عناصر الخطبة
1/حق النفس من الترويح والاستجمام 2/حث النبي لإعطاء النفس حقها من الترويح 3/من أحكام وآداب التنزه 4/وجوب الالتزام بالنظام والقوانين الحكوميةاقتباس
فإذا نزلتَ المنزلَ فألق عنك ثوبَ الرسمية، وسمةَ الوقار، واملأ وقت نزهتِك بالملاعبةِ والمداعبةِ لوالديك وأهلِك وأولادِك، قال الإمام الشافعي: "الوقار في النُّزْهَة سُخْفٌ"، فاستثمر كل لحظة لتقويةِ علاقة الوُد، وتمتينِ حبالِ الحبِّ مع أقربِ الناسِ إليك...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
أما بعد: بين زحامِ المهام، وركامِ الأعمال، وكثرةِ المسؤوليات، قد يصيبُ النفسَ شيءٌ من الملل والسآمة، والميلِ إلى كسر الرتابة، فتهفو إلى الاستجمام والترويح، واللهو والترفيه.
وإن من حكمة الشريعة الغراء أنها أثبتت للنفس هذا الحق، وأباحت للإنسان نصيبَه من ذلك، قاعدةٌ شهيرةٌ وضعها النبي -صلى الله عليه وسلم- لحنظلةَ حين شكا إليه تغير حال قلبه بين الإيمان حينا، وبين اللهو حينا آخر، فقال له: "يا حَنْظَلَةُ، سَاعَةً وَسَاعَةً"؛ أي: ساعةً في الحُضورِ والذِّكْرِ، وساعةً في مُخالَطةِ الأَولادِ والأَزْواجِ ومُلاعبَتِهم.
وحين سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أحد عبادِ الصحابة، وهو عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- أنه كان يقوم ولا ينام، ويصوم ولا يفطر، أسرع إليه ليعالجَ خللَه ويُبصّرَه بحقيقةِ نفسه فقال له: "فإنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذلكَ هَجَمَتِ العَيْنُ، وَنَفِهَتِ النَّفْسُ"؛ أي: أَعيت وكلت، وتعبت وأُجهدت، ثم بين له المنهج القويم وقال له: "فإنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لِزَوْرِكَ -أي لضيفك- عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا".
وتقول عائشةُ -رضي الله عنها- عن زوجِها -صلى الله عليه وسلم- أنه: "كان يَبْدو إلى هذه التِّلاعِ"؛ وهي مسايلُ الماءِ، فكان يخرج إليها ليخلوَ بنفسه بعيدا عن الناس.
ومع اعتدالِ الأجواء، وهبوبِ نسائمِ الشتاء، تهفو كثيرٌ من النفوس إلى الخروجِ في البرّية، والعيشِ مع أجواء الطبيعة، بعيدا عن صخبِ المدينة، وزحامِ أشغالها، وفي هذه الخطبةِ نستعرضُ بعضَ الآدابِ والأحكامِ التي تهم المسلمَ في مثل هذه النزه؛ لنحققَ الاستثمارَ الأمثل لساعةِ الترويح وساعةِ العبادة.
حين تصلُ إلى مكان النزهة فلا تنسَ دعاءَ نزول المنزل الذي أوصانا به النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتعلمُه لأهلك وولدك؛ ليكون سبباً في الحمايةِ من الأذى والشرور -بإذن الله-، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا نَزَلَ أَحَدُكُمْ مَنْزِلًا، فَلْيَقُلْ: أَعُوذُ بكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِن شَرِّ ما خَلَقَ؛ فإنَّه لا يَضُرُّهُ شيءٌ حتَّى يَرْتَحِلَ منه".
فإذا نزلتَ المنزلَ فألق عنك ثوبَ الرسمية، وسمةَ الوقار، واملأ وقت نزهتِك بالملاعبةِ والمداعبةِ لوالديك وأهلِك وأولادِك، قال الإمام الشافعي: "الوقار في النُّزْهَة سُخْفٌ"، فاستثمر كل لحظة لتقويةِ علاقة الوُد، وتمتينِ حبالِ الحبِّ مع أقربِ الناسِ إليك، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كلُّ ما يَلهو بِهِ المرءُ المسلِمُ باطلٌ ، إلَّا رميَهُ بقوسِهِ ، وتأديبَهُ فرسَهُ ، وملاعبتَهُ أهلَه"؛ والمعنى أن كلَّ لهوٍ لا ثوابَ عليه، إلا هذه الأمورَ وما يقاسُ عليها؛ فإنها من جنس الأعمال الصالحةِ المستحبّةِ التي ينال المسلمُ فيها الثوابَ الكامل، فأنت حين تلاعب أهلَك فإنك تمارس عبادةً من العبادات، تنال عليها من الأجرِ ما تناله في سائر الطاعات.
وحين يدخل عليك وقتُ الصلاة عليك في النزهة فما أجمل أن تؤديَ عبودية الأذان، أو تأمرَ أولادَك أن يؤدوها فيشهدَ لهم كل من يسمعهم، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ المُؤَذِّنِ، جِنٌّ وَلاَ إِنْسٌ وَلاَ شَيْءٌ؛ إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ".
ومن المناسبِ أيضا في مثلِ هذه الرحلات أن تعلمَ أهلك وأولادَك معالمَ دخولِ أوقاتِ الصلاةِ، والتي في الغالب لا تظهر في المدينة، كدخول وقت الفجر بظهور البياض المعترض في الأفق، وظهور الشفق الأحمر الذي يدل على استمرارية وقت المغرب، ثم غيابِه المؤذنِ بانتهاء وقت المغرب ودخول وقت العشاء.
ومن الأحكام التي قد تبرزُ في مثل هذه الرحلات: بعضُ أحكامِ الوضوءِ والغُسل، ففي شدة البرد يشق الوضوءُ أو الغسلُ على الإنسان، فإن كانت المشقةُ محتملةً ولا تضر، فليتذكر المسلمُ حديثَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "أَلا أدُلُّكُمْ علَى ما يَمْحُو اللَّهُ به الخَطايا، ويَرْفَعُ به الدَّرَجاتِ؟"، قالُوا بَلَى يا رَسولَ اللهِ، قالَ: "إسْباغُ الوُضُوءِ علَى المَكارِهِ..."، فحين تعطي كلَّ عضوٍ حقَّه في الوضوء مع مشقةِ تحملِ البردِ عليك، فإن اللهَ يجزيك بذلك محوَ الخطايا ورفعةَ الدرجات.
وأما إن كانت المشقةُ شديدةً غيرَ محتملة، وفيها ضررٌ على الإنسان بزيادةِ مرض أو تأخرِ شفاء، ولم يمكنْه تسخينُ الماءِ، فقد شرع اللهُ التيممَ عوضا عن الوضوء أو الاغتسال من الجنابة، وذلك بـ"أن يقول : بسم الله، ثم يضرب بكفيه وجهَ الأرض ضربةً واحدةً، ثم يمسحُ ظاهرَ كفِّه الأيمن براحةِ يده اليسرى، وظاهرَ كفِّه الأيسر براحة يده اليمنى، ثم يمسحُ وجهَه بيديه، ويقال بعد التيمم ما يقال بعدَ الوضوء من الأذكار"، وفي ذلك أعظم تيسير ورفع للحرج، قال -سبحانه-: (فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[المائدة: 6]، فالحمد لله على نعمته والشكر له على تيسيره.
ومن الأحكام المهم ذكرُها كذلك: ما يتعلق بقضاءِ الحاجة، فلا يجوز للإنسان أن يستقبلَ القبلةَ أو يستدبرَها لبولٍ أو غائطٍ في الصحراء، خلافا للبنيانِ الذي أجاز كثيرٌ من العلماء استقبالَ القبلة أو استدبارَها فيه، أما في الصحراء فلا يجوز مطلقاً، وهذا أمر يغفلُ عنه كثيرٌ من الناس، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إذَا أتَيْتُمُ الغَائِطَ فلا تَسْتَقْبِلُوا القِبْلَةَ، ولَا تَسْتَدْبِرُوهَا ولَكِنْ شَرِّقُوا أوْ غَرِّبُوا".
ومن الجيدِ أن يتخللَ أوقاتَ النزهةِ شيءٌ من ذكر لله، فـ"إنَّ لِلَّهِ مَلائِكَةً يَطُوفُونَ في الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أهْلَ الذِّكْرِ، فإذا وجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنادَوْا: هَلُمُّوا إلى حاجَتِكُمْ، قالَ: فَيَحُفُّونَهُمْ بأَجْنِحَتِهِمْ إلى السَّماءِ الدُّنْيا" كما قال ذلك الحبيب -صلى الله عليه وسلم-، فما أجمل أن تزينوا نزهتَكم بتلاوةِ آياتٍ من كتاب الله، أو مدارسةِ سورةٍ من القرآن، أو قراءةٍ لأحاديثِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، أو تذاكرٍ لدروس الحياة يستفيد منها الأولاد، أو غيرِ ذلك مما ينفع في الدين والدنيا، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما جلَسَ قَومٌ مَجلِسًا لم يَذكروا اللهَ فيه، ولم يُصَلُّوا على النَّبيِّ؛ إلَّا كان تِرَةً عليهم يَومَ القيامةِ"؛ أي: حسرةً عليهم، يتحسرون على فاتهم من فضل الذكر في هذا المجلس.
ومن الفرص العظيمة التي يمكن استثمارها في البرّية: التفكرُ في خلق الله، والتأملُ في عجيب صنعه، فما أجمل أن تستلقيَ على ظهرك وحدك أو مع أهلك وولدك، ثم تتأملَ في النجوم ولمعان ضوئها، وفي السماء وجمال حَبكتِها، وفي الجبالِ وعظمِ خلقها!، تعيشُ مع الليل إذا عسعس وغشيَ بهدوئه الكون، ومع الصبحِ إذا تنفسَ وبث روحه في أرجاء الحياة.
ما أروعَ أن تعيشَ هذه التجرِبة من التفكرِ والتأملِ، بعيدا عن صَخَبِ الحاضرةِ وضوضائِها!، وما أحلى أن تحلقَ بروحك بعيدا تجوبُ أرجاءَ العظمة، وتستشعرُ عظمةَ الخلاق العليم!؛ (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[آل عمران: 190، 191].
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيْهِ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
أما بعد: وإن مما يجب استحضاره -يا عبادَ الله- في رحلات النزهة، القاعدةُ النبويةُ الشريفةُ في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا ضرر ولا ضرار"، فلا يجوز للإنسان أن يعرضَ نفسه أو أهله وولده أو غيره للأخطار والأضرار، كأن يبيتَ في الأوديةِ التي تتعرض للسيولِ وقتَ الأمطار، أو يجلسَ في الطرق والممرات، أو يُنَجِّسَ أماكنَ الظلِّ التي يقصدها الناس، أو يتركَ المكانَ مليئاً بالقمامةِ والأوساخ، فكل ذلك أذىً محرم يؤثم عليه الإنسان، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ"، قالوا: وَما اللَّعَّانَانِ يا رَسُولَ اللهِ؟ قالَ: "الذي يَتَخَلَّى في طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ في ظِلِّهِمْ".
ومن وجد شيئا من الأذى في الطرقات، فإن العملَ على إزالتِه من شعبِ الإيمان، وحسنِ الخلق، وقيمِ الحضارة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "بيْنَما رَجُلٌ يَمْشِي بطَرِيقٍ وجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ علَى الطَّرِيقِ فأخَّرَهُ؛ فَشَكَرَ اللَّهُ له فَغَفَرَ له".
ونذكر الجميعَ عند خروجهم إلى النزه بأهميةِ المحافظة على الغطاءِ النباتي، وعدمِ قطع الأشجار وإشعالِ النار إلا في الأماكن المسموح فيها، وضرورةِ إطفائها قبل مغادرة المكان، كما نؤكد على الالتزامِ بالأنظمة التي أصدرتها الجهاتِ المعنية بشأن المحميات الطبيعية وعدمِ الاعتداءِ عليها.
اللهم ارزقنا من واسع فضلك، واملأ قلوبنا بنعيم طاعتك، وأبعد عن شقاء معصيتك، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم