ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة

راكان المغربي

2023-12-01 - 1445/05/17 2023-12-23 - 1445/06/10
عناصر الخطبة
1/عقوبة الغلول من الغنيمة 2/من صور التعدي على المال العام 3/وجوب التعاون مع الدولة لمكافحة الفساد 4/المال نعمة وابتلاء

اقتباس

واليوم نشهد من بعض أصحاب المناصب ومن عامة الناس تساهلا في الفساد، وتهاونا في أكل الحرام؛ فهذا يستغل نفوذه لمنفعته الشخصية، فيوظف أحبابه وأقربائه وهم لا يستحقون الوظيفة، وهذا يصرف على أهله من نفقة الدولة، وهذا يستخدم مرافق العمل من سيارات...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

أما بعد: تلاحمَ الصفان، واحتدمَ القتال، وكَكُلِّ معركة، ضحايا من هنا وضحايا من هنا، انتهت المعركةُ؛ فأما المسلمون من أصحابِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهم يتفقّدون الضحايا، يستبشرون لهم بالعاقبةِ الحسنة، وهم الذين قدموا أرواحَهم ودمائَهم لإعلاءِ كلمةِ الله، ودفاعاً عن دينِه ونصرةً لرسولِه -صلى الله عليه وسلم-.

 

يمرّون على هذا فيستبشرون ويقولون: "فلانٌ شهيدٌ"، ثم ينظرون إلى الثاني: "فلانٌ شهيدٌ"، وهكذا كلما مروا على رجلٍ استبشروا له بالشهادةِ، فما أعظمَ المنزلةَ، وما أجلَّ المكانةَ التي ختموا بها حياتَهم الدنيا.

 

وبينما هم يتفقّدون قتلاهم إذا بهم يمرّون على رجل، وبكلِّ ثقةٍ يقولون كما قالوا لسالفيه: "فلانٌ شهيدٌ"، فإذا بصوتٍ يعترضُ على هذه التسمية، وينفيها بكلِّ يقين، فيقول: "كلّا"، يا إلهي من هذا الصوت؟!.

 

يلتفتون إليه فإذا هو رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- الذي لا ينطقُ عن الهوى، يُنصِتُ إليه الصحابةُ مندهشين من هذه الكلمةِ التي تنفي عن صاحبِهم صفةَ الشهادة، فيكملُ -صلى الله عليه وسلم- الحديثَ مبيناً لهم سبب ذلك فيقول: "كَلّا؛ إنِّي رَأَيْتُهُ في النَّارِ في بُرْدَةٍ غَلَّها، أوْ عَباءَةٍ"، عباءةٌ أو بُرْدَةٍ أوبَقَتْ دينه، وأهلكت آخرتَه!.

 

ولعله حين غلّها سوّلَ له شيطانُه وألقى عليه من الشُّبهِ التي يلقيها على كثيرٍ من الناس؛ "هذا مالُ الدولةِ، والدولةُ غنيةٌ عنه"، "هذا مالُ المسلمين، وما آخذُ إلا حقِّي منه"، وغيرُ ذلك من الشبهِ الشيطانيةِ التي توبقُ الدنيا قبل الآخرة.

 

يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنِ اسْتَعْمَلْناهُ مِنكُم علَى عَمَلٍ، فَكَتَمَنا مِخْيَطًا فَما فَوْقَهُ؛ كانَ غُلُولًا يَأْتي به يَومَ القِيامَةِ"، أتدرون ما هو المخيط؟ إنه الإبرة، فالغُلُولُ كلُّ مالٍ أُخذَ من المالِ العامِ بغير حق، سَواءً كان ذلك من صاحبِ الولاية، أو كان ذلك مستفيدًا من هذه المرافقِ أو من هذه الأموالِ، لا فرقَ في ذلك بين قليلٍ وكثيرٍ؛ إنه غُلُولٌ تَغُلُّ به يدَك بين يدي الله -عز وجل-.

 

والغُلولُ -أيها المؤمنون- كبيرةٌ من كبائرٍ الذنوب عظيمة؛ (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[آل عمران: 161]، وكم من الناسِ من يستغلُّ منصبَه، أو يترقبُ الهَفَواتِ؛ ليقتطعَ من المالِ العامِّ بالباطلِ ويستأثرُه على من دونَه من المسلمين، وفي ذلك فسادٌ وأي فساد!.

 

حين أرسل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عاملاً له ليجمعَ الزكاة، استغلّ هذا العاملُ منصبَه، فكان الناسُ يعطونه العطايا فيأخذُها، فلما جاء إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال له بحسن نية: "هذا لكم -أي الزكاة- وهذا لي-أي الهدايا"، فما كان من النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- إلا أن صعدَ المنبرَ؛ ليبينَ للناسِ خطورةَ التصرّفِ في المالِ العام بغيرِ حقِّ، فحمدَ اللهَ وأثنى عليه وقال : "أمَّا بَعْدُ: فإنِّي أسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنكُم علَى العَمَلِ ممَّا ولَّانِي اللَّهُ، فَيَأْتي فيَقولُ: هذا مَالُكُمْ وهذا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي، أفلا جَلَسَ في بَيْتِ أبِيهِ وأُمِّهِ حتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ، واللَّهِ لا يَأْخُذُ أحَدٌ مِنكُم شيئًا بغيرِ حَقِّهِ؛ إلَّا لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَومَ القِيَامَةِ، فَلَأَعْرِفَنَّ أحَدًا مِنكُم لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُ بَعِيرًا له رُغَاءٌ، أوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أوْ شَاةً تَيْعَرُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إبْطِهِ، يقولُ: اللَّهُمَّ هلْ بَلَّغْتُ".

 

فمن ولِيَ ولايةً ماليةً فقد حَمَلَ على عاتقيه حِمْلًا كبيراً وأمانةً عظيمةً، وليس له أن يتصرفَ في الأموالِ التي تحت يدِه إلا بالحقِّ الذي أُذِنَ له فيه، وكم حذَّرَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- من ذلك، كما في قوله منذرا أصحابَه: "إنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ في مَالِ اللَّهِ بغيرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَومَ القِيَامَةِ"، يقول ابن حجر: "يتخوضون أي: يتصرفون في مال المسلمين بالباطل".

 

واليوم نشهد من بعض أصحاب المناصب ومن عامة الناس تساهلا في الفساد، وتهاونا في أكل الحرام؛ فهذا يستغل نفوذه لمنفعته الشخصية، فيوظف أحبابه وأقربائه وهم لا يستحقون الوظيفة، وهذا يصرف على أهله من نفقة الدولة، وهذا يستخدم مرافق العمل من سيارات وأدوات لمصالحه الشخصية، وهذا يُسخر العاملين تحته لخدمة أهله وأولاده، وهذا ينشئ الشركات الخاصة ويخصها بمناقصات الدولة، وغير ذلك مما لا يطلع عليه الناس ولكن الله يعلمه؛ (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا)[النساء: 79].

 

ويدخل في ذلك أيضا قصدُ تخريبِ المالِ العامِّ في الشوارعِ والحدائقِ والمنتزهاتِ وغيرِها، مما هو حقُّ للمسلمين جميعاً، يضمنُه من يخرِّبُه ويكون حقاً عليه في رقبتِه، حتى يتحللَ منه بطلبِ العفوِ أو إصلاحِه بمالِه.

 

ومن المصيبةِ أن يكونَ لكَ خصمٌ يومَ القيامةِ يطالبُك بحقِّه، فكيف إذا كان هذا الخصمُ هم جموعُ المسلمين ممن لهم حقٌ في هذا المال؟! وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "لَتُؤَدُّنَّ الحُقُوقَ إلى أهْلِها يَومَ القِيامَةِ، حتَّى يُقادَ لِلشّاةِ الجَلْحاءِ، مِنَ الشَّاةِ القَرْناءِ".

 

فاتقوا الله -يا عباد الله-، واحذروا كلَّ الحذرِ من المالِ الحرامِ فإن؛ "كلُّ جَسَدٍ نبتَ مِنْ سُحْتٍ فالنارُ أولَى بِهِ"، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإن من واجب المسلم في هذا الجانب الاحتسابُ على المفسدين بأمرِهم بالمعروفِ ونهيِهم عن المنكر، وإبلاغ الجهات المختصة التي تبذل الجهدَ الجهيدَ لمحاربة الفساد ورد المعتدين على الأموال بغير حق.

 

قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

أما بعد: المالُ عصبُ الحياة، ونعمةٌ وهبها اللهُ لنا، وقد أغدق الله علينا في هذه البلادِ من الأموالِ من حيث لا نحتسب، وكما أن هذه نعمةٌ ومنةٌ، فهي كذلك بلاءٌ يبتلينا اللهُ به ليلبوَنا أنشكرُ أم نكفر؟! (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)[إبراهيم: 7].

 

فالمالُ مسؤوليةٌ عظيمةٌ ستسألُ عنها عند الله يومَ القيامة، كما قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لا تَزولُ قَدَمَا عَبْدٍ يومَ القيامةِ، حتَّى يُسأَلَ عن عُمُرِه فيمَ أفناه؟ وعن عِلْمِه فيم فعَلَ فيه؟ وعن مالِه من أين اكتسَبَه؟ وفيم أنفَقَه؟ وعن جِسمِه فيمَ أبلاه؟".

 

فأعدَّ لهذه الأسئلةِ جوابا، واعلم أن الحياةَ قصيرةٌ، وأن متاعَها زائلٌ، وأن جلَّ أهلِ القصورِ هم الآنَ تحتَ القبور، وأنهم ما خرجوا من هذه الدنيا إلا بحفرةٍ صغيرةٍ لا تتجاوزُ ثلاثةَ أمتارٍ، وبما قدموه في الدنيا من العملِ الصالحِ ذخرا للآخرة، فلا يغرنك المالُ كما غرَّ من سبقَكَ، فتهلكَ مع الهالكين؛ (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ * وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ * قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)[سبأ: 35 - 39].

 

اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك، اللهم إنا نسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك، اللهم وسع لنا في أرزاقنا وبارك لنا فيها، اللهم وجنبنا المال الحرام واعصمنا منه يا رب العالمين.

 

 

المرفقات

ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة.doc

ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات