عناصر الخطبة
1/رمضان شهر التقوى للباحثين عنها 2/الصلة الوثيقة بين المسلم والقرآن في رمضان 3/رمضان فرصة كبرى لتطهير النفساقتباس
أَلَا إن شهر رمضان لفرصة كبرى في أن يطهر المرء نفسه بالصوم في النهار حتى تتهيأ لتدبُّر آيات القرآن في الليل؛ فإن ساعات الليل أجمع على التلاوة؛ لأن الصوم في النهار تخلية، والقيام بالقرآن في الليل تحلية...
الخطبة الأولى:
الحمد لله العزيز الغفار، القوي الواحد القهار، يولج النهار في الليل، ويولج الليل في النهار، له الحمد كله، وبيده الخير كله، وإليه يُرْجَع الأمرُ كلُّه، يخلق ما يشاء ويختار، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله المختار، أرسله بالبشارة والإنذار، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وأدام لله الطاعةَ والاستغفارَ، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آل بيته وأزواجه الأطهار، وعلى أصحابه المهاجرين والأنصار، وعلى مَنْ سار على طريقهم واتبع هداهم ما تعاقب الليل والنهار، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فإن أحسن الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -جل شأنه-؛ فهي زاد المؤمن ودليل الحائر، مَنْ تَمَسَّكَ بها غَنِمَ، ومن نأى عنها غَرِمَ، هي الوقاية بين العبد وبين عذاب ربه، (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)[يُونُسَ: 62-63].
عباد الله: إن الزمان يدور كما تدور الرحى، عشيةٌ تمضي، وتأتي بكرةٌ، والناس فيه بين مُقِلّ ومُكْثِر، وكادح وراقد، وجادّ وهازل، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها، والسعيد منهم من عرَف حظَّه من مواسمه فاغتنمها، وشمَّر عن ساعد الجِدّ وما فرَّط فيها، فإن في مواسم الخيرات لَمَرْبَحًا ومغنمًا، وفي أوقات البركات والنفحات لطريقا إلى الله وسُلَّمًا، يوفَّق إليها الساعون الْمُجِدُّونَ، ويُزَاد عنها الكسولون القَعَدَة، والزمن إبَّان ذلك كله وحيد التقضي، بطيء الرجوع، مَنْ فَرَّط في لحظة منه فلن يدركها مرة أخرى؛ لأن ما مضى فات، والمؤمَّل غيب، وليس للمرء إلا ساعته التي هو فيها، فيا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر.
إن قلوب البشر يعتريها ما يعتري غيرَها من عوامل التأثير، فقد تصدأ كما يصدأ الحديد وتجفّ كما يجف الضرعُ، وتيبس كما ييبس الزرعُ؛ فهي أحوج ما تكون إلى ما يُعيد مادةَ النماء إليها، فيجلو صدَأَها ويدر جفافَها، يُنبت يبسَها، فإن النفس قد تلهو مع زحام الأيام وكدحها حتى تتراكم عليها الشواغل فتحجزها عن مقومات التصفية والتخلية فضلا عن شحذها وتحليتها.
ألا إن الشهر الذي أظلكم لهو خير مُعِين على ذلك كله، إنه (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)[الْبَقَرَةِ: 185]، إنه شهر البر والصوم والصلاة والرحمة والتراحم، شهر لِجَام الشهوات، وقَسْر النَّفْس وَأَطْرها على البِرّ أَطْرًا، وإخراجها من دائرة توهُّم الكمال الزائف الذي يشكِّل حاجزا وهميًّا آخَر يَحُول دون اغتنام الفرص، وانتشال النفس، كذلكم من كثرة الاشتغال بمباحات تزاحم الطاعات فينغمس المرء فيها حتى يثقل، ويركن إليها حتى يبرد، فيفوت من الطاعات ما يجعله أسير هواه وكسله وركونه.
ألا إن هذا الشهر المبارك شهر الاستزادة من التقوى وليس ثمة أحد يستغني عن الاستزادة من الطاعة والتفرغ لها في شهر رمضان، نَعَمْ -عباد الله- لقد شغلتنا أموالُنا وأهلونا عن صقل قلوبنا وتخليتها استعدادا لتحليتها، وإن في بعض القلوب لقسوة، فَلْتَسْتَلْهِمْ خُلُقَ الرحمةِ من رمضان، وإن في بعض الأموال لجفاء فلنلتمس لها النماءَ والذكاءَ في رمضان، وإن في بعض الألسن لسلاطةً وَحِدَّةً فلنلتمس طيِّب الكلام في رمضان، وإن في بعض الجسوم لَكَسَلًا فلتلتمس القوة والهمة في رمضان.
إنه شهر متكامل يجمع كل مقومات التقوى لمن يبحث عنها، (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[الْبَقَرَةِ: 183]، فيا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر.
إن المرء الغيور ليؤسفه أشد الأسف ما يراه في كثير من الناس في هذا الشهر المبارك من سلوك طريق تقليدية يحكمها طبع العادة والرتابة لا طبع الطاعة والعبادة، دون تأمُّل منهم بأن هذا الشهر المبارك شهر تشد النفوس فيه إلى رفع درجة القرب من دين الله، يذكرهم هذا الشهر بحق الله -تعالى- عليهم، تشم رائحة العاطفة الإيمانية في أكثر من مجلس يُجلس فيه، يحس فيه بإقبال الناس على العبادة والعمل الصالح، وقراءة القرآن، حتى إنهم لَيرفعون بذلكم درجةَ الاستعداد لتغيير ما في نفوسهم حتى يغير الله ما بهم (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)[الرَّعْدِ: 11].
نعم -عباد الله-: يشعر الكثيرون في هذا الشهر المبارك بضرورة كتاب الله لهم كضرورة الماء والهواء، لئلا يضطرب شأنُهم ويموج بعُضهم في بعض فيقلب اللهُ أُلْفَتَهم شحناءَ، واجتماعهم فُرْقَةً، وأمنهم خوفًا، وإحكامهم فوضى، في شهر رمضان المبارك ترتفع معاييرُ القوة لدى المرء المسلم بحيث يصعب اضطرابُه إن أحسن الطاعةَ فيه، وأدرك سِرًّا عظيما من أسرار هذا الشهر المبارك متمثلًا في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ" (رواه البخاري ومسلم)، ألا يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر.
إن المرء المسلم بلا قرآن في شهر رمضان كمن يريد حياة بلا ماء ولا هواء، وإن صلة بعض الصائمين بكتاب ربهم صلة رتيبة، لا تعدو كونَها تمتمات يهزون بها آيات القرآن هَزًّا، لا يدرون ما قرؤوا ولا يفهمون ما تلوا، هم أحدهم آخر السورة فيقع في علل من عابهم الله بقوله: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)[الْبَقَرَةِ: 78]، أي: لا يعلمون إلا تلاوة لا تجاوز تراقيهم، فلربما تفننوا فيه باللحن، وتشدقوا في النطق فألهاهم هذا وذاك عن سهولة القراءة وحُسْن التدبر، قال أبو عمرو الداني أحد أئمة القراءات والتفسير في القرن الرابع: "فليس التجويد بتمضيغ اللسان، ولا بتقعير الفم، ولا بتعويج الفك، ولا بترعيد الصوت، ولا بتمطيط الشد ولا بتقطيع المد، ولا بتطنين الغُنَّات، ولا بخصرمة الراءات، قراءة تَنْفِر منها الطباعُ، وَتَمُجُّهَا القلوبُ والأسماعُ، بل القراءة السهلة العذبة الحلوة اللطيفة" انتهى كلامه -رحمه الله-.
ألا إن شهر رمضان لفرصة كبرى في أن يطهر المرء نفسه بالصوم في النهار حتى تتهيأ لتدبر آيات القرآن في الليل؛ فإن ساعات الليل أجمع على التلاوة؛ لأن الصوم في النهار تخلية، والقيام بالقرآن في الليل تحلية، والله -جل وعلا- يقول: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا)[الْمُزَّمِّلِ: 6].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسُّنَّة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والذكر والحكمة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين والمسلمات، من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إن ربي كان غفورا رحيما.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه.
وبعدُ: فاتقوا الله -معاشر الصائمين-، واعلموا أن هذا الشهر الكريم يحمل في طياته معنى الجود والإنفاق والشفقة، هو شهر النفوس السخية، والأكف الندية، شهر يشرئب فيه المنكوبون إلى أيادي ذوي اليسار والجِدَة، فليكن للمرء في ذلك سهم راجح ولا يترددنَّ لحظةً واحدةً في كفكفة دموع المعوزين واليتامى والأرامل من أهل بلده ومجتمعه، ولا يَشُحَّنَّ عن سد مسغبتهم وتجفيف فاقتهم.
وحذارِ حذارِ من البخل والإقتار، فإنهما معرة مكشوفة السوأة، ناهيكم عن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد استعاذ بربه منهما، وهو مَنْ كان أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان حتى يكون كالريح المرسَلَة، وفي الصحيحين أنه -صلى الله عليه وسلم- ما سئل شيئا فقال: لا، ثم إن هذا التحضيض غير قاصر على ذوي المسكنة وحسب، بل إنه ليرتد أمانه وبشارته إلى الباذلين أنفسهم، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَثَلُ البَخِيلِ وَالمُنْفِقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ مِنْ ثُدِيِّهِمَا إِلَى تَرَاقِيهِمَا، فَأَمَّا المُنْفِقُ فَلاَ يُنْفِقُ إِلَّا سَبَغَتْ أَوْ وَفَرَتْ عَلَى جِلْدِهِ، حَتَّى تُخْفِيَ بَنَانَهُ وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ، وَأَمَّا البَخِيلُ فَلاَ يُرِيدُ أَنْ يُنْفِقَ شَيْئًا إِلَّا لَزِقَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا، فَهُوَ يُوَسِّعُهَا وَلاَ تَتَّسِعُ" (رواه البخاري ومسلم).
والمعنى -عباد الله-: أن ذا الجود والسخاء إذا هَمَّ بالصدقة انشرح لها صدره، وطابت بها نفسه، وتاقت إلى المثوبة فتوسعت في الإنفاق، ولا يضيره الحديث، بل هو يتسع معه حيثما اتسع، بيد أن البخيل القتور إذا حدَّث نفسه بالصدقة جبن عنها وضاق صدره وانقبضت يداه وأحس كأنما ينفق من عمره وفؤاده حتى يعيش في أنانية ضيقة لا يرى فيها إلا نفسه، غيرَ مكترِث بذوي الحاجة والفاقة، وإن هذا وأمثاله قد وضعوا الإصرَ والأغلالَ في أيديهم وجعلوها مغلولةً إلى أعناقهم، وقد قال الله -تعالى-: (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا)[الْإِسْرَاءِ: 100].
ألا إنه ليس شيء أشد على الشطان وأبطل لكيده وأدحر لوسواسه من صدقة طيبة، يعلن بها الباذل انتصاره على هواه وعلى الشيطان في تخويفه، وما يعد به العبادَ من الفقر، (وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا)[النِّسَاءِ: 120]، (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[الْبَقَرَةِ: 268]، فذلكم وعد الشيطان وهذا وعد الله، إن الله لا يخلف الميعاد، فيا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر.
هذا وَصَلُّوا -رحمكم الله- على خير البرية، وأزكى البشرية محمد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه وثنَّى بملائكته المسبِّحة بِقُدْسِه، وَأَيَّهَ بكم أيها المؤمنون، قال -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب : 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولك محمدٍ، صاحبِ الوجهِ الأنور، والجَبين الأزهَر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وعن التابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسنةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّيْن عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حيُّ يا قيُّوم، اللهم أصلِح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام، اللهم ووفقه وولي عهده لما فيه صلاح البلاد والعباد يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم كن لإخواننا المُستضعفين في دينهم في سائر الأوطان، يا حي يا قيوم، اللهم كن لهم ولا تكن عليهم، اللهم انصرهم على من بغى عليهم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم كن لإخواننا المرابطين في الثغور، اللهم كن لهم وانصرهم على من عاداهم يا حي يا قيوم، اللهم ما سألناك من خير فأعطنا، وما لم نسألك فابتدئنا، وما قصرت عنه آمالنا وأعمالنا من الخيرات فبلغنا.
سبحان ربِّنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم