عناصر الخطبة
1/ وجوب طاعة النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه 2/ تعظيم الصحابة والسلف لسُّنّة النبي -صلى الله عليه وسلم- 3/ حكم المعرضين عن اتباع السنة 4/ التحذير من رد السنة 5/ من ثمرات اتباع السنة 6/ موقف علماء السلف والخلف ممن يردون السنة وينكرونها.اقتباس
لقد عانت السُّنّة قديمًا وحديثًا من طعن الرافضة والخوارج، والمستشرقين الحاقدين، والعلمانيين المفتونين والجهال الأغرار، ممن يرد الأحاديث الصحيحة أو يطعن في بعض الصحابة، ويشكّك في صدقهم أو يستشكل حديثًا لا يوافق ثقافته الغربية، أو لا يوافق عقله المهزوم. فحسبنا الله ونعم الوكيل.. إنه لمما يُحزن أن يجد أعداء الإسلام من بين أبناء المسلمين مَن يتلقف شُبَه الأعداء ويرددونها بلا وعي ولا بصيرة، والذي لا شك فيه أن جهود العلماء ولاسيما في عصر الرواية كانت جهودًا كبيرة جدًّا في تتبُّع أحوال الرواة، وضبط السنة النبوية، وبيان صحيحها من سقيمها،...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين..
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70- 71].
أما بعد: فيا عباد الله: لقد شرح الله -عز وجل- لرسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم- صدره، ورفع له ذِكره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره؛ نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- زكّاه الله وأدناه وطهّره واصطفاه (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) [النجم: 1- 5].
رسولنا محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- هو المبيّن للقرآن الموضِّح لمقاصده وآياته، قال الله -جل ذكره-: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل:44].
وأوجب الله -سبحانه- النزول على حكم نبيه في كل اختلاف: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) [النساء:65].
وأخبر -سبحانه- أن طاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- طاعة له -سبحانه-، فقال -جل وعز-: (مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ) [النساء: 80]، وقال تعالى: (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) [النور: 54]، أي: إلى الصراط المستقيم الموصل إلى جنة الله ورضوانه. وقال -سبحانه-: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الحشر:7].
وكل هذه الأدلة وما جاء في معناها تدل على وجوب طاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- ووجوب اتباع ما جاء به، هذا الأصل العظيم أخذ به الصحابة -رضي الله عنهم- ومن بعدهم فكانوا -رضي الله عنهم- لرسولنا -صلى الله عليه وسلم- محبين وله مطيعين، ولسنته مقدمين وموقرين، لا يقدمون على قوله قول أحد كائنًا من كان.
ساروا على هذا المنهج، ثم سار عليه التابعون لهم بإحسان أخذًا بما في القرآن، وبما صح عنه -صلى الله عليه وسلم- من الوصية بذلك: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة .." (رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه).
يقول الصديق أبو بكر -رضي الله عنه-: "لست تاركًا لشيء كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعمل به إلا عملت به، وإني لأخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ".
ولقد بلغ من تعظيم الصحابة لحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- أنهم لا يرضون تركه أبداً، ولا يقبلون مع سُنته رأي أحد، بل يغضبون أشد الغضب على من لا يستجيب للسُّنة ولو كان من أقرب الناس إليهم.
ففي الصحيحين أن قريبًا لعبدالله بن مغفل -رضي الله عنه- خذف فنهاه، وقال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الخذف، وقال: "إنها لا تصيد صيدًا ولا تنكأ عدوًّا، ولكنها تكسر السن، وتفقأ العين"، قال: فعاد يخذف، فقال: "أحدّثك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عنه ثم عدت، لا أكلمك أبدًا".
الله أكبر هكذا تعظيم السُّنة، بينما من في قلوبهم مرض يجعلون نصوص الوحي ألعوبة تتقاذفها عقولهم وتتجاذبها أهواؤهم؛ ذلك لأن الصحابة ومن تبعهم بإحسان وقر الإيمان في قلوبهم، فكانوا يعظّمون الوحي من القرآن والسنة، ولا يعارضونه برأي ولا هوى؛ لأنهم يعتقدون أنه من عند الله.
قال حسان بن عطية: "كان جبريل ينزل بالسُّنّة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما ينزل عليه بالقرآن".
أيها المسلمون: تواترت الأحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في وجوب طاعته، واتباع ما جاء به، وتحريم معصيته في كل زمان ومكان؛ تأكيدًا لما في القرآن، قال -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين: "من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله".
وفي صحيح البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى"، قالوا: "ومن يأبى يا رسول الله؟" قال: "من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى".
روى الدارقطني والحاكم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إني تركت فيكم شيئين لم تضلوا بعدهما؛ كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض".
وروى الإمام أحمد والحاكم عن المقدام بن معدي كرب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه".
وروى أبو داود وابن ماجه عن أبي رافع عن أبيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ، فَيَقُولُ: مَا أَدْرِي مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ"، وسبحان الله! وقع صِدْق ما أخبر عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الأزمنة المتأخرة؛ حيث وُجد من يطعن في بعض الأحاديث الثابتة عن نبينا -صلى الله عليه وسلم- كما وُجد من يطعن في كتب السنة الصحيحة، ويشكّك في من ألَّفها، وما أولئك بالمؤمنين.
ودأبت قنوات وصحف وكُتّاب على الطعن بالسنة وأحاديثها، بل ربما تجاوز ذلك إلى الطعن في شخص النبي -صلى الله عليه وسلم-، وذلك هو الكفر الصراح فقد أجمع العلماء على أن مَن انتقص النبي -صلى الله عليه وسلم- أو عابَه في نفسه أو نسَبه أو دينه، أو استهزأ به، أو غضَّ من شأنه أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم فقد وجب قتله وثبتت ردته؛ ذكر ذلك القاضي عياض وغيره من العلماء.
وقال أبو بكر بن المنذر: "أجمع عامة أهل العلم على أن مَن سبَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- يُقتل"، وممن قال ذلك الإمام مالك بن أنس، والليث بن سعد، والإمام أحمد، وإسحاق، وهو مذهب الإمام الشافعي، وقال القاضي عياض: "لا نعلم خلافًا في استباحة دمه بين علماء الأمصار وسلف الأمة"، وقد ذكر غير واحد الإجماع على قتله وتكفيره" . انتهى.
وقال العلامة ابن باز -رحمه الله-: "الطعن في جناب الله أو الرسول -صلى الله عليه وسلم- كفر أكبر وردة عن الإسلام"، ثم ذكر الأدلة على ذلك.
عباد الله: الذي يعتقده أهل السنة والجماعة أن الصحابة -رضي الله عنهم- عدول ثقات، نقلوا السنة بكل أمانة وصدق، وأن الواجب على كل مسلم أن يقبل ما جاء في السنة بلا شك ولا تردد، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "لا يُعرف من الصحابة من كان يتعمد الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإن كان فيهم من له ذنوب، لكن هذا الباب مما عصمهم الله فيه".
ولقد عانت السُّنّة قديمًا وحديثًا من طعن الرافضة والخوارج، والمستشرقين الحاقدين، والعلمانيين المفتونين والجهال الأغرار، ممن يرد الأحاديث الصحيحة أو يطعن في بعض الصحابة، ويشكّك في صدقهم أو يستشكل حديثًا لا يوافق ثقافته الغربية، أو لا يوافق عقله المهزوم. فحسبنا الله ونعم الوكيل..
إنه لمما يُحزن أن يجد أعداء الإسلام من بين أبناء المسلمين مَن يتلقف شُبَه الأعداء ويرددونها بلا وعي ولا بصيرة، والذي لا شك فيه أن جهود العلماء ولاسيما في عصر الرواية كانت جهودًا كبيرة جدًّا في تتبُّع أحوال الرواة، وضبط السنة النبوية، وبيان صحيحها من سقيمها، وتوضيح أحوال نَقَلة السنة، فوثقوا من كان عدلاً ضابطًا لحديثه، وضعفوا من ليس كذلك، لا يخافون في هذا لومة لائم، ولو كان المتهم بالضعف أقرب قريب، ولهم في هذا أخبار كثيرة ومواقف عجيبة ورحلات طويلة حتى قال التابعي أبو العالية الرياحي -رحمه الله-: "كنا نسمع الرواية عن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالبصرة، فلم نرضَ حتى ركبنا إلى المدينة فسمعناها من أفواههم".
وقال التابعي العالم الجليل سعيد بن المسيب -رحمه الله-: "إن كنت لأسير الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد".
بل لقد رحل الصحابي الجليل جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما- إلى بلاد الشام شهرا كاملا من أجل حديث واحد إلى عبد الله بن أنيس -رضي الله عنه-.
وكانوا يعظّمون السنة، وينكرون على من يبدي رأيه مع وضوحها وصراحتها حتى إن رجلاً سأل ابن عمر عن استلام الحجر، فقال ابن عمر: "رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستلمه ويقبّله"، فقال الرجل: "أرأيت إن زُحمت، أرأيت إن غُلبت"، فقال ابن عمر: "اجعل (رأيت إن) في اليمن، رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يستلمه ويقبّله" (أخرجه البخاري).
وإذا وضحت السنة وصح الحديث وجب الأخذ به والانقياد إلى ما دل عليه، قال -سبحانه-: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا) [الأحزاب:36]، وقال -سبحانه-: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور:63]، قال الإمام أحمد: "من رد حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو على شفا هلكة".
وعند قوله تعالى: (لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [الحجرات: 1]، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة".
وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفيتم، وكل بدعة ضلالة".
وقال سفيان الثوري: "ينبغي للرجل ألا يحك رأسه إلا بأثر".
أيها المسلمون: الحرص على تطبيق السنة، والعمل بها، علامة صدق الإيمان، وهو سبب رئيس لفهم القرآن والعمل به، ولهذا قال أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "سيأتي أناس يجادلونكم بشبهات القرآن فجادلوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله" (أخرجه الدارمي).
ومن ثمرات تطبيق السنة: وصول العبد إلى درجة محبة الله قال -سبحانه-: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [آل عمران:31]، فمن أحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأحب سنته، وعمل بها؛ أحبه الله وغفر له، والناس يتفاوتون في هذا تفاوتًا عظيمًا، وحظ الصحابة -رضي الله عنهم- من هذه المحبة أعظم حظ.
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين".
ومن ثمرات محبة السنة والعمل بها: أن يعصم الله صاحبها من الوقوع في الأهواء والبدع، ولقد سبق حديث: "إني تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض".
وقال حسان بن عطية: "ما أحدث قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها، ثم لم يعدها إليهم إلى يوم القيامة".
اللهم أحينا على السنة، وتوفنا على السنة، واجعلنا من أهل السنة، اللهم بارك لنا في القرآن والسنة، واجعلنا بهما منتفعين ولهما معظمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدا طيبا مباركا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله وخليله وأمينه على وحيه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وعلى المتمسكين بسنته والذابين عنها إلى يوم الدين.
أما بعد: فلقد منَّ الله على أمة الإسلام برجال منها حفظوا سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- حفظوها في صدورهم، ثم كتبوها في سطورهم، بدءًا من الصحابة الكرام ومرورًا بالتابعين وتابعيهم، رحم الله الجميع، ورفع درجاتهم في الفردوس الأعلى في الجنة، وجزاهم عن أمة الإسلام خير الجزاء.
مشوا في طلب السنة على أقدامهم، ولحقتهم المتاعب والفقر وأنواع الابتلاءات، ألفوا الصحاح، وكتبوا السنن، وبيّنوا الصحيح من الضعيف، وكتبوا في علم الرجال، وحذروا من الضعفاء ممن اختلت عدالتهم أو ساء حفظهم، دافعوا عن السنة وعملوا بها وطبّقوها في جميع أحوالهم، ولهذا في هذا أخبار وأحوال تدل على قوة إيمانهم ونضارة وجوهم، وعظم يقينهم، وصفاء سرائرهم، وحبهم لنبيهم.
أملى أبو بكر عبدالله بن سليمان بن الأشعث من حفظه بالإسناد ثلاثين ألف حديث، وكتب والده أبو داود صاحب السنن خمسمائة ألف حديث بأسانيدها بيده ولهذا جاء سهل بن عبد الله التستري إلى أبي داود، فقيل: يا أبا داود هذا سهل جاءك زائرا، فرحب به فقال له سهل: أخرجْ إليَّ لسانك الذي تحدث به أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أقبّله، فأخرج إليه لسانه فقبَّله.
وأبو داود هو الذي قال عنه الأئمة محمد الصاغاني وإبراهيم الحربي: "أُلين لأبي داود الحديث كما ألين لداود عليه السلام الحديد".
وقال الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-: "ما كتبت حديثًا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا عملت به حتى مر بي أنه -صلى الله عليه وسلم- احتجم وأعطى الحجام دينارًا، قال: فاحتجمت وأعطيت الحجام دينارا".
والإمام أحمد هو الذي أفتى بستين ألف مسألة بقال الله وقال رسوله.
وأما شدتهم وغضبهم على من طعن في السنة أو عارضها برأي أو قياس، فهذا عندهم يُهجَر ولا يكلم بل يعاقب، ولقد هم الخليفة هارون الرشيد -رحمه الله- بقتل رجل من الأشراف سمع بمجلس هارون بما في الصحيحين "احتج آدم وموسى"، فقال الرجل "فأين لقيه؟" فغضب هارون الرشيد، وقال: "النطع والسيف، زنديق يطعن في الحديث" .. فما زال العلماء الحضور يُسكِّنون غضب هارون؛ فلتة لسان، ذلة ما قصد بها شيئًا، حتى سكن غضبه -رحمه الله-.
فرحم الله هارون! كيف لو سمع من يصف الأحاديث الصحيحة بأنها ضد الفطرة أو تسيء إلى الإسلام؟! كيف لو سمع من يصف نبي الأمة بمتوحش وبعض أحاديثه بالمتوحشة؟! إذًا لأقام عليه حكم الله؛ ليرتدع أمثالهم من الزنادقة.
قال أحدهم: "إذا عارض الحديث العقل فرده، وإن كان في صحيح البخاري ولا كرامة" نعوذ بالله من زيغ القلوب.
قال العلماء: "من أبغض شيئًا مما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولو عمل به كفر، ومن استهزأ بشيء من دين الرسول أو ثواب الله أو عقابه كفر، والدليل قول الله تعالى: (قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) [التوبة: 65- 66].
قال الذهبي: "إذا رأيت المتكلم والمبتدع يقول: دعنا من الكتاب والأحاديث الآحاد وهات العقل فاعلم أنه أبو جهل، لو علم هذا الطاعن في أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- مما صحت عنه أنه سوف يُردع ويؤدب لما تطاول عليها وكذّب بما صح منها"، فإلى الله المشتكى.
ونسأل الله أن يرد كيد المنافقين والطاعنين في السنة إلى نحورهم، وأن يكفي المسلمين شرهم، وأن يفضحهم ويذلهم، إن ربي لسميع الدعاء.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدنيا والآخرة.. اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم- وعبادك الصالحين..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم