وما كنا عن الخلق غافلين

الشيخ عبدالعزيز بن محمد النغيمشي

2024-09-13 - 1446/03/10 2024-09-21 - 1446/03/18
عناصر الخطبة
1/أهمية التدبر لكلام الله والتفكر في مخلوقاته 2/من مظاهر إحاطة الله بخلقه ورعايته لهم 3/من دلالات قوله -تعالى-: (وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ) 4/الآثار الإيمانية للعلم بإحاطة الله لخلقة علماً ورعاية

اقتباس

خَلَقَ العِبادَ لِحِكْمَةٍ فَما أَهْمَلَهُم؛ (وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ)[المؤمنون: 17]، بَلْ أَرْسَلَ إِليْهِم رُسُلاً، وأَنْزَلَ إِليْهِم كُتُباً، وأَقَامَ عَلِيْهِمْ حُجَجاً، وأَثْبَتَ لَهُم بَراهِيْن، ثُمَّ أَحْصَى أَعْمالَهُم وكَتَبَها، وحَفِظَها وأَثْبَتَها، وسَيَحاسِبُهُم يَومَ الحِسابِ وسَيَجْزِيْهِم عَلَيْها...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّها المُسْلِمُون: مَتَدَبِّرٌ أَحيَا الكِتَابُ فُؤَادَهُ، والوَحِيُ رُوْحٌ للفُؤَادِ إِذا عَقَل؛ (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)[ق: 37]، فِيْ آيَاتِ الكِتَابِ للمُتَدَبِّرِيْنَ ذِكْرَى، وفِيْ آيَاتِ الكِتَابِ للمُتَدَبِّرِيْنَ مُعْتَبَر؛ (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)[ص: 29]، يُشْرِقُ النُّورُ بِقَلْبٍ للْكِتابِ تَدَبّر، يَعِيْ عَنِ اللهِ خِطابَه؛ فَيُبْصِرُ سَبِيْلَ رُشْدِهِ، ويُدْرِكُ في الشُّبُهاتِ صَوابَه.

 

تَخْشَعُ القُلُوبُ لِخالِقِها وتَذِلُّ حِيْنَ تَقِفُ أَمامَ دَلائِلِ العَظَمَةِ والجَلالِ والكِبْرِياء، تُشاهِدُ رُبُوبِيَّةَ رَبِها، وتُبْصِرُ تَدْبِيْرَ خَالِقِها، وتَرَى خَضُوعَ الكَونِ لَه، فَتَعْلَمُ أَنَّ خَالقَ الوُجُودِ هُو الرَّبُّ المَعْبُود، وأَنَّ مَنْ أَحْكَمَ في الكَوْنِ خَلْقَهُ أَحْكَمَ فِيْهِ حِكْمَتَه، وأَنَّ هَذَا الخَلْقَ المُتْقَنَ المُتَناسِقَ المُتَكامِلَ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالِكٌ قادِرٌ قَاهِرٌ مُدَبِّرٌ لَما قَامَ كَانَ وجُود، ولَما بَقِيَ لَهُ ثَباتٌ وصُمُود؛ (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا)[فاطر: 41].

 

خَلَقَ الخَلْقَ فَما عَنِ الخَلْقِ غَفَلْ؛ (وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ)[المؤمنون: 17]، أَحَاطَ بِهِم عِلْماً، وأَحْصَى لَهُم عَدداً، (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا)[سبأ: 2]، عَلى العَرْشِ اسْتَوى، لا تَخْفَى عَلِيْهِ مِن العِبادِ خافِيَةٌ، عِلْمُهُ مُحِيْطٌ بِجَمِيْعِ المَخْلُوقات، وقُدْرَتُهُ قاهِرَة لِجَمِيْعِ الكَائِنات، حُكْمُهُ في العِبادِ مَاضٍ، ومَشِيئَتُهُ فيهِم نَافِذَة؛ (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[الأنعام: 59].

 

خَلَقَ الخَلْقَ فَما عَنِ الخَلْقِ غَفَلْ؛ (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)[طه: 50]، أَعْطَى كُلَّ مَخْلُوقٍ ما يَلِيْقُ بِهِ مِنْ الخَلْقِ والصُّوْرَةِ المُوافِقَةِ لِلحْكْمَةِ التِيْ لأَجْلِها خُلِق، ثُمَّ هَداهُ وأَلْهَمَهُ ودَلَّهُ إِلى أَسْبابِ البَقاءِ وسُبُلِ الحَياةِ، تَلِدُ الدَّابَةُ وَلَدَها، فَيَقُومُ مَهْدِياً إِلى ثَدْيِها، فَمَنِ الذِيْ إِلى الثَدْيِ هَداه؟! ومَنِ الذي أَعْلَمَهُ أَنْ في الضَرْعِ غِذَاه؟!.

 

خَلَقَ الخَلْقَ فَما عَنِ الخَلْقِ غَفَلْ، أَوْجَدَهُم مِنَ العَدَمِ، فَضَمِنَ لَهُم أَرْزَقَهُم، وقَسَمَ بَيْنَهُم مَعايِشَهُم، ولَوُ وُكِلَ رِزْقُ كُلِّ مَخْلُوقٍ إِليهِ لَما أَدْرَكَه؛ (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[هود: 6]، (وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ)[المؤمنون: 17].

 

خَلَقَ الخَلْقَ فَما عَنِ الخَلْقِ غَفَلْ، والإِنْسُ والجِنُّ عِبادٌ مُكَلَّفُونَ، خَلَقَهُمُ اللهُ لأَمْرِ عَظِيْمٍ، بِهِ يَرْتَقُونَ إِلى مَقاماتِ الشَّرَفِ، ويَعْتَلُونَ إِلى مَنازِلِ الكَرامَة؛ (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[الذاريات: 56]، (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) حِكْمَةٌ لأَجْلِها خُلِقُوا، فَمَنْ قَامَ بالحِكْمَةِ التي لأَجْلِها خُلِقَ؛ فَقَدْ فَاقَ وارْتَقَى وَجَلّ، ومَنْ تَنَكَّبَ عَنِ العِبادَةِ التِيْ لأَجْلِها خُلِق؛ فَقَدْ خَسِرَ وزَاغَ وضَلّ. 

 

خَلَقَ العِبادَ لِحِكْمَةٍ فَما أَهْمَلَهُم؛ (وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ)[المؤمنون: 17]، بَلْ أَرْسَلَ إِليْهِم رُسُلاً، وأَنْزَلَ إِليْهِم كُتُباً، وأَقَامَ عَلِيْهِمْ حُجَجاً، وأَثْبَتَ لَهُم بَراهِيْن، ثُمَّ أَحْصَى أَعْمالَهُم وكَتَبَها، وحَفِظَها وأَثْبَتَها، وسَيَحاسِبُهُم يَومَ الحِسابِ وسَيَجْزِيْهِم عَلَيْها؛ "فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَه"، (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ)[الانفطار: 10 - 12]، (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)[المؤمنون: 115].

 

(وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ)[المؤمنون: 17]، والعِبادُ إِلى رَبِهِم مُفْتَقِرُون، واللهُ عَنِ العِبادِ غَنِيٌّ،  كُلُّ الخَلائِقِ إِلى اللهِ مُفْتَقِرَة، فَهُوَ خَالِقُها وهُوَ بَارِيْها، وهُوَ مُمِيْتُها وهُو مُحْيِيْها، مُفْتَقِرَونَ كُلَّ الفَقْرِ إِليه، وهُوَ الغَنِيُّ كُلَّ الغِنى عَنْهم؛ (وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا)[الفرقان: 3]، لا خَالِقَ لَهُم إِلا اللهُ، ولا رَازِقَ لَهُم إِلا اللهُ، ولا مُغِيْثَ لَهُم إِلا اللهُ، ولا حَافِظَ لَهُم إِلا اللهُ، ومَالَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ، وما لَهُم مِنْ دُونِ اللهِ نَصِيْر، (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ)[الأنبياء: 42].

 

مَنْ يَكْلَؤُكُم في لَيْلِكُم ونَهارِكِم؟ مَنْ يَحْفَظُكُم في يَقَظَتِكُم ومَنَامِكُم؟ مَنْ يَحُوطُكُم في جَوِّكُم وبِحارِكُم؟ مَنْ لَكُم غَيْرَ اللهِ لَو تَعْقِلُون؟ (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا * أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا * أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا)[الإسراء: 67 - 69].

 

(وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ)[المؤمنون: 17]، تُعْرَضُ عَلِيْهِ أَعْمَالُ العِبادِ وهُوَ بِها وبِهِم عَلِيْم، وتُرْفَعُ إِليهِ وهُوَ بِها وبِهِم خَبِيْر؛ (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)[فاطر: 10]، عَنْ أَبِيْ مُوْسَى الأَشْعَرِيِّ -رَضي الله عنه- قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- بخَمْسِ كَلِماتٍ، فَقَالَ: "إنَّ اللَّهَ -عزَّ وجلَّ- لا يَنامُ، ولا يَنْبَغِي له أنْ يَنامَ، يَخْفِضُ القِسْطَ ويَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهارِ، وعَمَلُ النَّهارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ"(رواه مسلم)، (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[يونس: 61].

 

أقول هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ رَبِّ العَالمين، وأَشْهَدُ أَن لا إله إلا اللهُ ولي الصالحين، وأَشْهَدُ أَنَّ محمداً رسول رب العالمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليماً.

 

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- لعلكم ترحمون.

 

أيها المسلمون: خَلَقَ الخَلْقَ فَما عَنِ الخَلْقِ غَفَلْ، فَما للعِبادِ مِنْ دُونِ اللهِ ولِيٌّ، وما لَهُم مِنْ دُونِ اللهِ نَصِيْر، هُوَ رَبُّ العَالَمِيْن، يَحْكُمُ فِيْهِم بِحُكْمِهِ، وحُكْمُ اللهِ عَدْلٌ، وحُكْمُ اللهِ لا مُعَقِّبَ لَه؛ (وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ)[الرعد: 41]، وهُوَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَدِيْر؛ (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[يس: 82].

 

وَقَفَ العِبَادُ أَمامَ عَظَمَتِهِ صَاغِرِيِن، وأَمامَ عِزِّهِ ذَلِيْلِيْن، وأَمامَ قُدْرَتِهِ عَاجِزِيْن، وأَمامَ غِناهُ مُعْوِزِيْن، لا يَسْتَغْنُوْنَ عَنْ مَدَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ وَلا أَقَلَّ مِنْ ذَلِك، يَسْأَلُونَهُ بِلِسَانِ الحَالِ، ويَسْأَلُونَهُ بِلسَانِ المَقاَلِ، ومَا مِنْ مَخْلُوقٍ في السَّماواتِ ولا في الأَرْضِ إِلا وهُوَ لِرَبِهِ مُفْتَقِر وهُوَ لِرَبِهِ سَائِل؛ (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)[الرحمن: 29].

 

(كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)؛ يُمْضِيْ في العِبادِ أَقْدَارَهُ، ويُجْرِيْ فِيْهِم أَحكامَهُ، وهُوَ العَلِيْمُ الحَكِيْم (وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ)[المؤمنون: 17].

 

(كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)؛ يُغْنِيْ فَقِيْراً، ويُفْقِرُ غَنِيّاً، وَيَجْبُرُ كَسِيْراً، ويَشْفِيْ سَقِيْماً، ويَفُكُّ أَسِيْراً، ويَقْصِمُ ظَالِماً، ويَنْصُرُ مَظْلُوماً، وَيُعْطِيْ قَوْماً، وَيَمْنَعُ آخَرِيْنَ، وَيُمِيْتُ وَيُحْيِي، ويَخْفِضُ ويَرْفَع، ويُذِلُّ ويُعِزّ، ويَهْدِي ويُضِلّ، يَسْمَعُ دُعاءَ الدَّاعِيْن، ويجِيْبُ نِداءَ المُضْطَرِّيْن. لَا يُشْغِلُهُ شَأَنٌ عَنْ شَأَنٍ، َلا تُغْلِطُهُ المَسَائِلُ، ولا يُبْرِمُهُ إِلْـحَاحُ المُلِحِّيْنَ، ولا يَتَعاظَمُهُ شيءٌ أعْطاهُ.

 

(كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)؛ فَما تَراهُ مِنْ تَقَلُّبِ أَحْوَالِ العِبادِ المُخْتَلِفَةِ، فَهِيَ كَائِنَةٌ بِأَقْدارِ الله، وهِيَ مِنْ شأَنِ الله، قَضَاها بِعِلْمٍ وَحِكْمَة؛ (وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ)[المؤمنون: 17].

 

هَمُّكَ الذِيْ أَرَّقَك، ومَرَضُكَ الذِيْ أَسْهَرَك، ودِيْنُكَ الذِيْ أَثْقَلَك، ووَلَدُكَ الذِيْ عَقَّك، وخَصْمُكَ الذِيْ ظَلَمَك، وذَنْبُكَ الذِيْ أَوْجَعَك، وكُلُّ نَازِلَةٍ شأَنُها أَفْجَعَك، يَعْلَمُها اللهُ الذي خَلَقَك؛ (وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ)[المؤمنون: 17].

 

ما غَفَلَ رَبُّكَ أَو نَسِي، وما جَهِلَ أَمْرَكَ وما خَفِيْ؛ (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)[الملك: 14]، يَعْلَمُ حَالَكَ وقَدْ ابْتَلاكَ، فَأَقِمِ بَابِ الذُّلِ مُتَضَرِّعاً في السَّائِلِينَ، فإِنَّ رَبَّكَ كُلَّ يُومٍ هُو في شأَن.

 

عَسَى أَمْرٌ أَساَءَكَ في المَساءَ *** تَجَلَّى بِخَيْرٍ حِيْنَ أَذَّنَ لِلْفَجْرِ

عَسَى فَرَجٌ يأَتِيْ بِهِ اللهُ إِنَّهُ *** لَهُ كُلَّ يَومٍ في خَلِيْقَتِهِ شَأَنُ

 

(وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ)[المؤمنون: 17]، النِّعْمَةُ التي وهَبَك؛ أَطْعَمَكَ وَسَقَاك، وكَساكَ وكَفَاك، وأَمَّنَكَ وآواك، وعَافَاكَ ورَعاك، وأَعطاكَ وأَوْلاك، أَنْتَ فِي النِّعْمِ مُمَتَّع ومُبْتَلى، وما أَنْتَ بِالْمَغْفُولِ عَنْه، فَأَوْفِ للنِّعَمِ شُكْراً، فَما أَطْيَبَ عَيْشَ الشَّاكِرِيْن؛ (وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ)[المؤمنون: 17].

 

أَقِمْ للهِ دِيْنَك واسْتَقِم، لا تَنْقَلِبْ في الغَافِلِيْن، فلَئِنْ غَفَلْتَ فَلَسْتَ أَنْتَ بالمَغْفُوْلِ عَنْك؛ (وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)[هود: 123].

 

اللهمَّ تَوَلَّ أَمْرَنا، وأَصْلح شأَننا، وأَحسِن مُنقَلَبَنا، واجْعَلْنا لك من الشاكرين.

 

المرفقات

وما كنا عن الخلق غافلين.doc

وما كنا عن الخلق غافلين.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات