفسيره: المراد من ذلك احتقارهم واستصغارهم, والاستهزاء بهم، وهذا حرام، ويُعدُّ من صفات المنافقين. ا.ه كلامه
واعلموا أنَّ من أخطر المزاح وأقبحِه: أن يسخر المازح من شكلِ أحدٍ من الناس أو هيئتِه.
فهذا المزاحُ يُدخل أشدّ الأذى في النفوس, حيث إنَّ شكل الإنسان وخِلْقتَه ليست بيده, وإنما هي صنعُ الله تعالى, وما أقرب هذا المازح أنْ يُبتلى هو أو أحدٌ من أبنائه, بما عاب به غيرُه, فالبلاء مُوكلٌ بالمنطق.
ويجب على الإنسان أن يكون أدبياً حكيمًا في مزاحه, يراعي مشاعر الناس وأحوالَهم, وإذا أراد أن يمازح أحدًا فلا يُزْعِجْه ويُغْضِبْه, وكثيرٌ من المزاحِ يكون فيه ضحايا جرَّاء ذلك, حيث يبدأ بالتعليق على أحد الحاضرين, بأسلوبٍ تعافُه النفس, وتشمئزُّ منه الطباع البشرية.
وبعض الناس متخصصٌ في هذه القضية, مُتفنِّنٌ في جعلِ الآخرين أضحوكةً, يهزأ ويسخرُ بهم في المجلس، ويجعلهُم فكاهةً بين الناس, وهذا حرام إذا لم تتيقن أنه يتقبَّل مثل ذلك.
وإنْ كان يتقبَّل ذلك, فأقلُّ أحوالها الكراهة؛ لأنه لا يخلو هذا التعليقُ من سُخريةٍ أو كلامٍ بذيء, وإنْ تقبَّل ذلك ليومٍ أو يومين, فلن يتقبَّل ذلك على الدوام.
ولْيعلمْ هؤلاء, أنَّ الإكثار من الكلام الطيب يكون مُمِلاًّ أحياناً, فلو أنَّ شخصًا كلَّما قابلك قال لك: إني أحبك في الله, أو أنت كريمٌ وشُجاعٌ, لَمَلَلْتَ من ذلك, ورأيت أنه قد يكون يستخفّ بك, فما الظن بالتعليق الشديد على صاحِبك, ولمزِه وعيبِه أمام الناس, وصدق الشاعر:
أَفِدْ طبعكَ المكدودَ بالجدِّ راحةً ... بِجَمٍّ وعللّهُ بشيءٍ من المزْحِ
ولكنْ إِذا أعطيتَهُ المزحَ فليكنْ ... بمقدارِ ما تعطي الطعامَ من الملحِ
خامسًا: أن لا يكون المزاحُ كثيراً, فإن بعض الناس يغلب عليهم هذا الأمر, ويصبح ديدناً لهم، وهذا عكس الجدِّ الذي هو من سمات المؤمنين، والمزاحُ إنما هو فسحةٌ ورخصةٌ, للترويح عن النفس وتنشيطها, أما أنْ تكون سمةً بارزةً للإنسان, فهذا لا يليق أبدًا.
قال الحافظ ابنُ حجرٍ رحمه الله: الْمزاحُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ: مَا فِيهِ إِفْرَاطٌ أَوْ مُدَاوَمَةٌ عَلَيْهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الشُّغْلِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ, وَالتَّفَكُّرِ فِي مُهِمَّاتِ الدِّينِ, وَيَئُولُ كَثِيرًا إِلَى قَسْوَةِ الْقَلْبِ, وَالْإِيذَاءِ وَالْحِقْدِ, وَسُقُوطِ الْمَهَابَةِ وَالْوَقَارِ. ا.ه كلامه
سادسًا: معرفة مقدار الناس, فالبعضُ من الناسِ يمزح مع كلِّ أحدٍ دون اعتبار، فللعالم والكبير توقيره ومكانتُه، ولهذا يجب معرفة شخصية المقابِل, فلا يمازحِ السفيه ولا الأحمق, ولا من لا يعرف.
سابعًا: ألا يكون فيه غيبة ونميمةٌ, وهذا من أعظم الكبائر والعياذ بالله.
ثامنًا: اختيار الأوقات المناسبة للمزاح, كأن يكون في رحلة برية، أو عند ملاقاة صديق، فلا بأس بالتَّبسط معه بطرفةٍ لطيفة، أو مِزحةٍ خفيفة، لتُدخل السرور والراحةَ على قلبه, فالمزحُ في غيرِ وقته, كالمزح وقتَ الجدِّ, أو حينَ لا يكون الصديقُ مُتهيِّأً له: يكون مُضرًّاً وجالبًا للعداوة.
مَازِحْ صَدِيقَكَ مَا أَرَادَ مِزَاحاَ ... فَإِذَا أَبَاهُ فَلا تَزِدْهُ جِماحا
وَلَرُبَّمَا مَزَحَ الصَّديقُ بِمَزْحَةٍ ... كَانَت لِبَدْءِ عَدَاوَةٍ مفْتَاحا
تاسعًا: ألا يكون فيه فحش وبذاءة, فبعض النكت عبارةٌ عن قلة حياء، وقلةِ أدب وبذاءة, يأتي أحدُهم بطرفةٍ فيها تصريحٌ بالعورات المغلظة, أو بجماعِ الرجل بزوجته, واللهُ تعالى لا يحب الجهر بالسوء من القول.
نسأل الله تعالى أنْ يَمُنَّ علينا بالأخلاق الحسنة, والْمُعاملةِ الليِّنة السهلة, إنه سميعٌ قريبٌ مُجيب.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين, وسلَّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين..
أما بعد: أيها المسلمون: إنَّ المزاحَ قنطرةٌ قصيرةٌ إلى البغي والإثم، فمتى أكثر الإنسان من الهزل, جرَّه ذلك إلى الوقوعِ في أعراض الناس، والعبثِ بمشاعرهم, والاستهتارِ بكثيرٍ من الأمورِ الْمُصانة، وإنَّ كثرة المزاح تفقدُهُ أنسَه وبهجته، وتنقلَه إلى حدِّ السماجة الْمُسْتَثْقَلَة، وربما الوقاحةِ الْمُسْتَنْكَرة.
وستبقى الفضيلةُ وسطًا بين رذيلتين.
ولا تَغْلُ في شَيْءٍ مِنَ الْأَمْرِ واقتصدْ ... كِلا طَرَفيْ قَصْدِ الأمورِ ذَميمُ
فلا ينبغي الجهامة والقطوب, والتوافرُ الثقيل، التي تَجعلُ صاحبها ثقيلاً بغيضًا, لا يأنس أحدٌ بصحبته, ولا يَطمعُ أحدٌ بِمُجالسته.
ولا ينبغي كذلك: السماجَةُ والمزاحُ العابث, فيكونُ صاحبُه منزوعَ الهيبة, مسلوبَ الكرامة, بل الصوابُ أنْ نتحلَّى بالسماحة والرزانة, وحسنِ الخلقِ والبشاشة.
نسأل الله تعالى أنْ يُوفقنا لسلوكِ صراطه المستقيم, وأنْ يُحبب إلينا الوسط في التعامل والدين, إنه على كل شيء قدير.
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق