اقتباس
في سنة 725هـ خرج ابن القيم حاجًّا، وأثناء عودته عقد درسًا للوعظ والتفسير بالمسجد الأقصى، تكلم فيه عن مسألة الزيارة، وشد الرحال لزيارة قبر الخليل بفلسطين وأنكرها؛ فهاج عليه الناس وثاروا، ورفعوه إلى قاضي القضاة؛ فحكم بردته وقتله...
في شهر رجب من كل عام وفي اليوم الثالث عشر تحديداً منه، تهل ذكرى وفاة أحد الأئمة الأعلام، الذين كان لهم أعظم الأثر في العصور الوسطى للأمة الإسلامية والعصور التي تليها، بحيث مثلت حياته ورحلته العملية وآثاره الفكرية والعلمية محطة هامة في التراث العلمي للأمة الإسلامية، خاصة وأن اسمه اقترن اقتراناً شرطياً بواحد من أعظم العقليات الفكرية والعلمية في التاريخ الإسلامي-شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله-؛ بحيث لا يكاد أن يذكر الشيخ حتى يُذكر تلميذه الذي نقل علوم أستاذه وسار بها عبر الآفاق، وحمل على عاتقيه إبقاء تراث شيخه حياً تتناقله الأجيال ويستفيد منه الناس عبر العصور.
وصاحبنا هو الإمام ابن قيم الجوزية-رحمه الله-.
التعريف به
هو الإمام الفذ، والعلم المتبحر، والمفسر المحدث، طبيب القلوب وعللها، وخبير النفوس وآفاتها، صاحب التصانيف الرائعة، والمصنفات النافعة، الإمام أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر أيوب بن سعد بن حريز بن مكي الزرعي الدمشقي الحنبلي، المشهور بابن قيم الجوزية، أو ابن القيم، نسبة إلى أبيه الذي كان قَيمًا -ناظرًا- على المدرسة الجوزية (إحدى مدارس الفقه الحنبلي بدمشق)، وُلد سنة 691ه-1292 ميلادية بمدينة دمشق أحد أهم منارات العلم والسياسة في العصر المملوكي.
نشأ ابن القيم في جو علمي خالص وأسرة معنية بطلب العلم وتعلميه. فوالده هو "أبو بكر بن أيوب بن سعد الزرعي" الذي كان قيّماً على "المدرسة الجوزية" بدمشق، وقد كان هو نفسه أحد معلمي ابنه وشيوخه، فقد أخذ منه ولده ابن القيم علم الفرائض.
وأخوه هو "أبو الفرج زين الدين عبد الرحمن بن أبي بكر بن أيوب الزرعي" ولد سنة 693هـ أي أنه أصغر من ابن القيم بنحو سنتين، وقد كان هو الآخر عالماً.
ومن عائلته -أيضًا- ابن أخيه "عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن زين الدين عبد الرحمن" الذي اقتنى أكثر مكتبة عمه ابن القيم.
ومن أبنائه الذين تُرجم لهم، ابنه "شرف الدين، وجمال الدين عبد الله" وقد كان عالماً وخطيباً، وقد درَّس في المدرسة الصدرية عقب وفاة والده، توفي شاباً في سنة 756هـ وعمره ثلاث وثلاثون سنة.
وابنه "برهان الدين إبراهيم"، وقد أفتى ودرَّس بالمدرسة الصدرية، وقد كان عارفاً بالنحو وله شرح لألفية ابن مالك سماه "إرشاد السالك إلى حل ألفيّة ابن مالك".
رحلته العلمية
انتظم ابن القيم في الدرس، وطلب العلم وهو في السابعة، فدرس على يدي مدرسي الجوزية وغيرهم، وظهرت منه مثابرة عظيمة في طلب العلم، ورغبة صادقة في النبوغ والألمعية، حتى إنه قد أتقن علومًا عدة وهو دون العشرين من العمر، ولم يكتف بطلب العلم من مشايخ الحنابلة الذين ينتمي إلى مذهبهم، ولكن طلبه من سائر الشيوخ، وأرباب المذاهب؛ فلقد درس على يد العلامة ابن الزملكاني الشافعي، والحافظ المزي الشافعي، ومجد الدين التونسي المالكي، والصفي الهندي الحنفي، وهكذا طاف على شيوخ المذاهب، وجنى من بساتين علومهم، حتى صار من العلماء المتبحرين الموسوعيين في تلك الفترة الزاخرة بالعلماء والأعلام.
اتصاله بشيخ الإسلام ابن تيمية
كان لابن تيمية -رحمه الله- تأثير كبير على ابن القيم، وله أثر واضح في ثقافته وتكوين مذهبه، ولشدة لصوق ابن القيم بشيخه اعتنى المؤرّخون بالوقت الذي التقيا به، فحددوه في سنة 712هـ/1313م، وهي السنة التي رجع فيها ابن تيمية من مصر إلى دمشق، فلازم ابن القيم مجلسه من ذاك العام حتى وفاته في سنة 728هـ/1328م، فأخذ عنه علماً جمّاً واتسع مذهبه ونصره، وهذب كتبه، وقد كانت مدة ملازمته له سبعة عشر عاماً تقريباً.
وكان هذا اللقاء بمثابة النقطة الفاصلة في حياة ابن القيم العلمية، وفاتحة خير على الأمة الإسلامية. فقد حدث انقلاب في مسيرة ابن القيم العلمية، وتحول كامل إلى النقيض. فبعد أن كان صوفياً أشعرياً مقلداً، تحول ابن القيم إلى سلفي أثري يدور مع الأدلة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة بفهم سلفها وقرونها الفاضلة من غير إهدار لتراث الأمة وخزانها الفقهي والعلمي الضخم والمتراكم عبر القرون. وقد أخذ على عاتقه نشر علوم شيخه وآرائه الفقهية والعقدية والسياسية والاجتماعية في جو مليء بالحقد والكراهية ضد الأفكار التجديدية التي جاء بها شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-.
يقول ابن حجر العسقلاني -رحمه الله- في ذلك: "وهو الذي هذّب كتبه -أي كُتب ابن تيمية- ونشر علمه، وكان ينتصر له في أغلب أقواله". ويقول ابن كثير -رحمه الله- في حديثه عن ابن القيم: "ولما عاد الشيخ تقي الدين ابن تيمية من الديار المصرية في سنة اثنتي عشرة وسبعمائة لازمه إلى أن مات الشيخ فأخذ عنه علماً جمّاً، مع ما سلف له من الاشتغال، فصار فريداً في بابه في فنون كثيرة".
يقول الشيخ بكر بن أبو زيد -رحمه الله-: "وكما احتفى بشيخه وعلومه حال حياته وأخلص في محبته وولائه فقد كان خليفته الراشد بعد وفاته، فتلقف راية التجديد وثبت على جادة التوحيد: بنشر العلم، وبرد الخلف إلى مذهب السلف؛ فاتسعت به دائرة المدرسة السلفية، وانتشر روادها في كل ناحية وصقع. وكان من حفاوته بشيخه (شيخ الإسلام) أن دون في ثنايا كتبه جملًا من مواقفه، وسؤالاته له، وأسئلة غيره له، وطائفة من أحواله ومرائيه واختياراته. مما لو استل من مؤلفات ابن القيم لظهر في مجلدة لطيفة ترفل بعزيز الفوائد ولطائف العلم".
ومن أكثر الأمور التي ظهر فيها أثر شيخ الإسلام ابن تيمية على تلميذه ابن القيم؛ استقلاله العلمي وعدم تقييده بمذهب معين عند الافتاء، وهو ما حرص على نشره ابن القيم في كتبه ومؤلفاته. وعلى الرغم من أن معظم كتب التراجم تصف مذهب ابن القيم بالحنبلي، وذلك لأنه نشأ في مدارس هذا المذهب، وفي أسرة حنبلية كابراً عن كابر، إلا أنه أصبح يُعنى بالدليل من الكتاب والسنة، ويتبعه حتى لو كان ذلك مخالفًا لمذهبه. يقول ابن القيم في كتابه "إعلام الموقعين عن رب العالمين": "ليحذر المفتي -الذي يخاف مقامه بين يدي الله سبحانه- أن يفتي السائل بمذهبه الذي يقلده، وهو يعلم أن مذهب غيره في تلك المسألة أرجح من مذهبه وأصح دليلًا، فتحمله الرياسة على أن يقتحم الفتوى بما يغلب على ظنه أن الصواب في خلافه؛ فيكون خائنًا لله ورسوله وللسائل وغاشًا له، والله لا يهدي كيد الخائنين، وحرم الجنة على من لقيه وهو غاش للإسلام وأهله، والدين النصيحة، والغش مضاد للدين كمضادة الكذب للصدق والباطل للحق، وكثيرًا من تَرِدُ المسألة، نعتقد فيها خلاف المذهب، فلا يسعنا أن نفتي بخلاف ما نعتقده، فنحكي المذهب الراجح ونرجحه، ونقول: هذا هو الصواب، وهو أولى أن يؤخذ به، وبالله التوفيق".
لذلك عدّه بعض العلماء مجتهدًا في المذهب، وبعضهم يعده مجتهدًا مطلقًا. يقول ابن العماد الحنبلي في ترجمته له: "الفقيه الحنبلي بل المجتهد المطلق". ويقول الشوكاني في ترجمته: "شمس الدين ابن قيم الجوزية الحنبلي، العلامة الكبير، المجتهد المطلق، المصنف المشهور". وقال ابن بدران: "هو المجتهد المطلق، المفسر، المتفنن في علوم عديدة".
أخلاقه وعبادته
كان ابن القيم كعادة العلماء الربانيين في الأمة يجمع بين العلم والعمل، فهو ليس كبعض من بليت بهم الأمة ممن ينتسب إلى العلم زورًا، فيقول ولا يعمل، وينصح ولا يرتدع، ويعظ ولا يتعظ. فلقد كان ابن القيم -رحمه الله- ذا عبادة وزهادة، وتهجد واجتهاد، سائرًا في مدارج الربانيين، دائم الذكر، طويل الفكر، يطيل الصلاة بصورة لم يقو على مثلها أشد أهل زمانه عبادة، حتى إن الناس كانوا يلومونه على طولها، ويقعون فيه بسبب ذلك، وهو لا يرجع عن طريقته تلك، التي هي من طراز السابقين الأولين.
وبجانب عبادته واجتهاده ولزومه درب الزهاد والنساك، كان ابن القيم سمح الأخلاق، كبير الاحتمال، سريع العفو، كثير التودد، وأوذي في الله كثيرًا، فلم تسمع منه كلمة واحدة في حق من آذاه، عفا عمن ظلمه، وجعل أجره على الله -عز وجل-، على الرغم من كثرة الوشايات والسعايات في عصره -عصر المماليك- إلا أنه لم يتلوث بشيء منها قط؛ لذلك طوى الزمان ذكر خصومه وأعدائه، على الرغم من كون بعضهم من العلماء الكبار، فلم يعد يعرفهم أحد، ورفع ذكره فصار أستاذاً في التربية والتهذيب بجانب علومه الواسعة وفنونه الكثيرة، وأصبح قدوة للسالكين حتى وقتنا الحاضر.
وكان ابن القيم مشهوراً بحب الكتب وجمعها، حتى تكونت لديه مكتبة كبيرة، يقول ابن كثير: "واقتنى من الكتب ما لا يتهيأ لغيره تحصيل عُشرِه، من كتب السلف والخلف". وقال ابن رجب: "وكان شديد المحبة للعلم واقتناء الكتب، واقتنى من الكتب ما لم يحصل لغيره". ويقول ابن حجر العسقلاني: "وكان مغرى بجمع الكتب، فحصل منها ما لا يحصر". وقد خلَّف ابن القيم مكتبة كبيرة جدًا، فيذكر ابن حجر أن أولاده ظلوا دهرًا يبيعون منها بعد موته، سوى ما اصطفوه لأنفسهم. وتلك الثروة المكتبية مكنت الإمام ابن القيم من التوسع في التحصيل وأثرته في باب التأليف والتصنيف، وهو ما سيظهر جلياً في موسوعيته في التصنيف والتأليف، حيث كتب في معظم الفنون وأجاد فيها وبرع.
مصنفاته ومنهجه في التأليف
أهم ما يميز هذا الإمام الفذ هو تراثه العلمي والفكري الذي تركه للأمة، وأثرى به المكتبة الإسلامية؛ فلقد رزقه الله -عز وجل- ذهناً سيالاً، وقلماً دفاقًا، وبركةً في أوقاته التي كانت عامرة كلها بالنافع والصالح لنفسه، وللأمة كلها، ورغم تبحره في علوم كثيرة، وتأليفه في شتى أبواب العلم، خاصة في الأصول والعقائد والحديث إلا أن أكثر ما يميزه؛ كتاباته ومؤلفاته في علم السلوك والرقائق، وأدواء النفوس، ومقامات الإيمان، وله في ذلك المصنفات الرائعة الفائقة، والتي أربى فيها على المتقدمين، ولم يلحقه فيها أحد من المتأخرين، والتي صارت بمثابة العلامات المضيئة في تاريخ التصنيف والتأليف في باب الرقائق، والتي جعلت الإمام ابن القيم يتبوأ مكانة سامقة كواحد من أفضل من كتب في أحوال القلوب والنفوس.
وقد كتب الإمام ابن القيم في فنون كثيرة؛ في العقائد والأصول والفقه والسير والسلوك والحديث والتفسير، حتى عدّ له بعض أهل العلم قرابة المائة مصنف، تميزت بسمات مميزة عن سائر تصانيف أهل الإسلام في عصره، وما تلا ذلك من عصور، برز من خلالها خصوصية منهج ابن القيم في التأليف والتصنيف، بحيث صارت لمؤلفاته بصمة خاصة متفردة، يعرفها كل قارئ.
ومن أهم ملامح منهج الإمام ابن القيم في مصنفاته:
1-الموسوعية والتنوع: فلا يكاد يوجد مصنف لابن القيم يقتصر على فن واحد من الفنون أو باب واحد في العلوم، وهو ما ورثه عن شيخه الإمام ابن تيمية الذي تعتبر كتبه بمثابة البحر الزاخر بشتى الفنون، وإن كان ابن القيم قد فاق أستاذه في هذا المضمار. ويُصوِّر الحافظ ابن حجر هذه الميزة في مؤلفات ابن القيم، فيقول: "وكل تصانيفه مرغوب فيها بين الطوائف، وهو طويل النفس فيها، يَتَعَانَى الإيضاح جهده، ويسهب جداً".
2-الواقعية: فكتب ابن القيم تشتبك مع واقعه وعصره بقوة، فتجد كتبه مليئة بأحداث عصره وربطها بالنصوص الشرعية مع حسن عرض وجمال صياغة لأفكاره، بحيث تجد في كتبه العديد من الإجابات عن أسئلة مازالت تدور في عقول الناس حتى وقتنا الحاضر، ولعل كتابي الفوائد والجواب الكافي خير دليل على حيوية ما يكتبه الإمام.
3-الأثرية: فكتب ابن القيم مثال بالغ الوضوح في نمط الكتابة السلفية التي تعتمد على نصوص الوحي وأدلة التشريع المعتمدة مع البعد التام والقطيعة الكاملة مع العلوم الفلسفية والمناهج الأرسطوية والحجج الكلامية. وعلى الرغم من اعتماده في المقام الأول على نصوص الكتاب والسنة، فإنه لم ير مانعاً من الاعتماد على العقل الصحيح السوي، فإنه يرى أن ما عُلِم بصريح العقل الذي لا يختلف فيه العقلاء، لا يُتَصور أن يعارضه الشرع البتة، ولا يأتي بخلافه.
4-الترصيع: وهو من أبرز ملامح منهج ابن القيم في التأليف؛ فمؤلفات ابن القيم تبهر العقول، وصياغته للأفكار تأخذ بمجامع القلوب من جمال وحلاوة الأسلوب وبديع الصناعة وروعة الترصيع. ولعل ذلك هو ما عبَّر عنه الشوكاني بقوله: "وله من حسن التصرف، مع العذوبة الزائدة، وحسن السياق، ما لا يقدر عليه غالب المصنفين، بحيث تعشق الأفهام كلامه، وتميل إليه الأذهان، وتحبه القلوب".
هذا الجمال دفع أشد خصوم منهج ابن القيم؛ الصوفية والأشاعرة للثناء على كلامه، فأحمد بن الصديق الغماري المعروف بتصوفه الشديد يثني على كلام ابن القيم ويصفه بأنه عليه أنوار النبوة، في حين يذم كلام ابن تيمية ويصفه بالظلامية على الرغم من كون كلام الإمامين الكبيرين من نفس المعين!!
5-التحرير: فقد جرت عادة ابن القيم في أكثر مؤلفاته على تحرير أقواله بأن يعرض آراء كل فريق في المسائل المختلف فيها، مع ذكر أدلة كل فريق، وتحليل ذلك كله ومناقشته، وبيان الراجح من المرجوح، والصواب من الخطأ. ويكون ترجيحه لما تدعمه الأدلة، وتؤيده البراهين، وفق منهجه المتبع في الانتصار للدليل.
ثناء الناس عليه
ثناء الناس وأهل العلم على ابن القيم -رحمه لله- خاصة من معاصريه، ومن جاء بعده- أصدق شهادة على مكانة هذا الإمام الفذ، الذي اجتهد خصومه من أرباب التصوف الكاذب، وأتباع الفرق الكلامية والمذاهب الفلسفية والمقلدة والمتعصبة والحسدة في طمس حسناته ومكانته وتشويه سيرته، ولكن كما قيل: كفا بالحاسد والحاقد عقوبة من نفسه، وثناء الناس وأهل العلم على ابن القيم من جملة عقوبة الله -عز وجل- لهؤلاء الحسدة والمتعصبة، وهذا طرفٌ من ثناء الناس على هذا الإمام الفذ:
قال ابن حجر العسقلاني: "ولو لم يكن للشيخ تقي الدين من المناقب إلا تلميذه الشهير: الشيخ شمس الدين ابن قَيِّم الجوزية، صاحب التصانيف النافعة السائرة، التي انتفع بها الموافق والمخالف، لكان غاية في الدلالة على عظم مَنْزلته".
وقال:" كان جريء الجنان، واسع العلم، عارفاً بالخلاف ومذاهب السلف".
وقال شيخه جمال الدين المزي: "هو في هذا الزمان كابن خزيمة في زمانه".
وقال تلميذه ابن رجب الحنبلي: "ولا رأيت أوسع منه علماً، ولا أعرف بمعاني القرآن والسنة، وحقائق الإيمان منه، وليس هو بالمعصوم، ولكن لم أر في معناه مثله".
وقال الشوكاني: "وكل تصانيفه مرغوب فيها بين الطوائف، وله من حسن التصرف مع العذوبة الزائدة وحسن السياق ما لا يقدر عليه غالب المصنفين بحيث تعشق الأفهام كلامه وتميل إليه الأذهان وتحبه القلوب".
وقال جلال الدين السيوطي المعروف بأشعريته وتصوفه: "صنَّف، وناظر، واجتهد، وصار من الأئمة الكبار في التفسير، والحديث، والفروع، والأصلين، والعربية".
وقال الصلاح الصفدي: "اشتغل كثيراً وناظر، واجتهد، وأكب على الطلب، وصنَّف، وصار من الأئمة الكبار في: علم التفسير، والحديث، والأصول: فقهاً وكلاماً، والفروع، والعربية، ولم يخلف الشيخ العلامة تقي الدين ابن تيميَّة مثله".
قال ابن ناصر الدين الدمشقي: "أحد المحققين، علم المصنفين، نادرة المفسرين".
وقال الحافظ الذهبي وهو من أقرانه: "الفقيه، الإمام، المفتي، المتفنن، النحوي". وقال أيضًا: "عُني بالحديث متونه ورجاله، وكان يشتغل في الفقه ويجيد تقريره، وفي النحو ويدريه، وفي الأصلين".
وقال المؤرخ الكبير تقي الدين المقريزي: "برع في عدة علوم، ما بين: تفسير، وفقه، وعربية، وغير ذلك، ولزم شيخ الإسلام، وأخذ عنه علماً جَمًّا، فصار أحد أفراد الدنيا".
وقال ابن تَغرِي بَردِي: "كان بارعاً في عدة علوم، ما بين: تفسير، وفقه، وعربية، ونحو، وحديث، وأصول، وفروع، ولزم الشيخ تقي الدين بن تيمية. وأخذ عنه علماً كثيراً، حتى صار أحد أفراد زمانه". وقال السخاوي: "العلامة، الحجة، المتقدم في: سعة العلم، ومعرفة الخلاف، وقوة الجنان".
وقال ابن العماد الحنبلي: "الفقيه الحنبلي-بل المجتهد المطلق-المفسر، النحو، الأصولي، المتكلم". وقال ابن شطي: "ذو اليد الطولى، الآخذ من كل علم بالنصيب الأوفى. تَفنَّن في علوم الإسلام، فكان إليه المنتهى في: التفسير، وأصول الدين، وكان في الحديث والاستنباط منه لا يجارى، وله اليد العليا في الفقه وأصوله، والعربية، وغير ذلك".
وقال ابن كثير الدمشقي: "صار فريداً في بابه في فنون كثيرة. وبالجملة: كان قليل النظير في مجموعه وأموره وأحواله".
أثره في الأجيال التالية
برز أثر ابن القيم وأثر كتبه إلى جانب تأثير شيخه ابن تيمية مترابطين ببعضهما البعض، في أماكن متفرقة من العالم الإسلامي، فتذكر المصادر التاريخية أن حركة محمد بن عبد الوهاب، التي ظهرت في القرن الثاني عشر الهجري، كانت امتداداً لدعوة ابن تيمية، وأن محمد بن عبد الوهاب اعتنى بكتبه وكتب تلميذه ابن القيم اعتناء كاملًا.
وكذلك بالنسبة لمحمد رشيد رضا فيذكر عنه أنه اعتنى بكتبهما، وتأثر بهما تأثرًا بالغًا، ودافع عن كل دعوة سلفية في مراحل التاريخ الإسلامي ككل، فدافع عن ابن تيمية وتلميذه ابن القيم بكل قوة، ونهج منهجهما في كثير من آرائه وأفكاره، وتأثر بكثير من مواقفهما الدينية سواء في نواح عقائدية بحتة أو في نواح فقهية اجتهادية متنوعة.
وفي شبه القارة الهندية برز -أيضًا- أثر ابن القيم وأثر كتبه إلى جانب ابن تيمية، فيذكر المؤرخ الهندي "عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائي" أن الشاه ولي الله الدهلوي الذي ظهر في القرن الحادي عشر الهجري ودرس في المدينة المنورة وأخذ علم الحديث عن علمائها، اطلع هناك على كتب ابن تيمية وابن القيم، وأثرت كتب ابن تيمية في كتاباته.
وكذلك النواب صديق حسن خان القنوجي البخاري فيذكر الفريوائي أنه أشاد بذكر ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وعلومهما كما نقل عنهما في مؤلفاته، وعدهما في مجددي هذه الأمة اللذين ليس لهما نظير في تاريخ الإسلام.
وكذلك الحال بالنسبة لأفراد "الأسرة الغزنوية" المشهورة بالعلم والسياسة الذين قاموا جميعًا بنشر كتب ابن تيمية وكتب ابن القيم حيث نشروا "مجموعة التوحيد" و"مجموعة الحديث النجدية" وفيها مؤلفات ابن تيمية وابن القيم.
وقد كان عبد الرحمن المباركفوري ومحمد شمس الحق العظيم آبادي ينقلون من كتب ابن تيمية وتلاميذه ومن بينهم ابن القيم.
أما الحركات الإسلامية المعاصرة والحديثة مثل أنصار السنة المحمدية والجمعية الشرعية والجامعات الإسلامية في كثير من بقاع العالم الإسلامي، فكلها كمتأثرة بكتابات شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وتعتمد مؤلفات الإمامين كمراجع ثابتة في أبجديات التصور العلمي والفكري لدى جلّ المعاصرين.
محنته ووفاته
اتصال الإمام ابن القيم بشيخ الإسلام ابن تيمية كانت فاتحة عهد طويل من الابتلاءات والمحن التي تعرض لها الإمام ابن القيم. فحياة ابن تيمية كانت مسلسلا متواصلا من المحن والابتلاءات، وكانت بداية العلاقة بين ابن القيم وابن تيمية سنة 712هـ بعد عودته من مصر منتصرًا على خصومه من الصوفية، وقد شهدت هذه الفترة من سنة 712هـ إلى سنة 720هـ هدنة من المحن في حياة ابن تيمية مكنته من نشر أفكاره وفتاواه وعلمه، وتهيئته لمجموعة من التلاميذ الذين سيحملون المنهج السلفي، وينشرونه بين الناس، وفي مقدمة هؤلاء الإمام ابن القيم.
في سنة 725هـ خرج ابن القيم حاجًّا، وأثناء عودته عقد درسًا للوعظ والتفسير بالمسجد الأقصى، تكلم فيه عن مسألة الزيارة، وشد الرحال لزيارة قبر الخليل بفلسطين وأنكرها؛ فهاج عليه الناس وثاروا، ورفعوه إلى قاضي القضاة؛ فحكم بردته وقتله.
وانظر كيف وصل الحال بالتعصب والجهل، يهدر دم امرئ مسلم، بل عالم رباني على فتوى صحيحة!! واستطال الأمر، وعظمت المحنة، وانتهز خصوم ابن تيمية من الصوفية والأشاعرة، وغيرهم الفرصة، وألبوا السلطة على ابن تيمية، وكل من ينتمي إلى مدرسته، فقبضوا على ابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، والكتبي، والبرزالي، وغيرهم، وآذوهم بشدة، وشهروهم في دمشق، وكان لابن القيم النصيب الأوفر؛ إذ ضرب بين يدي القاضي والأمير، وأهين بشدة، ثم حمل على حمار مقلوبًا، وطيف به في أنحاء دمشق كما يفعل مع السراق والمفسدين، ثم ألقوا به في السجن مع شيخه ابن تيمية، ولكن بصورة انفرادية، وظل رهين حبسه حتى مات شيخه ابن تيمية سنة 728هـ، وخلال تلك الفترة الطويلة انشغل ابن القيم بالذكر والمناجاة والدعاء، وقراءة القرآن؛ ففتح الله -عز وجل- له أبوابًا كثيرة من العلم والتدبر والفهم، والمواجد الصحيحة، وقد بان أثر ذلك في كتاباته بعدها؛ فجاءت من قلم مجرب، وقلب متبتل، ومعايشة محنة، وبعد وفاة شيخ الإسلام ابن تيمية أفرجوا عن ابن القيم.
بعد خروج الإمام ابن القيم من سجنه ومحنته أخذ على عاتقه نشر أفكار شيخ الإسلام ابن تيمية، وكان الأشاعرة وقتها من أشد خصوم ابن تيمية ومنهجه السلفي، وكل من ينتمي إلى السلفية، وكانت الدولة للأشاعرة؛ فاستخدموا نفوذهم، ومساندة السلطة لهم في قمع أتباع المنهج السلفي.
تولى تقي الدين السبكي كبير المدرسة الأشعرية منصب قاضي القضاة بالشام سنة 739هـ، وابن القيم وقتها يعتبر علم المدرسة السلفية، فتحامل عليه بشدة، وصار يتتبعه في فتاواه وآرائه، وينتقده، ويؤلب عليه السلطة، حتى إن السبكي قد عقد له مجلسًا بسبب فتواه بجواز المسابقة بغير محلل، وأجبره على التراجع عنها، ثم سعى في سجنه بسبب تصديه لمسألة الطلاق الثلاث بلفظ واحد، وهي الفتوى التي سبق وأن أفتاها ابن تيمية، وأوذي بسببها، وبالفعل تسبب السبكي في سجن ابن القيم فترة من الوقت، ومن شدة تضييق تقي الدين السبكي على الإمام ابن القيم اضطره للرحيل إلى مكة؛ حيث جاور هناك فترة طويلة من الزمن، استغلها في العبادة والإقبال على الله -عز وجل-، والتأليف والتصنيف، فألف في تلك الفترة أروع كتبه مثل: بدائع الفوائد، ومدارج السالكين، وزاد المعاد، ومفتاح دار السعادة.
ورغم كثرة المحن والابتلاءات التي تعرض لها الإمام ابن القيم، والإهانة والضرب والجبس الذي تعرض له: صغيرًا وكبيرًا، تلميذًا وإمامًا، إلا أنه لم يغير موقفه وآراءه، ومنهجه ودعوته، وظل على طريقه ودربه سائرًا، ينفع الناس، ويحارب البدع والخرافات والأفكار المخالفة للإسلام، وقد جعل هدفه في الحياة العودة بالناس لمنابع الدين الصافية النقية؛ لذلك لما رحل عن دنيانا في رجب 751هـ خرجت دمشق عن بكرة أبيها لتودع هذا الإمام الفذ العلامة، وقد تأسف الجميع لرحيله، حتى خصومه؛ لما كان عليه من العلم والفضل، والأخلاق الحسنة، ولم تنل المحنة منه، ولم تؤثر على مكانته ودرجته، وظل لوقتنا الحاضر يتبوأ منزلة ساحقة في تاريخ علماء الأمة وأعلامها.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم