اقتباس
وانقطع للعبادة وقيام الليل والتبتل ومناجاة الله -عز وجل- في جوف الليل طالباً منه النصرة والمعية والتأييد، في تهيئة نفسية وقلبية على مواجهة أعدائه من جديد. وما كاد برئ من جراحه الخطيرة التي أُصيب بها في تارين الأولى حتى أخذ في تنظيم صفوفه وحشد قواته...
المعارك -بعد النبوات-هي الحدث الأبرز عبر تاريخ البشرية، فهي تشغل معظم صفحات سجل أحوال المجتمعات البشرية، حيث أن الأصل في العلاقات البشرية بين الدول والمجتمعات هو العداء والصراع لأسباب كثيرة ومتنوعة أبرزها الصراعات الدينية بين الحق والباطل، والسياسية بين الأقران والأنداد، والتوسعية بين الأقوياء والضعفاء، والاقتصادية بسبب المصالح والبحث عن الثراء والنفوذ؛ حتى أن المتمعن في تاريخ البشرية منذ نشأتها يرى أنها لم تنعم بسلام أو تخلو بقاعها من حروب مطلقاً.
فالحروب هي التي تصنع الأحداث الفاصلة وتحدد مصائر الدول والحضارات والدعوات والحركات وحتى المناهج والأفكار. وتاريخنا الإسلامي يذخر بعشرات ومئات المعارك الهامة والمصيرية التي شكلت مصير أكثر من خمسين دولة ومملكة إسلامية ظهرت عبر التاريخ الإسلامي، وحسمت كل القضايا الهامة في علاقة الأمة الإسلامية بغيرها من الأمم والحضارات البشرية.
ومن بين هذه المعارك الإسلامية الهامة والحاسمة تبرز عدة معارك كان لها أبعد الأثر على خرائط الدول والحضارات الإنسانية حتى يومنا الحاضر، ومعركتنا اليوم واحدة من تلك القلائل التي غيرت شكل الحضارة الإنسانية وخطت خطوطاً عريضة في العلاقة بين العالم الإسلامي وغيره مازالت قائمة حتى اليوم. وكما أن معركة نهر طلاس سنة 133 ه بين المسلمين والصينيين كانت أهم وأخطر معركة في تاريخ العلاقة ببين الصين والعالم الإسلامي لأنها شكلت ورسمت خريطة الصين القديمة حتى اليوم، فإن معركة تارين الثانية سنة 587 ه بين المسلمين والهندوس هي أهم وأخطر معركة في تاريخ شبه القارة الهندية لأنها رسمت خريطة بلاد الهند بين المسلمين والهندوس حتى يومنا الحاضر.
العالم الإسلامي وبلاد الهند
يعتبر تاريخ الإسلام في بلاد ما وراء النهر غامضًا لكثير من المسلمين رغم أنه قد بدأ مبكرًا في صدر الدعوة عندما دحرت جيوش الصحابة في عهد الراشدين إمبراطورية الفرس وأزالوا دولتهم تمامًا. وانساح المسلمون بعدها في بلاد ما وراء النهر ورفعوا الحواجز التاريخية بين الهضبة الإيرانية وبلاد الأتراك إلى بلاد الهند والصين. وعلى الرغم من التفوق العسكري الواضح للعالم الإسلامي على الممالك والإمارات الهندوسية والبوذية في بلاد الهند إلا إن المسلمين لم يعرفوا الاستقرار في بلاد الهند، واكتفوا منها بما حاذوه من بلاد السند -باكستان- في شمال غرب شبه القارة الهندية تاركين معظم أرجائها الشاسعة تحت حكم الهندوس والبوذيين.
ومع ظهور الدولة الغزنوية وسلطانها العظيم محمود بن سبكتكين في أوائل القرن الخامس الهجري في بلاد أفغانستان تكررت الحملات الإسلامية على بلاد الهند، وحقق السلطان محمود انتصارات باهرة، ولكنه ومن جاء بعده من خلفائه لم يستقروا في الهند، إنما كانوا يعودون إلى عاصمة بلادهم "غزنة" ويتركون واليًا من طرفهم على تلك البلاد الجديدة، مما لم يرسخ وضع الإسلام بالهند، ولم تثبت أقدام المسلمين بها، ومما سمح أيضًا لكفار الهند بالتمرد والثورة مرة بعد مرة، وظلت الأوضاع داخل شبه القارة الهندية على ما هو عليه حتى ظهرت دولة جديدة تحت قيادة شابة قوية غيرت معادلة القوة ورسمت حدوداً استراتيجية مختلفة بين العالم الإسلامي والهندوسي في بلاد الهند الشاسعة.
الدولة الغورية
بعد سنوات المجد والسؤدد والانتصارات المدوية بدأ الوهن يدب في أوصال الدولة الغزنوية، وانشغل أمراؤها بالقتال الداخلي والصراع على لعاعة الدنيا الفانية ونسوا غايات المؤسس -محمود بن سبكتكين- النبيلة ورسالته السامية في نشر الإسلام في كل مكان، فكان من الطبيعي أن تسقط الدولة وتنهار وتجري عليها سنن الاستبدال، فسقطت الدولة العريقة في سنة 582ه وورثتها دولة إسلامية جديدة من نفس العرق التركي التي تنتمي إليه الدولة الغزنوية، وهي الدولة الغورية نسبة إلى القبائل الغورية التركية التي دخلت في الإسلام على يد السلطان محمود بن سبكتكين وما لبثت حتى تحولت لأكبر أعوانه وأخلص جنده والقوة الضاربة لجيوشه بسبب مهاراتهم القتالية الفائقة.
الأسد الجسور شهاب الدين الغوري
آلت قيادة الدولة الغورية لواحد من أهم القادة العسكريين في تاريخ بلاد الهند والذي سيكون من سعود أقداره أن يكون صاحب أول مملكة إسلامية ثابتة في بلاد الهند وأول من ثبت أقدام المسلمين في شمال ووسط الهند بحيث أصبح الوجود الإسلامي في قلب شبه القارة الهندية دائماً وليس مؤقتاً أو عابراً. وهو السلطان الكبير شهاب الدين الغوري ويلقب أيضاً بمعز الدين محمد قاهر الهندوس والملاحدة الباطنية في بلاد الهند.
شهاب الدين استلم قيادة الدولة الغورية سنة 582 هجرية فوجد أن الجبهة الداخلية للمسلمين ممزقة بسبب كثرة الصراعات السياسية والمذهبية والعرقية، فعمل على توحيد الصف بحسم كل أسباب الضعف والفرقة بين المسلمين. فظل شهاب الدين الغوري خمس سنوات كاملة ينظم الجبهة الداخلية ويحارب القرامطة الباطنية في الملتان وقبائل القراخطاي التركية الوثنية والأمراء المنافسين والطامحين في عرش الدولة حتى استطاع القضاء على كل خصومه وتهيئة الجبهة الداخلية لهدفه الأسمى؛ تأسيس دولة ثابتة للمسلمين في الهند.
تحالف الراجبواتا
الراجبواتا هو مصطلح يشمل أمراء الممالك الهندسية في شمال ووسط الهند في مناطق الأنهار الكبرى والتي تعتبر من أكثر مناطق الهند خصوبة وثراءً وكثافة سكانية، وهي معقل الهندوسية في الهند وحصنها المنيع على مدار قرون ضد التوسع الإسلامي القادم من ناحية بلاد السند في شمال غرب الهند.
هذا التحالف نشأ في أعقاب الانتصار العالمي للسلطان محمود بن سبكتكين على ملوك الهندوس في معركة سومنات سنة 416 ه، والذي أدى لتضعضع الدين الهندوسي بعد هدم أهم وأكبر معابده وأصنامه، ولكن للأسف المسلمون لم يبنوا على هذا الانتصار ولم يستقروا بالهند، فعاود الهندوس بناء قوتهم وأسسوا هذا التحالف السياسي والديني للوقوف في وجه التهديد الإسلامي.
زعيم هذا التحالف في وقت صعود نجم شهاب الدين الغوري كان رجلاً شديد البأس وافر العزم اسمه الشاه بريتيفراج الثالث وتسميه المراجع الإسلامية باسم "راي كولاه". هذا الرجل استشعر الخطر الشديد من تنامي قوة شهاب الدين الغوري وأخذ يراقب بحذر جهود الغوري في توحيد الجبهة الداخلية والقضاء على المنافسين والملاحدة الباطنية في الملتان ولاهور وشمال الكوجرات، خاصة وأن شهاب الدين الغوري قد أعلن نفسه سلطاناً على المسلمين في أفغانستان وبلاد السند، وبالفعل تحققت مخاوفه عند أرسل إليه شهاب الدين الغوري سفيراً من طرفه يخيره بين دخول الإسلام أو إعلان الخضوع للمسلمين ودفع الجزية، وذلك سنة 586 ه.
معركة تارين الأولى
كما كان متوقعاً رفض الشاه بريتيفراج الثالث عرض السلطان شهاب الدين الغوري، واستنفر باقي أمراء تحالف الراجبواتا واستعد لقتال شهاب الدين الغوري، وحشد قوة عسكرية كبيرة للصدام المرتقب.
في وقت ما قبل عام 587 ه، استولى جيش شهاب الدين الغوري على حصن "طبر هنده" في البنجاب، والذي كان تحت سيطرة الهندوس، سار بريتيفراج بالمشاة وسلاح الفرسان وقد دعم قواته بسلاح الفيلة الحربية المعروف في الحروب الهندية.
كان شهاب الدين الغوري على وشك مغادرة حصن طبر هنده، عندما تلقى خبر اقتراب بريتيفراج، فاستعجل الصدام وقرر معاجلة تحالف الراجبواتا قبل أن يتقدم أكثر من ذلك، وذلك على غير رغبة أمراء الجيش الغوري الذين أرهقهم القتال المتواصل وخشوا من المواجهة بأرض العدو بسبب التفاوت الكبير في العدد.
التقى الجيشان في منطقة تارين في شمال الهند على مقربة من نهر ساراسواتي المقدس عند الهندوس، فبدأ سلاح الفرسان الغوري المعركة متعجلاً من خلال إطلاق سهام على مركز العدو. فهاجمت قوات الشاه بريتيفراج الثالث هجومًا مضادًا من ثلاث جهات، وسيطرت على أرض المعركة، وضغطت على جيش الغوري باستخدام سلاح الفيلة، خاصة وأن كل أمراء الراجبواتا قد نزلوا ميدان القتال، كل واحد منهم على ظهر فيل حربي في معركة حياة أو موت.
عانت قوات الغوريين من ضغط الجيش الهندوسي على الرغم من قتالها بشجاعة، ومع تزايد الخسائر وقوة الضغط، أخذ الاضطراب يدب في جيش شهاب الدين.
عندما رأى شهاب الدين الغوري هذا التراجع، حاول القيام بهجوم عكسي وهجم بقوة ضد قلب الجيش الهندوسي، ولكن هذا الهجوم لم يغير من سير المعركة التي حُسمت لصالح الهندوس وأصيب شهاب الدين الغوري بإصابات بالغة، ولولا أن أنجده الله عز وجل بأحد الجنود الشباب الذي حمله مضرجاً في دمائه وخرج به بعيداً عن ميدان المعركة لقُتل شهاب الدين وانتهى مشروعه الطموح بإقامة أول دولة مسلمة في قلب الهند، ولكن الأقدار كانت تخبئ للمسلمين ثأراً سريعاً من هذه الهزيمة الطارئة.
مراجعات السلطان وعودة الروح
أثرت هزيمة شهاب الدين الغوري الطارئة على نفسيته بشدة وعزم على الانتقام وسرعة الردّ على التحالف الهندوسي، حتى أنه لم ينم في فراشه ولم يجتمع مع زوجته ولم يهنأ بطعام ولا شراب ولا معيشة، وانقطع للعبادة وقيام الليل والتبتل ومناجاة الله -عز وجل- في جوف الليل طالباً منه النصرة والمعية والتأييد، في تهيئة نفسية وقلبية على مواجهة أعدائه من جديد. وما كاد برئ من جراحه الخطيرة التي أُصيب بها في تارين الأولى حتى أخذ في تنظيم صفوفه وحشد قواته.
من المراجعات التي اتبعها السلطان شهاب الدين لمعالجة أخطاء هزيمة تارين الأولى؛ تأديبه لقادة جيشه. فقد فر العديد من أمراء جيشه من أرض المعركة مما ساهم في تخبط الجيش وانهياره أمام الضغط الهندوسي. فلما عاد شهاب الدين الغوري إلى لاهور أمر بتعليق حمل شعير في رقبة كل واحد من الأمراء الفارين من القتال وقال لهم: " لست بأمراء ولا رجال، إنما أنتم دواب، وألزمهم العودة إلى العاصمة "غزنة" مشياً على الأقدام، ومنعهم من الدخول عليه أو التحدث معهم مطلقاً.
ظل شهاب الدين يجهز لقتال الهندوس ورد الهزيمة، وأخذ العدة اللازمة وجهز جيشًا كبيرًا وكان ما زال ناقمًا على الأمراء الغورية منذ فرارهم في المعركة السابقة، وعزم على ألا يصحبهم معه في القتال ضد الهندوس، فحاول بعض شيوخ القوم استرضاءه عنهم فقال شهاب الدين كلمات تعبر عن النفسية المؤمنة الصادقة التي تستشعر ما عليها من واجبات تجاه نصرة الدين والعمل للإسلام، وتظهر مدى قوة قلب هذا البطل الشجاع وحساسيته الدافقة، قال: "اعلم أنني منذ هزمني هذا الكافر ما نمت مع زوجتي على فراش، ولا غيرت ثياب البياض عني
-أي ثياب الكفن- وأنا سائر إلى عدوي، معتمد على ربي عز وجل، لا على الغورية ولا على غيرهم، فإن نصرني الله سبحانه ونصر دينه فمن فضله وكرمه، وإن انهزمنا فلا تطلبوني، فلن أنهزم ولو هلكت تحت حوافر الخيل".
بعد هذه الرسالة الجلية اهتزت قلوب الأمراء الغورية وحلفوا جميعًا على القتال حتى الموت وعدم الانهزام مهما حدث في أرض المعركة.
معركة تارين الثانية
أكبر خطأ استراتيجي ارتكبه الشاه بريتيفراج الثالث قائد تحالف الراجبواتا الهندوسي أنه لم يواصل الزحف خلف جيش المسلمين المنهزم في المعركة السابقة، استهانة منه بقوة وقدرة شهاب الدين الغوري على العودة والقتال مرة أخرى بهذه السرعة، وكان ذلك من صنع الله -عز وجل- لعباده المؤمنين وحفظاً لهم من الاستئصال على يد أكفر خلق الله؛ الهندوس.
لم تمض على معركة تارين الأولى سوى أربعة شهور حتى عاد السلطان شهاب الدين في أواخر سنة 587 ه بجيش كبير يقدر بمائة وعشرين ألفاً من المقاتلين بكل عزم وهمة للثأر والانتصار. فأرسل الشاه بريتيفراج الثالث لباقي أمراء الهندوس في سائر أنحاء الهند، فاجتمع له ثلاثمائة ألف مقاتل والكثير من الفيلة الحربية.
لم يكرر شهاب الدين أخطاء الماضي ووضع تكتيكاً حربياً ذكية بخطة الكماشة المحكمة. فقد تم تشكيل جيش الغوريين في خمس وحدات، وأُرسلت أربع وحدات لمهاجمة أجنحة العدو ومؤخرته، ثم وجه شهاب الدين الغوري سلاح الفرسان الخفيف مكونًا من 10000 من الفرسان الرماة، مقسمًا إلى أربعة أقسام، لتطويق قوات الهندوس على الجوانب الأربعة.
أصدر تعليماته إلى هؤلاء الجنود بعدم الانخراط في القتال عند تقدم العدو للهجوم، ثم أمر شهاب الدين الغوري وحدته الخامسة بالتظاهر بالانسحاب. هجمت قوات الشاه الهندوسي على وحدة الغوريين المتظاهرين بالفرار، ثم أرسل شهاب الدين وحدة جديدة من سلاح الفرسان قوامها 12000 تمكنوا من رمي تقدم العدو. ثم هاجمت قوات الغوريين المتبقية قوات الهندوس المذعورة من هول الصدمة، فاختلطت الصفوف وعمت الفوضى، ووفقًا لما قاله المؤرخون المعاصرون مثل أبو عمر الجوزجاني مؤلف كتاب "صاحب السراج": فإن استراتيجية شهاب الدين الغوري استنفدت وأنهكت الكافرين مما أدى في النهاية إلى النصر للمسلمين.
أما الشاه بريتيفراج الثالث فقد همّ بالفرار بعد رأى قواته الضخمة تتمزق تحت ضربات المسلمين، فقال له أصحابه: "إنك حلفت لنا أنك لا تخلينا وتهرب"، فنزل من على فرسه وظل يقاتل حتى وقع أسيرًا في يد المسلمين، وحاول "بريتيفراج" أن يفدي نفسه بأموال طائلة ، ولكن شهاب الدين علم أن بقتل "بريتيفراج" يسهل سقوط باقي المدن التابعة لتحالف الراجبواتا الهندوسي، فيرفض قبول الفدية ويقتله، وهو يؤكد بذلك على معنى رسالة الجهاد في الإسلام، فهو ليس للدنيا ولا للأموال ولا للغنائم ولا لشهوة القتل والتملك، بل هو لأسمى المطالب، لنشر الإسلام وتبليغ الدين وإزاحة الطواغيت الذين يقفون على آذان الناس ويصدونهم عن سماع الحق.
أدى هذا الانتصار العالمي في تارين الثانية لتغيير خريطة الهند، وتأسيس أول مملكة إسلامية ثابتة في وسط الهند وهي مملكة "دهلي" الإسلامية والتي سيكون لها تاريخ مجيد في حياة شبه القارة الهندية، كما أدت هذه المعركة إلى انسياح المسلمين في وسط وجنوب الهند، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، مما غيّر من شكل التركيبة السكانية في بلاد الهند وما حولها من الجزر في جنوب شرق أسيا، فتلك المناطق اليوم يوجد بها أكبر وأضخم تجمع إسلامي في العالم.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم