اقتباس
وخلال ذهابنا معه إلى الجمعة يختار الوالد بعضنا ليكون معه في الصف الأول، ويترك لغيره حرية الجلوس حيث يشاء ثقة بهدوئه، وأنه لا يجرؤ على فعل ينتقد، وكنت من الصنف الثاني، ولذلك فلربما أني...
يوم الجمعة يوم مميز في أسبوع المسلمين فهو أول الأيام، وخيرها، وله كثير من العبادات والسنن المخصوصة، ويكاد أن يكون يومًا أسريًا بامتياز، وهذه الخصيصة واضحة حتى أن الرئيس الليبي السابق معمر القذافي حين عمد بالتغيير الجريء -والمضحك أحيانًا- إلى طريقة حساب التقويم السنوي، وفي تجديد أسماء الأشهر والأيام، اختار لهذا اليوم اسمًا بديلًا معبرًا هو “الّلمة”، ولكنه مع دلالته يفقد البهاء والرونق للاسم المتعارف عليه بما له من صفة شرعية ورسوخ تاريخي، ومعاني متوافقة مع مضمونه التعبدي والأسري والمجتمعي.
ولكل أب مع بنيه ذكريات في يوم الجمعة أو هكذا يجب، فليس أعذب من أيام الطفولة في كنف الوالدين، ولا أنفع للفتى والفتاة من التقرب إليهما زمن الفتوة وتفتح الذهن؛ فهما الأشفق والأنصح والأخبر. ومما أذكره أن والدي -رحمة الله ورضوانه عليه- كان يصحبنا معه إلى صلاة الجمعة أسبوعيًا، ويختار الخطيب الأكثر علمًا والأحسن أداء بلا تعصب لاسم، أو منطقة، أو سؤال عن حال، أو تتبع لأقوال، ويصنع ذلك حتى لو كان موضع جامع هذا الخطيب أبعد. ولربما أنه تحدث معنا في طريق العودة أو حين الرجوع للمنزل عن الخطبة ومضمونها، أو أشار إلى رأي آخر سمعه، أو ذكر تصحيحًا، ومرة قال بأن الخطيب نسب آية لسورة الأعراف، وهي على الصواب في سورة آل عمران.
ولا غرابة أن يكون الوالد عارفًا بالآيات ومواضعها ذلك أنه يقرأ القرآن الكريم يوميًا دون انقطاع، ويكاد أن يكون له ختمة أسبوعية يحرص على جعلها في يوم الجمعة اغتنامًا لوقت الإجابة فيه، هذا الوقت الذي يقضيه قبيل المغرب بالدعاء تاركًا الدنيا وشؤونها خلف ظهر ودبر أذنيه. ومما علمناه في هذا اليوم قراءة السور التي ورد في السنة فضل لتلاوتها يوم الجمعة وأهمها سورة الكهف، وكان يحثنا على حفظ أول عشر آيات منها وآخر عشر آيات لأنها تحمي صاحبها من الدجال وفتنته.
وخلال ذهابنا معه إلى الجمعة يختار الوالد بعضنا ليكون معه في الصف الأول، ويترك لغيره حرية الجلوس حيث يشاء ثقة بهدوئه، وأنه لا يجرؤ على فعل ينتقد، وكنت من الصنف الثاني، ولذلك فلربما أني جلست أحيانًا خلف الوالد بصفوف، أو بعيدًا عنه. وأتذكر أن رجلين من أصدقاء الوالد طلبا مني تسميع بعض سور القرآن العزيز لهما، وأحدهما هو الشيخ الأديب إبراهيم الحسون، والآخر رجل شهم من العاملين مع أمير المنطقة الذي يصلي في الصف الأول كل جمعة، بينما يأتي هذا الرجل بجواري في الصف الرابع أو الثالث مع أنه يدخل ضمن حاشية الأمير عبدالله بن عبدالعزيز بن مساعد، أمير منطقة الحدود الشمالية.
كما أن الوالد يتزين ليوم الجمعة وصلاتها بما تستحقه من ثياب وبخور، ولم أشاهده ذاهبًا إلى هذه الصلاة إلّا ومشلحه معه استجابة لأمر الله باتخاذ الزينة عند كل صلاة، وللجمعة شبه بالعيد، وإلّا فوالدي من أبعد الناس عن المظاهر الدنيوية، وعن الاحتكاك بأهلها. ومن نفعه للآخرين حرصه على أخذ أحد الجيران كبار السن معنا للصلاة في المسجد، وخلال العودة يتناقشان ونستفيد منهما، ومما أذكره أني كنت أتضايق إذا ذكرا رجلًا فاضلَا كان مديرًا للشرطة اسمه أحمد فرّاش، حتى عرفت أن هذا اسم ولا يلزم منه المعنى الذي لم يرق لي؛ والأسماء لا تفسر، والشيء بالشيء يذكر؛ فقد كنت في صغري أظن أن الخطيب يقصدني إذا قال: أحمد الله خاصة أنه يلتفت لجهتي حينها!
ومن قصص يوم الجمعة أن الرجل الذي كنا نصطحبه معنا سافر فخلا مكانه، وفي الطريق لمح الوالد رجلًا أشيب من الجيران الأباعد يمشي قاصدًا المسجد، فتوقف عنده وأخذه معنا رأفة به مع أن لوالدي تحفظات على هذا الرجل بسبب تساهله في بعض الأمور، وانفلات لسانه أحيانًا. ومما أذكره ولا أنساه أن الرجل أخبرنا وكأنه يعظنا أن لوالده خمسة أبناء وبنت واحدة، وحينما كبرت سن أبيه لم يجد الرعاية التي يستحقها إلّا من ابنته الوحيدة! ولكأنه يورد هذه القصة كي يقول لنا: تسابقو إلى بر آبائكم، ولا تعجبوا من جفاء أبنائي لي، وتركهم إياي أمشي وحيدًا في الشمس وأنا عجوز يتكئ على العصا!
ثمّ إننا حين نخرج من المسجد عقب الصلاة نجد الباعة يرتزقون بعرض بضائعهم، فلا يتركهم الوالد غفر الله له دون أن يجلب البهجة لأطفاله بشراء شيء غير قليل من الحلويات والمكسرات وأنواع المعجنات والكعك، وغايته في ذلك أن نفرح بما يحبه الصغار عادة دون أن يكون له نصيب منها أو رغبة بها، والله يجعله في مثواه سعيدًا ويوم البعث مسرورًا، ويكتب أجر نفقاته في صحيفة حسناته ويضاعفها له، وأن يجعل للوالدة رحمها الله ورضي عنها نصيبًا من الأجر؛ فهي شريكة أساسية للوالد في التربية والتهيئة والتوجيه والإسعاد.
وعندما نعود إلى البيت، إما أن يكون لدينا غداء خاص لبعض الوافدين من المجاورين، وهو غداء يكون في الغالب يوم الخميس أو الجمعة، وربما جعل الغداء وسط الأسبوع لسبب أو آخر. وإذا كان يوم الجمعة بلا أضياف فإن الوالد يحرص على مشاهدة برنامج نور وهداية للشيخ الأديب علي الطنطاوي، وحينما يطلُّ الشيخ من خلف الشاشة مسلِّمًا يرد عليه الوالد التحية ويقول: والله إننا نحبك! ولم يكن للوالد متابعة تلفزيونية إلّا لهذا البرنامج ولبرنامج قرآني آخر يقدمه الشيخ المفسر محمد الراوي الذي كان الوالد يحبه ويرسل إليه السلام دون تعارف بينهما، رحم الله الجميع.
خلاصة القول أن الوالد جعلنا نشعر بعظمة هذا اليوم من ناحية دينية، واجتماعية، واقتصادية، وتربوية، وصنع من منهجه التطبيقي قدوة عملية دون أن يضطر لمزيد قول أو كثير بيان. وأسأل الله أن يكتب له أجر كل جمعة قضيناها معه أو بعده، وأجر أيّ عمل صالح وفقنا الله إليه خاصة من تلك الأعمال التي دأب على الالتزام بها قدر استطاعته، واجتهد في إيصال الرسالة لنا حولها بهدوء، وتدرج، ونموذج، حتى استقر لدينا المفهوم نظريًا وعمليًا، والله يجعلنا ممن يحسن الحمل والأداء والبلاغ، ويكتب له ولنا ولكم القبول والعفو.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
ahmalassaf@
الأربعاء 28 من شهرِ ذي الحجة الحرام عام 1443
27 من شهر يوليو عام 2022م
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم