اقتباس
يجب رفع الوعي الشعبي والجمعي بمنهج الإسلام في الحفاظ على الأرض والبيئة، وعرض خطته السامية الراقية لإنقاذ الأرض من على شفا الهاوية، والخطباء بحكم كونهم أكثر...
عواصف وأعاصير لم تكن معروفة من قبل، ذوبان لجليد متجمد منذ آلاف السنين، أمطار وصواعق في غير موعدها، شتاء داخل في الصيف، وصيف تغول في الشتاء، اختفاء للربيع وأفول للخريف، تحرك للأحزمة المناخية وانقلاب طقسي لم تُسجله الكتب والمراجع من قبل قط، جفاف للأنهار، واحتراق للغابات، واختفاء عشرات الأنواع من المزروعات والنباتات، مجاعات لمئات الملايين في أفريقيا وأسيا، وانتشار عجيب للأوبئة والأمراض التي حصدت أرواح مئات الآلاف، ارتفاع غير مسبوق لدرجات الحرارة!!
ما الذي يجري للكون كله من حولنا؟! هل أصابه الجنون؟! أم أنه مأمور مأذون؟!
هل انقلبت الأرض على سكانيها؟! أم غضبت السماء على مخربيها؟!
هل حانت ساعة النهاية، وقد دنا الرحيل، وأزفت الآزفة؟!
أم أن أيدي الإفساد البشرية قد أغضبت رب البرية؛ فها هو -سبحانه-يسلبهم أعظم نعمه المادية، ويعاقبهم على الإسراف والكفران، بعد أن سخر الكون لخدمتهم، ويسره لمعايشهم، وكشف لهم من أسرار العلوم ما ينفعهم في توظيفها واستغلالها؛ فأساؤوا النعمة وجحدوها، وتحول العلم الحديث والمنجزات الصناعية والإنتاجية إلى وابل ونقمة، وانقلب العلم من الفريضة إلى الخطيئة!!
فمنذ أن حدثت هذه الفرقة العنيفة بين الدين والعلم في أوروبا، منذ أن سار كل منهما في طريق يخالف الآخر ويناصبه العداء، وطلع إلى الوجود أمثال دارون فرويد وماركس يلوثان العقيدة ويصوران النفس الإنسانية صورة بشعة مليئة بالأقذار أقذار الجنس عند فرويد، وأحقاد الصراع الطبقي عند ماركس، ومن خلال هذه الرؤية المشوهة لقيمة وأثر العلم ظهر علماء كثيرون في الطبيعة والكيمياء والفلك والرياضة والطب يشتملون على عبقريات جبارة، ويفتحون آفاقاً جبارة في هذه العلوم ولكنهم مع الأسف يرفضون السير في طريق العقيدة ويتنكبون طريق الهداية ، ويسخّرون علومهم لمزيد من الفصام النكد بين المجتمعات والدين والخالق.
وإذا تخلى العالم عن الله فقد تلقفه الشيطان وسار به في طريق الشر، وأبعد في طريق الضلال. وإن أول الشر أن يكون العلم الذي هو نور الله يهدي به الإنسان إلى الحق يصبح ذريعة الناس إلى التدمير والإفساد في كل منحى من مناحي الحياة، العلم الذي هو طريق الإنسان إلى الخير البشري يصبح أداة التحطيم لهذه البشرية، يهددها بالموت المرعب كأبشع ما شهده الإنسان، وما تزال تجربته الصغيرة في هيروشيما ماثلة في الأذهان.
وبعد أن شعر الإنسان بفداحة جريمته بحق الكون والأرض التي يعيش عليها ويتمتع بخيراتها، بعد الاحصائيات المفزعة، والمظاهر المروعة، والتنبؤات المقلقة تداعى العقلاء والعلماء لعقد المؤتمرات العلمية والسياسية لبحث سبل وقف نزيف الأرض، وكُتبت أطروحات، ونُوقشت رسالات وورقات عمل، وشُكلت لجان إثر لجان، وكل ذلك الجهد كان بطابع علمي عالمي سياسي مشترك، وقد اتفقت جميعها على تحديد الجاني وأسباب جنايته؛ فالإنسان بإفراطه وإسرافه في الحياة وتغوله في التلوث واستخدام التكنولوجيا الملوثة للبيئة قد أدى لوقوف الأرض على حافة الاشتعال والانفجار.
ورغم مرور خمسين سنة على عقد أمثال هذه المؤتمرات السنوية لبحث التغيرات المناخية وأثر الاحتباس الحراري على البيئة إلا إن المشكلة مازالت متفاقمة وتدخل في منحنيات أشد خطورة وترويعاً، وكل اقتراحات الحل تتكسر على صخرة الواقع، وذلك بسبب انطلاق هذه الحلول من رؤية وثنية مادية بحتة للكون، لا تؤمن إلا بمصالحها ونفوذها، وتتجافى عن البعد الديني وترفض كل المناهج والأطروحات المنبثة من وجهة نظر دينية وأخلاقية!!
نظرة الإسلام الشاملة للكون
الإسلام قد وضع صياغة نظرية وعملية متكاملة في الحفاظ على البيئة وصيانة الكون وحماية الأرض من يد الإفساد والتدمير، انطلاقاً من نظرته الشاملة والمتكاملة للحياة بكل تفاصيلها ومكوناتها، مصداقاً لقوله-تعالى-: (ما فرطنا في الكتاب من شيء)[الأنعام:38].
فالأرض صنعة الله -عز وجل- المتقنة (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)[النمل 88] التي سيرها وفق سنن ونواميس كونية ضبطت حركة هذا الكون في نظام بديع يستحيل أن تجد فيه خرقاً ولا خللاً إلا أن يشاء الله. ويوم أن تدخل البشر بعقولهم القاصرة، وعلمهم المحدود، لتغير هذه النواميس أفسدوا كل شيء، ودمروا هذا النظام البديع، فانقلبت الأرض على ساكنيها، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس.
لذلك فالإسلام حرّم الإفساد في الأرض بكل صوره في عدة آيات:
قال -تعالى-: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ)[البقرة:205]، وقال: (كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)[البقرة:60]، وقال: (ولا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إصْلاحِهَا)[الأعراف: 56]، وإصلاحها يعني أن الله قد خلق الأرض صالحة مُهيَّأة لتُنبت للإنسان ولتُعطيه ما يحتاج إليه فيأتي من يفسد هذه الأرض ويفسد تربة الأرض ويفسد الماء ويفسد الهواء ويفسد كل شيء. كما هو واقع اليوم.
وأرجى آية في كتاب الله توصف حال البيئة اليوم، وتضع روشتة العلاج، بتقرير أسبابه، ومعرفة دوائه هي قوله-تعالى-: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[الروم:41] حيث يتضح من التدبر في الآية أربعة ملامح رئيسية:
أولاً: تقرير ظهور الفساد في البر والبحر، وإثبات حدوثه.
ثانيًا: سبب ظهور الفساد، وأنه بما كسبت أيدي الناس؛ أي بفعلهم وجرمهم وإسرافهم وتلويثهم للبيئة المحيطة بهم براً وبحراً.
ثالثًا: انعكاس آثار الفساد سلبًا على الناس في معايشهم ومدنهم وعلى صحتهم، بعد أن ذاقوا عاقبة الفساد بظهور الأمراض والأوبئة وانتشار المجاعات والقحط.
رابعًا: طريق الإصلاح بالعودة إلى الله -عز وجل- الذي بيده ملكوت كل شيء، وعنده خزائن كل شيء.
الإسلام والتربية الوقائية
هناك قاعدة كلية أساسية لفهم منهج الإسلام في ضبط أمور الحياة مفاداها: "أن الإسلام لم يترك خيراً إلا أمر به، ولا شراً إلا نهى عنه، ولا منفعة إلا أيدها ودعمها، ولا مفسدة إلا حذر منها وأمر باجتنابها".
ومن هذه القاعدة الكلية خرّج أهل العلم العشرات من القواعد والأصول الفقهية الحامية والصائنة للإنسان والمجتمع والبيئة والكون كله، مثل قاعدة " لا ضرر ولا ضرار"، وقاعدة "سد الذرائع"، وقاعدة "العام مقدم على الخاص"، وقاعدة "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب" وقاعدة "دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح" وهذه القاعدة الأخيرة تحديداً هي أهم أدوات الحفاظ على البيئة والمجتمع؛ إذ أن معظم ما يدمر البيئة ويفسد في الأرض يأتي من مصانع ومعامل للإنتاج ما يعتقد البشر أنه ذو منفعة ومصلحة لهم. مما يبين مدى أسبقية الإسلام في المنهجية الراشدة للحفاظ على البيئة والأرض كلها.
ومقاصد الشريعة وحفظ الضروريات الخمس كما قررها أهل العلم ترتبط ارتباطاً وثيقاً بحماية البيئة والحفاظ عليها من الاستنزاف أو التلف أو الفساد، وهذا ما تنبه إليه علماؤنا الأوائل؛ فقالوا في تفسير قوله تعالى: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) أن هذا النهي عن إيقاع الفساد في الأرض، وإدخال ماهيته في الوجود، فيتعلق بجميع أنواعه من إيقاع الفساد في الأرض: إفساد النفوس والأنساب والأموال والعقول والأديان.
وانطلاقاً من هذه النظرة الشاملة لإصلاح الكون وعمارته بكل نافع، وربط هذه النظرة بالإيمان والحسنات والسيئات؛ فإن الإسلام قد زخر بالنصوص الداعية إلى الحفاظ على الصحة الفردية والمجتمعية العامة؛ بدءًا من الأذكار والأدعية بطلب العافية والسلامة، مروراً بما يجلبها من وسائل وأدوات، وحتى الرؤية الإيجابية في التعامل مع المرض حال وقوعه، والمحافظة على البيئة؛ حتى لا تنتقل عدوى المرض إلى الآخرين.
والإسلام سبق أوروبا والغرب بقرون في بناء مصطلح " التربية الوقائية" من باب الوقاية خير من العلاج؛ فالإسلام أول من وضع قواعد الحجر الصحي؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ليس مِن أحد يقع الطاعون، فيمكث في بلدِه صابرًا مُحتسبًا، يعلم أنَّه لن يصيبَه إلاَّ ما كتبَ الله له، إلاَّ كان له مِثْل أجر الشَّهيد"(رواه البخاري). وعن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما-، عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا سَمِعْتم بِالطَّاعون في أرضٍ، فلا تَدْخُلُوها، وإذا وقع بأرضٍ وأنتم بها، فلا تخرجوا منها"(رواه البخاري)، وقال: "لا يُورَدُ مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ" منعاً لانتشار المرض وانتقاله بين الناس.
والإسلام اهتم اهتماماً بالغاً بالنظافة والصحة الشخصية، وجعلها من علامات الإيمان والاستقامة وسنن الفطرة، والإسلام أحل الطيبات، وحرّم الخبائث، وأمر بنظافة البدن والأيدي والأسنان والأظافر والشعر ونظافة الملبس ونظافة الطعام والشراب ونظافة الشوارع والبيوت ونظافة المياه كالأنهار والآبار، وحرّم على المسلمين وغيرهم قضاء الحاجة في قارعة الطريق، وإلقاء القاذورات والميتة والمخلفات في مجري المياه خشية تلويثها، فيضر بذلك الإنسان والحيوان وغيرهما من مخلوقات الله؛ لهذا نهى النَّبي -صلى الله عليه وسلم- عن التغوُّط في موارد المياه والطريق، كما نهى أيضًا عن التبول في الماء الراكد. قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يَبُولَنَّ أحدكم في الماء الدَّائم الذي لا يجري، ثم يغتسل منه"(رواه البخاري). وعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اتَّقوا الملاعن الثلاث: البراز في المَوَارد، وقارِعة الطَّريق، وفي الظِّل"(رواه الطَّبَراني).
وأمر الإسلام بنظافة الطرق والحفاظ عليها من كل ما يؤذي، وجعل ذلك من شعب الإيمان؛ ففي الحديث الشهير: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان". بل جعل الإسلام إماطة الأذى من حقوق الطريق الثابتة؛ ففي الحديث الصحيح: قالوا: وما حقُّ الطَّريق يا رسول الله؟، قال: "غَضُّ البَصَر، وردُّ السَّلام، وإماطة الأذى عنِ الطَّريق"، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بينما رجل يمشي في الطريق إذ وجد غصن شوك، فأخره فشكر الله له فغفر له".
الإسلام والحض على العمران ومحاربة التصحر
الإسلام حضّ على العمران المدني، ودعا إلى عمارة الأرض والقيام بواجب الاستخلاف فيها بشتى الأنشطة العمرانية، وربط هذا النشاط بميزان الحسنات؛ فعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما مِن مُسلمٍ يغرس غَرْسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طيرٌ، أو إنسانٌ، أو بهيمةٌ، إلاَّ كان له به صدقة"(رواه البخاري).
وفي المقابل نهى الإسلام نهيًا شديدًا عن قطع الشجر لغير حاجة، حتى لو كانت هذه الشجرة لا يُؤكل ثمرها، فقال-صلى الله عليه وسلم-: "مَن قطع سدرة صَوَّبَ الله رأسه في النار"(رواه أبو داود).
بل جعل الإسلام التعمير وإحياء الأرض الميتة من أسباب التملك، فقال عليه الصلاة والسلام: "من أحيا أرضًا ميتةً فهي له"، وقال: "من عمّر أرضًا ليست لأحد، فهو أحق بها"؛ وذلك لمحاربة التصحر الذي يؤثر على معيشة الأفراد، ويفسد من بيئتها.
ولذلك كله يجب رفع الوعي الشعبي والجمعي بمنهج الإسلام في الحفاظ على الأرض والبيئة، وعرض خطته السامية الراقية لإنقاذ الأرض من على شفا الهاوية، والخطباء بحكم كونهم أكثر الناس اتصالاً وتأثيراً في عموم الجماهير يجب عليهم تخصيص عدة خطب ودروس ومحاضرات لرفع الوعي البيئي لدى الجماهير، وبناء ثقافة الفرد النظيف في المجتمع النظيف، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل أن تغرق الأرض بساكنيها.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم