شمس الأئمة السرخسي: حياته ومنهجه وأثره العلمي ومحنته

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2024-06-02 - 1445/11/25
التصنيفات: شخصيات تاريخية

اقتباس

فاستغل فترة حبسه في الجب في تأليف كتابه الشهير "المبسوط في الفقه" وهو الكتاب الذي كتب الله -عز وجل- له القبول والشهرة بين الناس، فصار أحد أعمدة الفقه الحنفي حتى وقتنا الحاضر، ومازال يُطبع ويُدرس حتى الآن وإلى أن يشاء الله...

خلق الله البشر وجعل لكل واحد منهم همة وإرادة فلا يخلو إنسان عن هم؛ ولذلك كان أصدق اسم يوصف به العبد أنه همام ومن هنا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام"، وجهة الصدق أن كل إنسان له إرادة وعنده اهتمام، ولكن همم الناس تختلف بين علو وسفول وبين كبر وصغر وبين ضخامة ودناءة، وعلى قدر تفاوت الهمم والإرادات تتفاوت مقامات الخلق في الدنيا والآخرة، فأعلاهم همة أبلغهم لما يريد، وأكثرهم تحقيقا لما يطلب.

 

والمتجول في سير النبلاء والفضلاء من كل فن عبر التاريخ، والقارئ الجيد لتراجمهم ورحلة صعودهم نحو العلا وصياغة الأمجاد يلمح بوضوح أهم مقومات هذا التميز والتفرد عن سائر أقران الزمان؛ إنها الهمة العالية والعزم الأكيد والإصرار العجيب نحو مواصلة السير نحو تحقيق الأهداف وبلوغ الغايات مهما كانت الصعاب والعقبات والمعوقات.

فالهمة العالية هي سلم الرقي إلى الكمال الممكن في كل أبواب الخير؛ فمن تحلى بها لان له كل صعب، واستطاع أن يعيد هذه الأمة إلى الحياة مهما ضمرت فيها معاني الإيمان، إذ أن همم الرجال تزيل الجبال؛ فأصحاب الهمم العالية هم القلة التي تنقذ المواقف، وهم الصفوة التي تباشر مهمة الانتشال السريع من وحل الوهن، ووهدة الإحباط.

 

واليوم سنعرض لسيرة واحد من أساطين العلم الذي ضرب مثلاً في علو الهمة في التصنيف والحفظ والتأليف لا يُعلم له نظيراً عبر التاريخ ليس الإسلامي فحسب، ولكن الإنساني كله!! إذ لم يسبق أن سجلت المراجع والمصادر التاريخية العلمية نظيراً لما قام به صاحبنا الذي بلغ بهمته عنان السماء في العلم والفقه والثبات على الحق.

 

التعريف به:

هو العالم العامل، الإنسان الكامل، والفقيه الأصولي المتبحر، المجاهد الزاهد، الصادع بالحق الذي لا يخاف في الله لومة لائم، الملقب بشمس الأئمة -وهو كذلك- أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل السَّرَخْسِي نسبة إلى سَرَخْس بفتح السين، وهي مدينة قديمة كانت بمثابة المحطة على طريق الحرير، بلغت أوج مجدها في القرن الحادي عشر الميلادي الخامس الهجري، وكانت تضم العديد من المكتبات ومدرسة شهيرة للمعماريين، معظم موقع المدينة الأصلي يقع الآن في تركمنستان، ولقد بنت إيران مدينة جديدة بنفس الاسم قبالتها على الحدود وسرخس الأصل جزء من جمهورية تركمانستان، بينما المدينة الجديدة ضمن أراضي إيران.

 

لا يُعلم وجه التعيين سنة مولده لقلة اهتمام العلماء الأعاجم بسنة المولد، ولكن الراجح أنه بعد عام 420ه. اشتغل بالعلم صغيراً، فتلقاه على شيوخ بلده؛ سرخس، ثم انتقل في سن الشباب إلى قلعة العلم ومنارته في ذلك الزمان؛ مدينة بخارى العريقة.

 

رحلته العلمية:

في بخارى التقى السرخسي مع فقيه الوقت وإمام أهل الرأي في زمانه؛ شمس الأئمة عبد العزيز ابن الحلواني -نسبة إلى بيع الحلوى- وكان من أفراد الزمان علماً وورعاً، جمع بين إمامة مدرسة الرأي والعلم بالحديث ورواياته، معظمٌ لأئمة الحديث ورواته، جلس السرخسي إليه وانقطع عنده فترة طويلة وتضلع على يديه في الفقه والأصول واللغة وأخذ عنه كتاب المبسوط وتأمله وعزم على شرحه بعد استكمال ألته. وظل السرخسي ملازماً لشيخه ليل نهار حتى تخرج به وأُجيز منه بالفتوى والدرس والتصنيف.

 

برع الإمام السرخسي في الفقه والأصول، وكان آية من آيات الحفظ يتوقد ذهنه من شدة الذكاء حتى أنه قد حكى عن نفسه أنه يحفظ اثني عشر ألف كراس من كراريس العلم!! فصار بحق أوحد زمانه وفريد عصره مما دفع بعض المؤرخين لاعتباره من مجتهدي المذهب الحنفي له فيه اختيارات وترجيحات، وقوته في الحفظ ستكون معيناً له في محنته وستجعله يأتي بما لم يأت به الأولون في التصنيف!!

 

تعرض شيخه ومعلمه الكبير شمس الأئمة ابن الحلواني لمحنة أجبرته على الخروج من بخارى والانتقال إلى مدينة كش فمات بها سنة 452 ه محزوناً مهموماً على فراق الأرض والوطن، فشفع بعض الوجهاء والعلماء من أجل دفنه في مسقط رأسه بمدينة بخارى، فحُمل إليها ودفن بها. فتركت تلك الحادثة أثراً في نفس تلميذه السرخسي فكره أن يبقى في المدينة التي أُخرج منها شيخه، فقرر الخروج إلى مدينة أوزجند في أقصى وادي فرغانة -تقع حالياً في تركمنستان- وكانت عاصمة الدولة القراخانية، وهي دولة تركية تحكمها سلالة الأويجور التركية وكانت دولتهم ذات طابع حضاري عريق محبون للعلم والكتابة ولهم اعتناء كبير بالعمران وتشييد المدن والمدارس حتى لقبهم المؤرخون الأوروبيون بأساتذة الحضارة في أسيا الوسطى.

 

وصل الإمام السرخسي إلى أوزجند سنة 460 ه وقد سبقه صيته كعالم وإمام من كبار أئمة الفقه والأصول. كان سوق المناظرات رائجاً بقوة ومن مكونات الحياة العلمية في القرن الخامس الهجري، فجلس السرخسي للمناظرة فنجم علمه وحفظه الفائق، فعقدوا له مجالس للتدريس والافتاء، وظل نجمه في صعود حتى صار بمثابة مفتي الدولة وعالمها الرسمي؛ فكان ذلك مقدمة لمحنته الشهيرة التي ستكون سبباً لرفعته وعلو شأنه في سماء العلم والدين والورع.

 

محنته مع الخاقان:

الخاقان هو لقب حاكم الدولة القراخانية. وهو لقب تركي يُطلق على الحاكم الأعلى في سلالة الأمراء الأتراك في العشائر التركية في أسيا من أقصى الشرق حيث منغوليا إلى منتهى الغرب في وادي فرغانة على حدود أسيا الصغرى.

 

وكان سبب محنة الإمام السرخسي مع خاقان الدولة -رغم العلاقة الوطيدة بين الرجلين- أن الخاقان قد أحب إحدى جواريه التي سبق له وأن أعتقها، فأراد أن يعقد عليها ويتزوجها، فاستفتى الإمام السرخسي في المسألة فأجابه بالجواز شريطة أن تقضي عدتها بعد العتق، وأنه يُحرم عليه الزواج بها قبل ذلك، فهاج الخاقان وماج وضغط علي الإمام السرخسي من أجل أن ينتزع منه فتوى بالحلّ، ولكن الإمام أبى ورفض مداهنة الخاقان، فعرض عليه الخاقان أموالاً جزيلة للرجوع عن فتواه، فما ازداد الإمام إلا ثباتاً على دينه ورفضاً للمزايدة على علمه، سالكاً بذلك طريق الناصحين الراسخين في العلم والذين لا يبيعون دينهم بعرض من الدنيا زائل، ولا يخافون في الله لومة لائم.

 

فما كان من الخاقان إلا أن أنزل به عقوبة شديدة، ليكون عبرة لأمثاله من العلماء، حيث أمر بإلقائه في جب عميق ضيق، وحيداً بلا رفيق ولا زميل، ويقوم الحراس بتدلية آنية الطعام والشراب والطهور مرة واحدة كل يوم!! فما نالت تلك القسوة والوحشية من عزم الإمام وظل صابراً محتسباً الأجر عند الله، وذلك في مطلع عام 466 ه.

 

ظل الإمام السرخسي في جبه مسجوناً لمدة خمسة عشر سنة متصلة، يعاني من الوحدة والقهر والظلم محجوباً عن الأهل والولد، والدروس والجمعة والجماعات. ولكنه حوّل تلك المحنة إلى واحدة من أعظم ملاحم العلماء في التأليف والتصنيف.

كتابي المبسوط والأصول

كما قلنا من قبل، كان الإمام السرخسي آية في الحفظ، يتوقد ذهنه من شدة الذكاء ومتانة العلم، فاستغل فترة حبسه في الجب في تأليف كتابه الشهير "المبسوط في الفقه" وهو الكتاب الذي كتب الله -عز وجل- له القبول والشهرة بين الناس، فصار أحد أعمدة الفقه الحنفي حتى وقتنا الحاضر، ومازال يُطبع ويُدرس حتى الآن وإلى أن يشاء الله.

 

قمة العجب أن الإمام السرخسي ألف الكتاب وأمله من ذاكرته بلا أوراق ولا مراجع ولا كتب!! فقد كان يأتي تلاميذ الإمام كل يوم منذ الصباح يقفون على رأس الجب ومعهم الأوراق والأقلام، ويقوم الإمام بإملائهم من ذاكرته شرح كتاب المبسوط في الفقه الحنفي. وكتاب المبسوط في الفقه كان كتاباً مختصراً في الفقه الحنفي كتبه شيخه شمس الأئمة عبد العزيز بن الحلواني، وكان الإمام السرخسي قد عقد العزم على شرحه قبل محنته، فلما وقعت المحنة وأُلقي في الجب، مضى قدماً في تنفيذ مشروعه ولكن في ظروف استثنائية تعوق الغالبية العظمى من أهل العلم عن تنفيذه، ولكنها لم تعق الإمام السرخسي عن ذلك.

 

وكانت عبارات الإمام السرخسي على شرح المبسوط فائقة رائقة مزجها بعلمه وحزنه وأحياناً دمعه على محنته الشديدة، وهذه طائفة من تلك العبارات والأوصاف المبكية الشجية:

فقد قال في المبسوط عند فراغه من شرح كتاب العبادات: "هذا آخر شرح العبادات بأوضح المعاني، وأوجز العبارات، إملاء المحبوس عن الجمعة والجماعات".

 

 وقال في آخر كتاب الطلاق: "هذا آخر كتاب الطلاق المؤثر من المعاني الدقاق، أملاه المحبوس عن الانطلاق المبتلى بوحشة الفراق، مصليا على صاحب البراق أهل الخير، والساق، صلاة تتضاعف وتدوم إلى يوم التلاق".

 

 وقال في آخر كتاب العتاق: "انتهى شرح العتاق من مسائل الخلاف والوفاق، أملأه المستقبل للمحن بالاعتناق المحصور في طرق من الآفاق حامدا للمهيمن الرزاق، ومصليا على حبيب الخلاق، ومرتجى إلى لقائه بالأشواق وعلى آله وصحبه خير الصحب والرفاق".

 

وقال في آخر شرح كتاب الإقرار: "انتهى شرح كتاب الإقرار المشتمل من المعاني ما هو سر الأسرار، وإملاء المحبوس في موضع الأشرار مصليا على النبي المختار".

 

وقال في آخر شرح كتاب البيوع: "انتهى ربع البيوع، من المبتهل إلى الله -تعالى- بالخضوع وإسبال الدموع، المنقطع عن الأهل والكتاب المجموع".

 

إلى غير ذلك من أماكن يتوجع فيها بنحو هذا من السجع الخالي من التكلف والنابض بمعاناة الإمام ومدى قسوة محنته.

 

لم يكتف الإمام السرخسي بإملائه لكتاب المبسوط في عشر مجلدات ضخمة حتى صار من موسوعات الفقه الحنفي، فشرع في إملاء كتاب في أصول الفقه، وهو الكتاب المعنون باسم "تمهيد الفصول في الأصول" والذي سيعرف بعد ذلك بأصول السرخسي، وهو -أيضا- سيكتب الله -عز وجل- له القبول والشهرة بين طلبة العلم، حتى عدّه كثير من المحققين أنه أهم كتاب في أصول الفقه على طريقة الأحناف، حيث تميز بدقة الصنعة ومتانة السبك وجودة العرض والتوسع في الاستدلال ومناقشة آراء أئمة المذاهب الأخرى، والعجيب أن كل ذلك الإبداع من فيض الذاكرة وخزان الحفظ للإمام السرخسي، فلا ريب أن رفع الله -تعالى- قدره وذكره بين العالمين، ومازالت تلك الإبداعات التي صُنفت في غياهب الجب تتلى وتدرس في أعرق قاعات العلم في كل أنحاء العالم.

 

ومن بديع ما أورده الإمام السرخسي في كتاب المبسوط، ذكره لفكرة بطاقة الائتمان المعاصرة!! ليكون أول عالم مسلم يتطرق إلى تلك النقطة الفريدة في زمانها.

 

فلقد أورد السرخسي فـي كتابـه المبسوط باب من أبواب الكفالة سمَّاه باب "ضمان ما يبايع به الرجل" بدأه بالفكـرة الأساسية لبطاقة الائتمان بقوله: "وإذا قال الرجل -المصدر لرجل- التاجر بايع فلاناً -حامل البطاقة- فما بايعته به من شيء فهو عليَّ فهو جائز على ما قال، لأنه أضاف الكفالة إلى سبب وجود المال على الأصيل. ما ذكره الإمام السرخسي هو الأساس الذي قامت عليه فكرة الائتمان، مما يكشف مدى اتساع وشمولية الفقه الإسلامي في تلبية الحاجات المتغيرة وأسبقيته في تلبية احتياجات الناس المستحدثة.

 

الفرج بعد الشدة:

بعد انتهائه من كتابي المبسوط في الفقه والأصول شرع في شرح كتاب السير الكبير للإمام محمد بن الحسن الشيباني، فلما وصل إلى باب الشروط جاءته البشرى بالفرج والخروج من الجب بعد خمسة عشر سنة قضاها، فخرج عزيز القدر عالي الذكر عزيز النفس ثابت على الحق، وذلك سنة 480 ه.

 

قرر الإمام السرخسي عدم البقاء في أوزجند فخرج منها إلى فرغانة بعد أن طلبه أميرها؛ الأمير حسن، الذي أحسن استقباله وجعله من خاصة حاشيته ومستشاريه وسمح له بالتدريس والإملاء في دهليز قصره، فأكمل الإمام السرخسي شرح كتاب السير الكبير، ثم شرح مختصر الطحاوي وشرح الجامع الكبير والصغير وكتاب أشراط الساعة وكتاب النفقات وكتاب الحيض وكتاب الفوائد الفقهية.

 

نهاية الرحلة وانطفاء السراج:

لم يطل العمر كثيراً بالإمام السرخسي بعد خروجه من الحبوس، وكأنه كان يشعر باقتراب أجله بعد أن وهن جسده وتأثر من سجنه بالجب، فظل يصل الليل بالنهار في التأليف والتصنيف وإلقاء الدروس حتى توفاه الله -تعالى- سنة 483 ه، وقيل 488ه، تاركاً خلفه ملحمة في الثبات على الحق وعدم المداهنة في الدين وأداء الأمانة العلمية، وتاركاً -أيضا- خلفه ثروة فقهية وأصولية خالدة ينتفع بها طلبة العلم والناس حتى وقتنا الحاضر وإلى ما شاء الله، ليعلّم الأجيال والمسلمين عبر العصور كيف ترقى الهمة بصاحبها وترفعه إلى أعلى الدرجات، وكيف تقوده لتحقيق أعظم الغايات وأعلى الأهداف. فرحم الله -تعالى- الإمام السرخسي وأجزل له المثوبة يوم الدينونة.

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات