ومن الناس

ناصر بن محمد الأحمد

2014-12-18 - 1436/02/26
عناصر الخطبة
1/المقصود بالمعدن وأنواعه 2/المقياس الحقيقي للتفاضل بين الناس 3/الرد على المعترضين على تصنيف الناس 4/عناية القرآن واهتمامه بذكر معادن الناس 5/أهمية معرفة معادن الناس والحاجة إلى ذلك 6/كيفية معرفة معادن الناس وحقائقهم وميزان ذلك 7/أنواع فئات المجتمع المسلم

اقتباس

إنك لتجد الآيات الكثيرة في كتاب الله، في تصنيف الناس، وفرز معادنهم على الأساس الأول ف"سورة البقرة" مثلاً، وهي أكبر سور القرآن، بدأت بتقسيم الناس إلى ثلاث فئات: فئة تؤمن بالله، وأخرى كافرة، وثالثة جائرة مترددة مخادعة، عظيمة الخطر، أطال الكلام عنها لخطورتها، وهم المنافقون؛ فهذا...

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله ...

 

أما بعد:

 

روى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ؟ قَالَ: "أَتْقَاهُمْ لِلَّهِ" قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ: "فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ، ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ، ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ، ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ" قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ: "فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي؟ النَّاسُ مَعَادِنُ، خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا".

 

هذا الحديث من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام، ولنا وقفة مع معادن الناس "خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا".

 

المعدن: هو الشيء المستقر في الأرض، وكلنا يعلم بأن المعادن منها النفيس، ومنها الخسيس، وكذلك الناس معادن، فمن الناس من معدنه نفيس، ومن الناس من معدنه خسيس.

 

والنفاسة والخسة في معادن الناس لا علاقة له بالنسب والحسب والقبيلة والدولة، وإنما نفاسة معادن الناس وخستهم، بحسب ما معهم من التقوى والدين والإيمان والخوف من الله، والالتزام بأحكام الإسلام، وبما اتصفوا به من محاسن الأخلاق، وكرائم الفضائل من العفة والحلم والمروءة، وغيرها من الصفات الحميدة، فمن بطئ به عمله لم يسرع به نسبه، وإن أكرمكم عند الله أتقاكم.

 

فالقضية ليست لأنك من البلد الفلاني، أو أنك تنسب إلى القبيلة الفلانية، وإنما القضية ما مدى قربك وبعدك عن أوامر الله.

 

روى البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد قال: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟" قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْتَمَعَ، قَالَ: ثُمَّ سَكَتَ فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: "مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟" قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لَا يُنْكَحَ ،وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لَا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لَا يُسْتَمَعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا".

 

أيها المسلمون: قد يعترض شخص، ويقول: لماذا تصنفون الناس، ونحن نعلم بأن تصنيف الناس أمر مذموم؟

 

فيقال: على حسب التصنيف فإن كان على أساس البعد والقرب من أحكام الله ورسوله، فنعم التصنيف حينئذٍ.

 

أما إن كان على اعتبار النعرات الجاهلية القبلية، فبئس التصنيف عندئذ.

 

إنك لتجد الآيات الكثيرة في كتاب الله، في تصنيف الناس، وفرز معادنهم على الأساس الأول فسورة البقرة مثلاً، وهي أكبر سور القرآن، بدأت بتقسيم الناس إلى ثلاث فئات: فئة تؤمن بالله، وأخرى كافرة، وثالثة جائرة مترددة مخادعة، عظيمة الخطر، أطال الكلام عنها لخطورتها، وهم المنافقون. فهذا تصنيف وتقسيم للناس وفرز لمعادنهم، فقال سبحانه: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ* يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ* فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ* وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ* أَلَا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ* وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ*  وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ* اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)[البقرة: 8 - 15].

 

بل وأنت تمضي في تلاوة آيات السورة نفسها، تجد معادن الناس: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ)[البقرة: 165].

 

ومن الناس قوله تعالى: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ * وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ)[البقرة: 204 - 205].

 

ومن الناس قوله تعالى: (فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ* وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ* أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ)[البقرة: 200 - 202].

 

وهكذا ...

 

بل لو تأملت في سورة براءة تجد أيضاً تقسيم الناس على هذا الأساس، وتجد معادنهم؛ فمنهم: (مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي)[التوبة: 9].

 

ومنهم: (مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ)[التوبة: 58].

 

(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ)[التوبة: 61].

 

(وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ)[التوبة: 75].

 

(وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ)[التوبة: 98].

 

(مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ)[التوبة: 101].

 

وكل هذا ذكر لمعادن الناس بحسب قربُهم، وبعدُهم عن دين الله -جل وتعالى-.

 

بل هناك آيات كثيرة في كتاب الله -تعالى- تذكر معادن الناس، وتبين خواصّهم، وتفرز نوعياتهم، فمن الناس: (... مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ* ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)[الحج: 8 - 10].

 

(وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ* يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ * يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ)[الحج: 11 - 13].

 

(وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ)[العنكبوت: 10].

 

(وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)[لقمان: 5 - 6].

 

(وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ * وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)[لقمان: 20 - 22].

 

إلى غير ذلك من الآيات.

 

أيها المسلمون: بل إن الله -سبحانه وتعالى- زاد الأمر أكثر إيضاحاً في بعض النوعيات من المعادن؛ فذكر أن من الناس من معدنه معدن الكلب، فقال سبحانه: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ* سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ)[الأعراف: 176 - 177].

 

ومن الناس من معدنه معدن الحمار، قال الله -تعالى-: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)[الجمعة: 5].

 

أيها المسلمون: إن معرفة معادن الناس، أمر مهم، وليس هو من فضول المعرفة، بل إنه يتعين على الدعاة خاصة والمصلحين والمربين، معرفة هذه المعادن، وإلا فكيف يريدون أن يتعاملوا مع أناس يجهلونهم؟ وكيف تريد أن تربي، وأن تصلح، وأن تنتقل من مرحلة لأخرى، مع أناس تجهل معادنهم؟ فمعرفة أحوال الناس وأصناف الرجال وطبائعهم وأخلاقهم، من المعادن المطلوبة شرعاً لو كان القصد منها الإصلاح والدعوة، وما كتب الرجال وتراجمهم، ومصنفات الجرح والتعديل، إلا كلام في معادن الناس، وقد اهتم السلف بهذا الجانب من أجل حفظ الشريعة والتوثق من نقل الأخبار والآثار، وبذلك ميزوا لنا صحيحها من سقيمها.

 

عباد الله: إن هناك آثار تظهر على الجوارح والأبدان، يمكن من خلالها معرفة معادن الناس، ومراتب الرجال، وهذا على الأغلب.

 

صحيح أن النوايا لها دور بارز في هذا، لكن النوايا علمها عند المطلع على النوايا.

 

أما نحن، فليس لنا إلا الظاهر، فنقول: بأن من غلب عليه آثار الخوف، كالبكاء مثلاً إذا سمع آيات القرآن، ونصوص الوعيد، فهو من الخائفين، بمعنى أن هذه العلامة، أو هذا الأثر الظاهر على جوارحه، وهو البكاء عند سماع الوعيد يدل في الغالب على أنه من الخائفين، وإن كان تصنّع هذه الحالة، يمكن أن يحسنها البعض في بعض المواقف.

 

ومن غلب عليه السرور والاستشعار والفرح عند سماعه لنصوص الوعد، فاعلم أنه من الراجين.

 

ومن غلب عليه بغض الصحابة وشتم أبي بكر وعمر والطعن في أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، فاعلم أن معدن هذا الرجل معدن خسيس باطن مناوئ لأهل السنة، بل من المعادين لهم.

 

ومن غلب عليه محبة العلم والعلماء، وغلب عليه الحرص على كتب العلم والقراءة والاطلاع، وحضور الدروس والمحاضرات، واستغلال الأوقات في هذا المجال، فاعلم أنه طالب علم.

 

ومن غلب عليه انتقاص العلماء، وعيب الدعاة، والطعن في أعراض المؤمنين، وذم الصالحين، وتتبع عوراتهم، حتى أنه لم يسلم منه حتى الميتين، فاعلم أنه منافق، محارب للدعوة مبغض لحزب المؤمنين.

 

ومن غلب عليه العمل بالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتزم بما يدعو إليه، وتكلّف تبِعة دعوته، فاعلم أنه من الدعاة المخلصين العاملين، الذين يهمهم قضايا المسلمين يفرحون لفرحهم، ويحزنون لحزنهم، وهؤلاء -بإذن الله تعالى- هم الذين يحيون سيرة السلف الصالح أمثال سعيد بن المسيب وأحمد بن حنبل والعز بن عبد السلام وعبد الله بن المبارك وشيخ الإسلام ابن تيمية، وغيرهم.

 

وهؤلاء هم الذين سيعيدون -بإذن الله- للأمة مكانتها، ولا يصلح آخر هذه الأمة، إلا بما صلح به أولها.

 

إن هؤلاء هم الذين ثبتوا على المنهج، فكانوا كما وصفهم الله -تعالى- بقوله: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الحشر: 10].

 

إن أمثال هؤلاء ينبغي أن تمد لهم الأيدي؛ لأنهم أمل الأمة بعد الله، وهم نجدتها، وإن كانوا في هذه الفترة أعز من الكبريت الأحمر.

 

أيها المسلمون: نخلص من هذا بأن هناك بعض الآثار، وهناك بعض المظاهر إذا ظهرت على الشخص، فإنه في الغالب يدل على معدنه.

 

وما ذكرته أمثلة، وإلا فأصناف المعادن أكثر من هذا، ففتش في نفسك -يا عبد الله- أي الآثار التي ذكرت يغلب عليك؟.

 

ثم إن معرفة هذه الآثار مهمة، والتنبيه عليها وإعطاء بعض الأمثلة مهم من جهة الأفراد أنفسهم؛ لأن الشخص قد يظن أنه على الجادة، وهو في الحقيقة منحرف عنها.

 

فكم من عاصٍ يظن أنه مطيع؟ وكم من بعيد يظن أنه قريب؟ وكم من مخالف يعتقد أنه موافق؟ وكم من منتهك يعتقد أنه متمسك؟ وكم من مُدبِر يعتقد أنه مقبل؟ وكم من هارب يعتقد أنه طالب؟ وكم من جاهل يعتقد أنه عالم؟ وكم من آمن يعتقد أنه خائف، بل كم من مراءٍ يعتقد أنه مخلص؟ وكم من ضال يعتقد أنه مهتد؟ وكم من أعمى يعتقد أنه مبصر؟.

 

والشرع -أيها الأحبة- هو الميزان، يوزن به معادن الرجال، وبه يتبين النفيس من الخسيس، فمن رجح في ميزان الشرع كان من أولياء الله، وتتفاوت مراتب الرجحان.

 

ومن نقص في ميزان الشرع، فأولئك هم أهل الخسران، وتتفاوت أيضاً دركات خفتهم في الميزان.

 

فنسأل الله -جل وتعالى- بأسمائه أن يهدينا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا هو، وأن يصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا هو.

 

نفعني الله وإياكم ...

 

أقول ما قلت، فإن كان صواباً فمن الله وحده وإن كان غير ذلك فمن نفسي والشيطان والله ورسوله منه بريئان، وأستغفر الله إنه كان غفاراً.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله ...

 

أما بعد:

 

إن معادن الناس التي تتكون منها مجتمعات المسلمين اليوم خاصة، هي ثلاث فئات من الناس: ولا يمكن أن يخرج فرد من الأفراد عنها بحال، وهذه الفئات، هي:

 

1- الفئة المصلحة الداعية إلى الخير.

 

2- الفئة المفسدة الداعية إلى الشر.

 

3- فئة الأتباع والمقلدة.

 

ولا يمكن لأي فرد منا إلا أن يكون واقف تحت مظلة من هذه المظلات الثلاث.

 

أما الصنف الأول من الناس؛ فهم الفئة المصلحة الداعية للخير، فهؤلاء هم أشراف المجتمع وأحسنهم قولاً وأثراً على الناس، وأنبلهم غاية وأسماهم هدفاً، وهؤلاء هم الذين عناهم الله -عز وجل- بقوله: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ)[فصلت: 33].

 

وهم الذين عناهم الله في قوله: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ)[التوبة: 112].

 

وهم الذين عناهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله -تبارك وتعالى-".

 

هذا المعدن هو أشرف المعادن بحق، كيف لا وهم يحملون أعظم رسالة، وأنبل غاية ألا وهي تعبيد الناس لرب العالمين، وإخراجهم بإذن الله من ظلمات مخططات الشهوانيين وشبهات العلمانيين إلى نور الهداية والدين، كيف لا يكون معدن هؤلاء أنفس معدن وهم الذين يضحون بأوقاتهم وأموالهم وراحاتهم في سبيل إنقاذ الناس من عذاب الله -تعالى- في الدنيا، وعذابه الأليم في الآخرة؟.

 

لا شك أن هذا الصنف من أنفس المعادن.

 

الصنف الثاني من الناس: الفئة المفسدة الداعية إلى الشر، والصادة عن الخير وهؤلاء هم سفلة المجتمع، وهم أراذل الناس، وهم أخس المعادن؛ لأنهم خانوا ربهم وخانوا أمتهم، وظلموها وعرضوا الناس للشقاء والنكد في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة ، وهؤلاء هم الذين عناهم الله - عز وجل - بقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ)[الأنعام: 123].

 

إن هذه الفئة هي التي تحارب الدعوة، وهي صاحبة المكر والكيد، لكنهم مساكين؛ لأن الله -تعالى- يقول في نهاية الآية: (وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ)- إن الذي يكره انتشار الخير ويبغض أهله، وينشر الفساد، ويصد عن سبيل الله، إنما هو بين أمرين لا ثالث لهما: إما أنه لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر. وما الحياة عنده إلا هذه الدنيا فهو يسعى ليجمع ويظلم ويبطش، فهذا كافر مرتد قولاً واحداً، وإما أن يكون ممن يؤمن بالله واليوم الآخر، لكن الدنيا بزخارفها ومناصبها أسكرت عقله، وغطت لبه فأصبح في قمة الغفلة، حتى استمرأ الفساد وصارت الدنيا أكبر همه، يلهث وراءها، ويجمع حطامها ولو كان عن طريق الفساد والإفساد، فهذا يؤمن بالآخرة لكن لا عقل له.

 

كما أن الأول لا إيمان له وقد يخسر إيمانه في النهاية، وما علم هؤلاء بأن العاقبة للمتقين، وبأن المستقبل للإسلام: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)[الشعراء: 227].

 

الصنف الثالث من الناس: فئة الأتباع، وعامة الناس، وهم الذين لم يصلوا في أخلاقهم وأهدافهم إلى مستوى الفئة الشريفة المصلحة، ولم يهبطوا إلى مستوى الفئة المفسدة الوضيعة، إنما هي بين الفئتين، ولديها الاستعداد للخير الذي تدعوا إليه الأولى، كما أن لديها الاستعداد لتلقي الشر والفساد الذي تسعى لنشره الفئة الثانية.

 

وهذا يؤكد عليكم يا أهل الخير، ويا شباب الدعوة، ويا بغاة الإصلاح، يؤكد: أهمية الدعوة إلى الله، وقطع الطريق على الفئة المفسدة حتى لا ينحرف الناس عن الجادة.

 

والملاحظ أن هذه الفئة هي السواد الأعظم من المسلمين، ولهذا يقوم التدافع بين عناصر المعدن الأول وعناصر المعدن الثاني على الفئة الثالثة، وهو ما يسمى بالصراع بين الحق والباطل، قال الله -تعالى-: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)[البقرة: 251].

 

فينبغي على الفئة الأولى: أن تجتهد في الخير، وأن تسعى في نشره بكل وسيلة، وأن تأتي بالجديد المرغّب لكسب أكبر عدد من الفئة الثالثة؛ لتندحر المعادن الخسيسة، وتدخل في جحورها، وهي خاسئة مندحرة بإذن الله -عز وجل-: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)[يوسف: 21].

 

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة ...

 

اللهم أعز جندك وأولياءك وعبادك الصالحين.

 

اللهم إنا نسألك رحمة تهدي بها قلوبنا ...

 

 

 

المرفقات

الناس1

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات