هدم الأقصى وسنن التغيير

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات:

 

 

السنوسي محمد السنوسي

 

 

قال لي صاحبي بصوت يَمْلؤه الأَسَى: التقارير المتتابعة عن عدَدِ وعُمْقِ الأَنْفاق التي يَحْفِرها الصَّهاينة تحت المسجد الأقصى - تُنْذِر بأنَّ هَدْمه - لا قدر الله - قابَ قوْسَين أو أدنى، ومع ذلك لو كان هدْمُ المسجد الأقصى سَيُوقِظ المسْلِمِين ويبعث فيهم رُوح الجهاد والتَّضحية، فليس عندي مانع.

 

 

 

نظرْتُ إليه باستغراب قائلاً: يا أخي، ليست القضيةُ بهذا التَّبسيط، إنَّ المسجد الأقصى لو هُدم - لا قدَّر الله - والمسلمون حالُهم هكذا، فإنَّهم لا يَلْبثون أنْ يَنتفضوا انتفاضةً تَملأ الدُّنيا ضَجيجًا، سرعان ما يَعُودون بعْدَها إلى سِيرَتِهم الأُولى، ونَوْمِهم العميق!

 

 

 

قال لي: هذا صعْبٌ؛ فمَا يَبقى بعْدَ هدْمِ المسجد الأقصى إذًا؟!

 

أجبْتُه قائلاً: تأمَّلْ تاريخَنا القريب، حين أُحرق المسجد الأقصى ومِنْبر صَلاح الدِّين سنة 1969م على يَدِ صِهْيَوْنِيٍّ قادِمٍ من أستراليا "مايكل روهان"، ماذا فعل المسلمون؟!

 

 

 

هَبُّوا وثَاروا وقامَتِ المظاهَرات، ثُمَّ كَوَّنوا منظَّمة المؤتمر الإسلامي، لكنْ على طريقة: "إذا أردْتَ أنْ تُمِيت قضيَّةً، فأحِلْها إلى لَجْنة"!

 

 

 

وكان مِن الواضح أنَّهم لم يقيموا عَمَلهم في هذه المنظَّمة، أو في جامعة الدُّوَل العربية قَبْلها - على أُسُس فاعلة وديناميكية.

 

 

 

ردَّ مستنْكِرًا: لكنَّ الإحراق غيرُ الهَدْم.

 

 

 

قلتُ له: هذا ما أَرجوه، لكنِّي أَعْلم يقينًا أنَّ الله - سبحانه - قد وَضَع للنَّهْضة شروطًا، تَرتكز بالأساس على تَغْيير ما بالنَّفْس، بَدْءًا مِن الفَرْد، حتى يمتدَّ هذا التغْيِير إلى جَميع أوْصال المجتمع التي تشْبِه أعضاء الجسَدِ الواحد، فمِن الصَّعب أن تَجِد ذراعًا تقوم بوظيفتها كاملةً إذا كان بالرَّأس صداع.

 

أجابني: ولكنْ ألاَ تتَّفق معي أنَّ هَدْم المسجد الأقصى - لا قدَّرَ الله - سيحرِّك الأمة؟!

 

قلتُ: بَلى، أتَّفق معك في هذا، لكنَّ هذا التحرُّكَ لن يُجْدِي، ولن يستمِرَّ إلاَّ إذا أخذَتِ الأُمَّة أسبابَ التغيِير والإِصلاح بجِدٍّ، ولم تَيْئس ولم تَتَراخَ، ولم يكن تحرُّكُها هذا يُشْبه زَوبعة الفِنجان!

 

 

 

سألني بصوت يمتلئ حماسةً: وكيف ذلك؟ كيف نَجعل هذه الحركةَ هَدِيرًا متواصلاً، لا قَطراتٍ متقطعةً؟

 

قلتُ: بأن نُدْرِك أوَّلاً أنَّ ما فسد مِن أحوالنا، ومكَّن أعداءنا منَّا على مدى العقود الماضية، لا يُمكن أن نتصوَّر أنَّه سيَنْصَلح بين عشِيَّة وضُحاها، بل يَحتاج تصحيحُه إلى عَمَل مضاعَفٍ يَصِلُ اللَّيل بالنَّهار، وإلى أخْذِ النفْس بالجِدِّ والعزيمة، وأن تَسْرِي رُوح التَّغْيير إلى أوصال الجسد كافةً؛ مِن العلماء والأمراء، والشباب والشيوخ والنساء، بل والأطفال.

 

 

 

نعم، يَجب أن نربِّي أبناءنا على حبِّ الإسلام والتمسُّك به، والتَّضحية في سبيله، يَجِب أن نَجعل صوت القرآن يُدوِّي في بيوتنا، وشوارعنا، وقاعات الدَّرس، ودوائر اتخاذ القرار.

 

قال لي بعد أن بدأ يَقْتنع برأيِي: وأعتقد أنَّ اتِّحاد الدُّول الإسلامية شرْطٌ ضرورِيٌّ لتحرير الأقصى وتحرير فلسطين كلِّها.

 

 

 

أثنيْتُ على رَأْيِه، وأضفْتُ: بالتأكيد، مقاومة اليهود الغاصبين ومَن يقف وَراءهم مِن الدُّول الغربية، يتطلَّب تكاتُفَ جهود المسلمين، ثمَّ إنَّ المسجد الأقصى مِلْك للمسلمين جميعًا، ويجب أن يَستشعروا المسؤوليةَ تُجاهه.

 

 

 

اعْتَدل في جِلْسته، وسألني: وكيف تتصوَّر دور الإعلام في هذا الاتِّجاه؟

 

قلتُ: هو دَوْر مِحْوري، وعليه تَقُوم مُهِمَّة رفْع الروح المعنوية، وطَرْد الانهزامية والسلبية مِن حياتنا، وهذا لن يكون إلا بالعمل على الارتقاء بالوعي، وخاصَّةً عند الشباب، بدَلاً من اللعب بغرائزهم، ويكون أيضًا بتوضيح أهمية وَحْدة المسلمين وتوضيح شُروط النَّهضة، نُريد إعلامًا يَبني ولا يَهدم، يجمع ولا يفرِّق، يَنْبُع مِن مفاهيمنا الإسلامية، ولا يروِّج للمفاهيم الغربية، سواءٌ أكان ذلك في السياسة أم الثقافة أم في جميع مَجالات الحياة.

 

 

 

قاطَعَني: هل تتصوَّر أنَّ هناك ارتباطًا بين ترسيخ الحرِّية في مجتمعاتنا وبين تحقيق النهْضة؟

 

أجبته في نَبْرة حاسمة: نعم؛ الشعوب المستضْعَفة لا يُمكن أن تعْرِف معنى المسؤولية، بل يَشِيع بين أبنائها السَّلبيةُ والأنانية، الأمر الذي يُضاعِف مِن تخلُّفها وتدهوُرِها، أمَّا الحرِّية فهي تَجعل كلَّ فرْدٍ في المجتمع يَستشعر بعُمْق أنَّ له دورًا في النهوض بمجتمعه والانتصار لقضاياه العادلة، وقديمًا قال عنترة بن شداد: "العبْد لا يُحْسِن الكرَّ، إنما يُحْسن الحِلاب والصَّر".

 

 

 

قال لي مسترجعًا ما بدأنا به حديثنا: ولكنْ هل مِن الممكن أن يَترك الله - سبحانه - المسجد الأقصى لِيُهْدَم؟

 

قلتُ: يجب أن نعلم ابتداءً أمرًا مهمًّا، قبل الإسلام حين أراد أبرهة أنْ يَهْدِم الكعبة فإنَّ الله - سبحانه - أنزل جنوده من السماء لِتَقتل أبرهةَ، وتُشتِّت جيشه، وتحمِيَ البيت الحرام؛ لأنَّه لم يكُنْ ساعَتَها جماعةٌ مسلِمةٌ تُدافِع عن حُرُمات الله.

 

 

 

أمَّا بعْدَ الإسلام، فقَد سنَّ الله سُننًا يقوم عليها الصِّراع بين الحق والباطل، بحيث يكون نصْرُ الحق عن طريق المؤمنين الذين - بلا شكٍّ - سيُمِدُّهم الله بأسباب التأيِيد - مثل نزول الملائكة للقتال معهم - بعد أن يَستنفِذُوا الأخْذَ بالأسباب المتاحة، وأمَّا إنْ فرَّطوا في الأخذ بالأسباب التي وضعها الله في الكون، فعَلى مَن تنْزل الملائكة؟!

 

 

 

ولذلك قال الله - تعالى -: ﴿ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنفال: 62]، فالنصر يكون للمؤمنين، وبالمؤمنين.

 

 

 

أخذ يتأمَّل في إجابتي، ثم قال: وهل هناك شاهِدٌ من سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك؟

 

قلت: في غزوة أُحُد، حين عَصَى بعضُ المسلمين من الرُّماة أمْرَ الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - هُزم المسلمون بالرغم مِن وجود الرسول - صلى الله عليه وسلم - بينهم، بل جُرح النبي - صلى الله عليه وسلم - وكُسِرت رَباعيتُه، ودخلَتْ حلقَتَا المِغْفر في وَجْنتيه الشريفتين.

 

 

 

كل ذلك بسبب مخالفة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أي: عدم الأخذ بالأسباب المتاحة.

 

 

 

فترَكَهم الله - سبحانه - لما قدَّموه؛ لئلاَّ يتوهَّم البعض أنَّ وجود النبي - صلى الله عليه وسلم - ومكانتَه عند الله كفيلٌ بضمان النصر، دُون اعتبارٍ للأسباب التي وضَعَها الله في الكون، وجعلها سُنةً ثابتةً في الصِّراع بين الحق والباطل.

 

 

 

ونَزَل القرآن يعلِّم المسلمين درسًا مهمًّا في قوله: ﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 165 - 166].

 

 

 

قال: تَعْني أنَّ المسلمين لو لم يأخذوا بالأسباب الحقيقية التي تؤهِّلُهم للنصر، فإن الله لَنْ ينصُرَهم؟

 

أجبتُه: هذا صحيح؛ ولذلك عندما انتَزَع القرامِطةُ الحجَرَ الأسود مِن الكعبة ونَقَلوه مِن مكانه أكثَرَ مِن عشرين سنةً، فإنَّ الله لم يُنْزِل ملائكته لحفظ الكعبة والحجر الأسود، بل تَرَك أصحاب الحق يتصارعون مع أصحاب الباطل، ثم رُدَّ الحجر الأسود بعد ذلك.

 

 

 

ثم أضفتُ: إنَّني لا أُرِيد أنْ أُقلِّل مِن شأن المسجد الأقصى، بل أريد أن يسارع المسلمون للأخْذ بأسباب القوة والمنَعَة، لا أنْ يتكاسَلوا متوهِّمين أنَّ السماء تُمطر ذهبًا أو فِضَّةً، أو أنَّ مكانة المسجد الأقصى عند الله - سبحانه - كفيلةٌ وحْدَها بأن يأْمُرَ الله جنودَه بحمايته مِثْل الكعبة قَبْل الإسلام، حتَّى لو كان المسلمون لا يُبَالون بالمسجد الأقصى، ولا يَستفرغون جهْدَهم وطاقاتِهم في إنقاذه والدفاع عنه!

 

 

 

القضية الأساسيَّة هي: هل نحن أهْلٌ لنَصْر الله وتأْيِيده أمْ لا؟

 

أجابني في حَماسة: الآن فهمْتُ كلامك واضحًا، وأدعو الله أنْ أَكون أنا وأنت ممَّن يحرِّر اللهُ المسجدَ الأقصى على أيدِيهم، وأنْ يَستخدمنا ولا يستبْدِلَنا.

 

 

 

شَددتُ على يديه، وقلتُ: طريق النصر يبدأ مِن تَصحيح المفاهيم، ومِن الوَعْي بسُنن الله في التغْيِير والإصلاح التي وَرَدت في مثل قوله - تعالى -:

 

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]، ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ﴾ [الأنفال: 60]، ﴿ ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [محمد: 4].

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات