ومضات من أحداث عام 1422هـ

ناصر بن محمد الأحمد

2015-01-10 - 1436/03/19
عناصر الخطبة
1/مرور عام هجري بمسراته وأحزانه 2/تباين الناس في التعامل مع المصائب وتميز المسلمين في ذلك 3/الحروب الصليبيةعلى المسلمين قديما وحديثا 4/بعض جرائم النصارى في مسلمي الأندلس5/عداوة أهل الكتاب للمسلمين 6/فاجعة رحيل الشيخ/حمود بن عبد الله العقلاء الشعيبي 7/حدث اختراع صواريخ قسام1 والإشادة بذلك 8/فاجعة أسر بعض المسلمين من قبل الكفار وبعض واجبات المسلمين نحوهم

اقتباس

مضت الأيام تلو الأيام، ونحن نعد ساعاتِها ولحظاتِها لنقف على نهاية عام هجري مليء بالأحداث والحوادث، مسرات وأحزان، محن ومنح، وفيه أضحك ربك وأبكى، وأمات وأحيا، وعليه النشأة الأخرى، توفرت فيه الصحة لأقوام، وأقعد المرض بآخرين، وفيه من شارف على الهلاك، ثم متعه الله إلى حين، وفيه...

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله...

 

أما بعد:

 

ومضت الأيام تلو الأيام، ونحن نعد ساعاتِها ولحظاتِها لنقف على نهاية عام هجري مليء بالأحداث والحوادث، مسرات وأحزان، محن ومنح، وفيه أضحك ربك وأبكى، وأمات وأحيا، وعليه النشأة الأخرى.

 

توفرت فيه الصحة لأقوام، وأقعد المرض بآخرين، وفيه من شارف على الهلاك، ثم متعه الله إلى حين، وفيه من فاجأته المنية واخترمه ريب المنون، وفيه قدّر ربك الغنى لقوم، وأقنى آخرين.

 

فسبحان مغيّر الأحوال، ومقدّر الأقدار، ومحدد الآجال، لا إله إلا هو.

 

كما اشتمل العام على قتل فئام من الناس، وتشريد آخرين، وإيذاء طوائف من المسلمين لا ذنب لهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ)[البروج: 10].

 

كما قامت دول وسقطت أخرى، ولله الأمر من قبل ومن بعد: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ)[آل عمران: 26 - 27].

 

حقاً لقد كان عاماً مليئاً بالأحداث، تستحق أن نقف عند نهايتها ولو للحظات.

 

أيها المسلمون: إن المصائب والمحن في هذه الحياة الدنيا ليست قصراً على جيل دون آخر، وليست خاصة بأمة دون أخرى، بل هي عامة في الأولين والآخرين من بني الإنسان، وتشمل الصالحين والصالحات، قال الله -تعالى-: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ)[البلد: 4].

 

وقال تعالى: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)[الأنبياء: 35].

 

ولكن الذي يختلف فيه الناس أسلوب التعامل مع مصائب الدنيا ونكدها، فإذا امتاز المؤمنون بالصبر والمصابرة والرضى والتسليم بأقدار الله الجارية، مع بذل الجهد في تحصيل الخير، وتحقيق العدل، ودفع المكروه والشر، ورفع الظلم في الأرض، فإن سواهم يضيق به الصدر، وتنقطع أوصاله بالحزن والقلق، ويصاب بالضيق والإحباط، وربما أودى بحياته تخلصاً مما هو فيه، فانتقل إلى نكد مؤبد وإلى عذاب دائم: (وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ)[النــور: 40].

 

أيها المسلمون: لنستعرض سريعاً بعض الأحداث الكبيرة التي حصلت خلال العام المنصرم ابتلاءً من الله -جل وتعالى-، واختباراً لهذه الأمة، كما قال سبحانه: (أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ)[التوبة: 126].

 

إن الأحداث المهمة خلال العام المنصرم كثيرة، ولا يمكن في مثل هذه العجالة استعراضها ولا أن نشير إلى أغلبها، لكن لعل الإشارة تكون إلى أهمها:

 

فمن الأحداث الكبيرة التي حصلت خلال عام 1422هـ: الحرب الصليبية العلنية على ديار الإسلام، وذلك بعد أن فرغ النصارى من أمر أكثر الدول والأنظمة في العالم العربي والإسلامي، تقريباً أقبلوا الآن على الشعوب المسلمة ذاتِها ليناصبوا كل من بقي على الوفاء للدين العداء، والأصولية، أو الإرهاب التي نصبوها عدواً بديلاً بعد سقوط الشيوعية، ما هي إلاّ تعبير عن رغبة قطاعات عريضة من الشعوب الإسلامية في العودة لأصول الدين.

 

هذه الأصولية بهذا المعنى هي المستهدفة بالحرب الشعواء التي بشّر الغرب بقيامها، ثم باشر البدء فيها فعلياً بالقوة العسكرية في جهات، وبالمحاصرة الاقتصادية في جهات أخرى، وبالتسلط الدولي تحت مسمى الشرعية الدولية في جهات ثالثة، ومهما حاول الصليبيون الجدد ستر أغراضهم وأحقادهم الدينية بالأقنعة السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية أو محاربة الإرهاب، فإن تلك الأقنعة تسقط، ويظهر الوجه الحقيقي للصراع، وأنها حرب صليبية، قال الله -تعالى-: (وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ)[البقرة: 217].

 

وقال تعالى: (وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء)[النساء: 89].

 

وقال تعالى: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)[البقرة: 120].

 

وقال تعالى: (إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ)[الممتحنة: 2].

 

أيها المسلمون: إن القرآن لم يحدثنا عن الأطماع الاقتصادية، أو الأهداف السياسية والعسكرية، أو الحضارية لليهود والنصارى، ولكنه ركز على الأغراض الدينية لهم، أما الأغراض الأخرى، فتأتي بالتّبع.

 

لقد كانت هتافات الجنود النصارى الزاحفين على بيت المقدس أيام الحروب الصليبية الأولى أمر الله أمر الله إنها إرادة الله، وباسم هذا الإله المُدّعى ذَبَح النصارى المسلمون العزّلوقت دخولهم القدس في الحملة الصليبية الأولى، حتى بلغ عدد القتلى من المسلمين في ساحات الأقصى وطرقات المدينة نحو سبعين ألفاً.

 

لقد رصد التاريخ الإسلامي هذا الحدث بكثير من التفصيل والدقة، سردها الإمام ابن الأثير -رحمه الله- في كتابه: "الكامل ج1 ص194" وذكر أن المذبحة استمرت طوال يوم الدخول وليلته، واقتحم النصارى المسجد الأقصى في صباح اليوم التالي، وأجهزوا على من احتموا فيه، وصبغت ساحات المسجد بدماء العباد والزهاد، الركع السجود، وتوجه قائد الحملة في الضحى لدخول ساحة المسجد متلمساً طريقه بين الجثث والدماء التي بلغت ركبته، وكان النظر لا يقع إلا على أكوام من الرؤوس والأيدي والأقدام المقطعة في الطرقات والساحات، ونهب النصارى جميع الأمتعة، وخربوا أثاث المسجد الأقصى، وقبة الصخرة، ونهبوا القناديل التي بلغت نيفاً وأربعين قنديلاً، كل قنديل وزنه ثلاثة آلاف وستمائة درهم، وأخذوا نيفاً وعشرين قنديلاً من ذهب، وأبادوا أهل أنطاكية، وخربوا حمص وبعلبك وحماة وعسقلان وطبرية، وغيرها من البلاد، وهجَّروا أهلها منها، وفعلوا الأفاعيل العظيمة التي استحى حكماؤهم ومؤرخوهم منها.

 

وهذا ما يسعى إليه النصارى الجدد في حربهم الصليبية الحالية التي أعلنوا عنها.

 

أيها المسلمون: إن هذا، بل وأكثر ليس بغريب أن يفعله النصارى لو تمكنوا من رقابنا، بل لماذا نذهب بعيداً؟

 

ففي خلال الأعوام القريبة الماضية كم قتل من مسلمي البوسنة وطاجاكستان وألبانيا والشيشان، بل كم قتل من شعب الصومال والسودان والعراق على أيدي النصارى الصليبيين، وإلى الآن لم يرتووا، ولو حصل لهم فرصة أخرى لأحرقوا الأخضر واليابس.

 

إن النصارى الجدد يريدون أن يستمروا في إراقة الدماء، ولو كانت هذه الدماء دماء شيوخ ونساء وأطفال، المهم أنهم مسلمون، وقد يخترعون مسرحية أو شماعة يعلقون عليها أهدافهم، إنها حرب صليبية كما صرّحوا هم بذلك.

 

أيها المسلمون: إن الإسلام هو دين الله -عز وجل-، فلا خوف على الإسلام من الحرب الصليبية الجديدة، إنما الخوف على موقفي أنا وأنت من هذه الحرب التي قد دُقت طبولها، ماذا قدمنا وماذا سنقدم؟ وما هو الدور الذي يجب أن يقفه كل مسلم؟ أما الإسلام، فهو كتلك الحبة التي تبقى في باطن الأرض عشرات السنين؟

 

فإذا نزل المطر نبتت من جديد، وهذا الأمر واقع في الدنيا كلها.

 

فلقد عمل أعداء الإسلام للقضاء على دين الله بكل الوسائل، أباحوا المحرمات، حاربوا التعليم الإسلامي همشوا لغة القرآن، ألغوا تطبيق الأحكام الشرعية، شجعوا كل أنواع الملاهي المفسدة للشباب، جعلوا من وسائل الإعلام وفي مقدمتها التلفزة معاول لهدم الأخلاق، نشروا الصحف والكتب التي تشكك حتى في الإيمان بالله، ومع ذلك كله هل تم القضاء على الإسلام؟

 

لقد انتشر الإسلام على يد الأتراك العثمانيين في مقدونيا وألبانيا وكوسوفا والسنجق والبوسنة والهرسك، وأصبحت المآذن في كل هذه الأرجاء تردد صباح مساء نداء: الله أكبر.

 

ومنذ عام 1912م والمخططات تعمل للقضاء على الإسلام في تلك الأنحاء، فالحكم الشيوعي حارب الإسلام حرباً لا هوادة فيها، حتى وصل الأمر في ألبانيا إلى منع الأسماء الإسلامية وفي مقدمتها اسم: محمد، ونشأت أجيال تحت الحكم الإلحادي الكافر القاضي بقهره وسفكه لدم كل من يظهر شيئاً من الإسلام، حتى ظن أعداء الإسلام أنهم قد قضوا تماماً على أي وجود إسلامي، لكنهم فوجئوا كما فوجئ الغرب بنور الإسلام يشع في تلك الأرجاء بمجرد انحسار الحكم الشيوعي، فما أن سقطت الأنظمة الشيوعية حتى ارتفعت المآذن وامتلأت المساجد، وظهر الشباب الحافظ لكتاب الله والمتقن للغةالعربية، وتيقن أعداء الإسلام أن نور الله لا ينطفئ أبداً، كيف ينطفئ، وقد قال الله -عز وجل-: (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)[التوبة: 32]؟

 

أيها المسلمون: وأما في الأندلس فقد ارتكب النصارى جرائم وحشية في حق مسلمي الأندلس، أجبروهم على التنصر، وحوّلوا مساجدهم إلى كنائس، وأتلفوا كتبهم ومصاحفهم، واعتبروا أطفالهم نصارى فعمّدوهم بالقوة، ومحوا شعائرهم وشعاراتهم، ومنعوا تقاليدهم وعاداتهم، ونكثوا العهود والمواثيق، فقتلوا وعذبوا، ونكَّلوا وشرَّدوا.

 

وفي القرن المنصرم، فعل الاستعمار الصليبي في بلاد المسلمين من قتل وتشريد وفساد، وإفساد وتخريب ودمار، ونهب للأموال والممتلكات، ما تقشعر له الأبدان، وحرم المسلمين من أدنى الحقوق التي لا تحرم منها الدواب والبهائم، وليست مذابح البوسنة والهرسك ومجازر كوسوفا عنّا ببعيد.

 

وها هم اليوم يتغنون كذباً وزوراً بالأمن والسلام، والوحدة والوئام، فهذا مجلس الأمن، وذاك مبعوث السلام، وهذه خطة أمن، فبالله عليكم متى علمتم الوحوش الضارية استأنست، ثم هل تلد الوحوش غير الوحوش؟

 

والأعجب أن المسلمون لا يعتبرون من التاريخ، وما يزال البعض يثق بالنصارى ويصدق بأنهم عادلون منصفون يرعون حقوق الإنسان، وصدق الله العظيم: (وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ)[البقرة: 217].

 

أيها المسلمون: إن عداوة أهل الكتاب للمسلمين قضية مقررة محسومة، وعقيدة راسخة معلومة بيّنها الله في القرآن الكريم، وشهد بها التاريخ، والواقع الأليم، فمن لم يقنع ببينة القرآن، ولم يكفه شاهد العيان، فلا حيلة إليه، حقاً إن الحرب الصليبية الجديدة كانت من أهم الأحداث الكبيرة في العام المنصرم.

 

أيها المسلمون: ومن الأحداث الكبيرة أيضاً: أن الأمة فقدت رجلاً من أبرز علمائها الربانيين ومجاهديها المخلصين، وهو سماحة الإمام العلامة الشيخ/حمود بن عبد الله العقلاء الشعيبي -رحمه الله تعالى رحمة واسعة-.

 

توفي هذا العالم في وقت كانت الأمة أحوج ما تكون لمثله، كانرحمه اللهالعالم البصير بأحوال أمته، وما يُحاك ضدها، البصير بأحوال المجرمين ومذاهبهم، وحيل المنافقين وخططهم.

 

الشيخ أبو عبد الله صاحب المواقف المشرِّفة النبيلة، والفتاوى السديدة، والردود الرصينة، في زمن سكت فيه الكثيرون ممن يفترض في مثلهم أن يتكلموا ويبينوا، فتكلمرحمه اللهووضح وبين وأفتى، وما ضرّه شيء ثم لقي ربه.

 

توفيرحمه اللهوالأمة عنه راضية، وشهداء الله في الأرض عنه راضون، وهذا من مبشرات الخير الدالة على حسن الخاتمة -إن شاء الله-.

 

رحل الشيخ الحبيب إلى رحمة ربه وجواره -إن شاء الله- بعد منتصف ليلة السبت في الخامس من ذي القعدة لسنة 1422هـ، داعين له الله -تعالى- أن يتغمده برحمته وعفوه، وأن يتجاوز عن سيئاته، وأن يُسكنه فسيح جناته، وأن يُبارك له في حسناته، وأن يجعل قبره روضة من رياض الجنة، وأن يبلغه منازل الشهداء والمجاهدين المخلصين في الفردوس الأعلى، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.

 

يَا نَائِبَاتِ الدَّهْرِ مَالَكِ سُودُ *** فِي كُلِّ يَومٍ عَالِمٌ مَفْقودُ

مَا إِنْ أَفَقْتُ مِنَ الرَّزِيَّةِ قَبْلَهُ *** حَتَّى دَهَانِي النَّعْيُ: مَاتَ حُمُودُ

خَبَرٌ يَعِزُّ عَلَى المَسَامِعِ حَرْفُهُ *** تُنْعَى بِهِ الأَسْفَارُ وَالتَّجْويدُ

يا دَمْعُ مَالَكَ فِي المَحَاجِرِ جَامِدٌ *** يَا دَمْعُ! كُلُّ تَصَبُّرٍ مَرْدُود

رَحَلَ الشعِيبِيْ فَالمَحَاسِنُ بَعْدَه *** رَحَلَتْ وَأَعْقَبَ حُسْنَهَا التَّنْكِيدُ

لُفَّتْ شُمُوسُ الفَضْلِ فِي أَكْفَانِهِ *** وَبَكَى التُّقَى وَبَكى عَلَيهِ الجُودُ

وَعَلَتْ بَواكِي المَجْدِ فِي طُرُقَاتِهِ *** وَاليَومَ يَومٌ كَاسِفٌ مَكْدُودُ

يَا أُمَّةً فِي شَخْصِهِ شَاهَدْتُهَا *** حُمِلَتْ عَلَى الأَعْنَاقِ وَهْيَ تَجُودُ

يَا مَنْ رَأَى الأَبْطَالَ كَيْفَ نُبُوغُهَا *** يَا مَنْ رَأَى العُلَمَاءَ كَيْفَ تَسُودُ

هَذِي جنَازَةُ شَيْخِنَا فِي حَشْدِه *** نَبَأٌ بِأَنَّ كَرَامَتِي سَتَعُودُ

بَيْنَ الصَّدُوقِ وَبَيْنَ كُلِّ مُدَاهِنٍ *** يَوْمُ الجَنَائِزِ شَاهدٌ مَشْهُودُ

عِزٌّ يَرَى الجَوْزَاءَ مِنْ شُرُفَاتِهِ *** شَرَفٌ لَعَمْرِي مَا عَلَيهِ مَزِيدُ

لَو كَانَ يَرْجِعُ بِالفُؤَادِ فَدَيْتُهُ *** يَا لَيْتَ شِعْرِي لَو فَعَلْتُ يَعُودُ

المَوتُ حُكْمٌ مِنْ إلَهٍ عَادِلٍ *** مَا لأمْرِئ بَيْنَ الأَنَامِ خُلُودُ

كَمْ عَالِمٍ بَيْنَ الأَنَامِ كَمَيِّتٍ *** كَمْ مَيِّتٍ يَحْيَا بِهِ التَّوحِيدُ

لَو جَازَ لِي لَوَقَفْتُ أَسْأَلُ نَعْشَهُ *** يَا شَيْخَنَا! بِاللهِ أَيْنَ تُرِيدُ؟!

هَلْ ضَاقَتِ الدُّنْيَا لِقَولِكَ عِنْدَمَا *** صَمَتَ الجَميعُ وَبُورِكَ التَّنْدِيدُ

فَذَهَبْتَ تُسْمِعُ فِي الَحَفَائِرِ أُمَّةً *** كَانَتْ لَهَا فِي المَشْرِقَيْنِ رُعُودُ

الخَطْبُ أَعْظَمُ مِنْ قَصِيدَةِ شَاعِرٍ *** أَقْسَمْتُ أَنْتَ الصَّارِمُ المَغْمُودُ

 

أيها المسلمون: ومما يستحق الإشادة به أيضاً من ضمن أحداث عام 1422هـ صواريخ قسام1: إن الحاجة كما يقال هي أم الاختراع، لقد أثبت الأبطال على أرض فلسطين للعالم كله أنهم رجال أشاوس، وبإمكانهم أن يفعلوا الأعاجيب.

 

من كان يتوقع أن يصل العزم والتصميم والرجولة في منطقة محاصرة من كل جانب، أحكم فيها اليهود قبضتهم، إلى درجة أن رئيس الدولة لا يستطيع أن يتحرك في حدوده البحرية، فبقي لفترة طويلة وهو حبيس منزله إلى أن أفرجوا عنه بعض الإفراج، حتى الأدوية والغذاء لا يمكن أن تدخل إلى فلسطين إلا بعد أن تفتش تفتيشاً دقيقاً، فمن المستغرب جداً أن يحصل هؤلاء على أسلحة بسيطة يقاتلوا بها عدوهم؛ لأن كثيراً من الضروريات الأساسية لا يحصلون عليها، ولعلكم سمعتم ما تناقلته الإذاعات العالمية قبل يومين من أن الإجرام اليهودي والصلف الإسرائيلي، والوحشية المتناهية وصلت إلى حد أنهم قطعوا التيار الكهربائي عن مستشفيين في فلسطين من أجل أن يموت المرضى، وفي مثل هذه المحاصرة الكاملة، فإذا بالأخبار بأن اليهود اكتشفوا مصانع للأسلحة في فلسطين، وهذا مما حيّر العالم، فكيف وإذا بالعالم يسمع عن صناعة صواريخ أطلق عليها الفلسطينيون: قسام1، ثم طوّر إلى قسام2.

 

صحيح أنها صواريخ بدائية ومداها قريب، لكن هذه النقلة من الحجر إلى صاروخ قسام1 ثم قسام2، يعتبر نقلة كبيرة تستحق الإشادة بهذا الشعب البطل.

 

إنه حدث كبير في عامنا المنصرم تفخر به أمة الإسلام، ويستحق، بل يجب أن يكتب في صفحات التاريخ، تتعلمه الأجيال الحالية والقادمة في زمن أصبح فيه مجرد الكلام جريمة وإرهاب في الأعراف الدولية الجديدة.

 

فإذا بمجاهدي فلسطين يسخروا إمكاناتهم الذاتية البسيطة لينطلق صاروخ قسام1 محدثاً ذلك الدويّ الكبير في عالم الصدق مع الله -جل وتعالى-: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)[الطلاق: 2 - 3].

 

وقال تعالى: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)[الروم: 47].

 

وقال تعالى مؤكداً هذا النصر: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)[الحـج: 40].

 

ومن نصره الله فلا غالب له، قال الله -تعالى-: (إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ)[آل عمران: 160].

 

بارك الله لي ولكم...

 

أقول ما قلت، فإن كان صواباً فمن الله وحده، وإن كان غير ذلك فمن نفسي ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وأستغفر الله إنه كان غفاراً.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه...

 

أما بعد:

 

ومن الأحداث الكبيرة أيضاً خلال عامنا المنصرم: أمر محزن لم يقع للمسلمين منذ أزمان بعيدة، ولكنها حكمة الله -جل وتعالى- يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخيرة من أمرهم، هذا الحدث هو وقوعُ عددٍ غيرَ قليلٍ من المسلمين أسرى عند الكفار.

 

فبعد أن تداعت الأمم الكافرة على المسلمين في هذا الزمان كما تتداعى الأكلة على قصعتها، كان من أعظم ما حصل أن قَتلوا أمماً لا يحصيهم إلا الله -تعالى-، وشردوا آخرين واحتلوا أراضيهم، ووقع أعداد كبيرة بعد ذلك في الأسر.

 

وهذا أمر متوقع وطبيعي أن يحصل بعد الحروب، ولا يمكن أن تُنال العزة إلا بالتضحيات، والأسر قد حصل لمن هم خير من أهل الأرض قاطبة في زماننا هذا.

 

لقد حصل لأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكن الأمر غير الطبيعي أن ينقل هؤلاء المسلمين إلى جزيرة نائية وسط المحيطات في معتقلات النازية الرهيبة، وأن يعاملوا معاملة وحشية تتنافى حتى مع مبادئ الكفار أنفسهم التي وضعوها في معاملة السجين والأسير، مما يدل على ما يحمله هؤلاء من حقد دفين على الإسلام وأهله، فغيروا كثيراً من قوانينهم وأنظمتهم بعد التداعيات الأخيرة، ضاربين بكل ما يسمى بحقوق الإنسان عرض الحائط.

 

ومن العجيب: أن بعض دول الكفر ومنظمات الكفار الحقوقية قد استنكرت معاملة هؤلاء الأسرى، وأحوالهم المعيشية، وأصدروا بيانات تدل على شجبهم لها، وإن كان الاستنكار صورياً، لكنه يعطيك شيئاً من الحقيقة.

 

أيها المسلمون: إن لهؤلاء الأسرى حقٌ علينا جميعاً، وهو أن نبذل كل ما نستطيع لتخليصهم من الأسر، قال الله -تعالى-: (وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا)[النساء: 75].

 

قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-: "قوله تعالى: (وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ) حض على الجهاد، وهو يتضمن تخليص المستضعفين من أيدي الكفرة المشركين الذين يسومونهم سوء العذاب ويفتنونهم عن الدين، فأوجب تعالى الجهاد لإعلاء كلمته، وإظهار دينه، واستنقاذ المؤمنين الضعفاء من عباده، وإن كان في ذلك تلف النفوس، وتخليص الأسارى واجب على جماعة المسلمين إما بالقتال وإما بالأموال، وذلك أوجب لكونهما دون النفوس إذ هي أهون منها" انتهى.

 

وثبت في الصحيح عن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فكوا العاني -يعني الأسير- وأطعموا الجائع، وعودوا المريض".

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فكاك الأسارى من أعظم الواجبات، وبذل المال الموقوف وغيره في ذلك من أعظم القربات".

 

ومن حقوقهم علينا أيضاً: الدعاء لهم، وهذا أمر لا يُعذر فيه أحد؛ لأنه أمر متيسر وليس بمتعذر، ثبت في الصحيح عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا رفع رأسه من الركعة الآخرة، يقول: "اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة، اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها سنين كسنين يوسف".

 

فعليك -أخي المسلم- بالدعاء لهم في خلواتك، وتحرى أوقات الإجابة؛ ففي صحيح مسلم عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك: ولك بمثل".

 

اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

 

نسألك اللهم بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تلطف بإخواننا الأسرى، وتعجل خلاصهم، وتقر أعين أهلهم بفكاكهم، اللهم اجعل المكان الذي هم فيه عليهم رياضاً من رياض الجنة، اللهم هونها عليهم، والطف بهم، وافسح لهم، واشرح صدورهم، ويسر أمورهم، وألهمهم حججهم، اللهم لا تكشف لهم سراً، اللهم احفظ عليهم أبدانهم وأعراضهم، ونجّهم كما نجيت إبراهيم من النار يا رب العالمين.

 

اللهم العن اليهود والنصارى ومن شايعهم، اللهم أنزل عذابك ورجزك على اليهود والنصارى يا رب العالمين، اللهم إن اليهود والنصارى قد بغوا وتعدوا وقتلوا إخواننا، فنسألك اللهم باسمك الأعظم الذي إذا دعيت به أجبت، وإذا سئلت به أعطيت، أن تحصهم عددا، وأن تهلكهم بددا، ولا تغادر يا ربي منهم أحداً، اللهم وسلط عليهم من لا يرحمهم.

 

اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين، اللهم واحفظ دماء المسلمين وأعراضهم في كل مكان، اللهم وارحم ضعفهم، واجبر كسرهم، ووحد صفهم، وبلغهم فيما يرضيك آمالهم، واجمع كلمتهم على الحق والهدى، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا أرحم الراحمين.

 

اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء اللهم فأشغله بنفسه، ورد كيده في نحره، واجعل اللهم تدبيرهم تدميراً عليه، اللهم احقن دماء المسلمين، واحماللهم نساءهم وأطفالهم وشيوخهم، وبلادهم وأموالهم، اللهم أقم علم الجهاد، واقمع أهل الشرك والكفر والزيغ والعناد، وانشر رحمتك على العباد، يا من له الدنيا والآخرة وإليه المآب.

 

اللهم يا ولي الصاحين، ويا ناصر عبادك المستضعفين، نسألك اللهم أن تعين وتنصر إخواننا في فلسطين وفي الشيشان وفي أفغانستان، اللهم آمن روعاتهم، واستر عوراتهم واحفظهم اللهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم.

 

كما نسألك اللهم أن تجعل عامنا القادم عام خير وبر وإحسان، عام عبادة وأجر وإيمان، وأن تعجل فيها الفرج لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، كما نسألك اللهم أن تسعملنا خلال العام القادم من أوله إلى آخره في طاعتك، ولا تستعملنا في معصيتك.

 

اللهم اجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر يا رب العالمين.

 

اللهم صلعلى محمد...

 

ربنا آتنا في الدنيا حسنة...

 

 

 

المرفقات

من أحداث عام 1422هـ

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات