ولا تقتلوا أنفسكم

محمد بن عبدالرحمن العريفي

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ تكريم الله للإنسان 2/ حرمة الانتحار وجرمه 3/ تحريم كل ما يضر بالإنسان 4/ أسباب الانتحار ودواعيه 5/ فنون التعامل مع مصائب الحياة 6/ أهمية الصبر على البلاء 7/ وجوب الإيمان بقضاء الله وقدره 8/ واجب المسلم نحو أخيه عند المصائب والمحن

اقتباس

الانتحار من أعظم الجرائم التي بدأت تنتشر في العالم حتى ذكرت المنظمات العالمية أنه في كل أربعين ثانية، ليس أربعين دقيقة، في كل أربعين ثانية تقع حالة انتحار في هذا العالم، إن في شرق وإن في غرب، فمنهم من يطعن نفسه، ومنهم من يحتسي سُمًّا، ومنهم من يتردى من شاهق، ومنهم من يقتل نفسه بالمسدس، وقد حرم الله تعالى على عباده ذلك ..


 

 

 

 

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جَلَّ عن الشبيه والند والنظير. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، أرسله ربه رحمة للعالمين، وحجة على العباد أجمعين، فهدى الله تعالى به من الضلالة، وبصَّر به من الجهالة، وجمع به بعد الشتات، وأمَّن به بعد الخوف، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين، وأصحابه الغر الميامين، ما اتصلت عين بنظر، ووعت أذن بخبر، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون: كرم الله جل وعلا الإنسان منذ أن خلقه، فأمر الله تعالى الملائكة أن تسجد لأول إنسان، أن تسجد لأبينا آدم عليه السلام (إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) [الحجر: 28- 30]، سجدوا لآدم عليه السلام؛ تعظيمًا لأمر الله جل في علاه وإكرامًا لأمر ربنا سبحانه وتعالى ومعرفة بجلالة آدم عليه أفضل الصلاة والسلام.

وبيّن الله جل وعلا في كتابه أنواع المخلوقات، ثم بين ربنا جل وعلا أنه جعل الإنسان هو أكرمها وأحسنها، فقال الله جل وعلا: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين: 4] وقال ربنا جل في علاه (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) [الإسراء: 70].

فضّل الله تعالى بني آدم على الجن وعلى الحيوانات، وجعل الله تعالى لهم شأنًا عظيمًا كبيرًا عنده جل وعلا، لذا سخر الله تعالى كل ما في الأرض لهؤلاء الناس لبني آدم، كما قال جل وعلا: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ) [الأحزاب: 72].

فجعل الله تعالى هذا الإنسان هو الخليفة في الأرض، وسخّر الله تعالى له كل شيء في هذه الأرض، سخر له الحيوانات، وسخر له الأشجار، وسخر له الأرض، وسخر له الجمادات وجعله الله تعالى مكرمًا على هذا كله.

لذا بيّن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حرمة هذا الإنسان، وبيّن عليه الصلاة والسلام أن من إجلال الله تعالى ومن إكرام ربنا جل وعلا لنا أنه كرمنا على بقية المخلوقات، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يُضرَب الإنسان على وجهه وإن كان كافرًا؛ إكرامًا لجنس الإنسان..

وحرم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يؤذي الإنسان إنسانًا آخر بغير جُرم يقع منه، فقال عليه الصلاة والسلام: «أتدرون من المفلس»؟ قالوا: المفلس عندنا ما ليس له درهم ولا متاع، قال: «المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصيام وصلاة وصدقة، ويأتي وقد ظلم هذا، وأكل مال هذا، وضرب هذا , وشتم هذا، وهتك عرض هذا، فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته..».

إذا كان الإنسان أهان الإنسان ولم يحفظ له كرامته عُوقب بذلك يوم القيامة، حتى لو كان الإنسان عبدًا عند آخر فلا يجوز له أن يهين كرامة عبيده ومماليكه، كما قال عليه الصلاة والسلام: «من ضرب عبده ضربناه، ومن قتل عبده قتلناه»، وفي رواية «من جلد عبده جلدناه» إكرامًا لجنس الإنسان وتعظيمًا له.

لذا أجمع أهل العلم على أنه لا يجوز للإنسان أن يتصرف بشيء من أعضائه إلا إذا كان في ذلك ليس مضرة عليه، فلا يجوز للإنسان أن يقطع يده هكذا من تلقاء نفسه، هذا حرام، ولا يجوز له أن يفقع عينه، ويقطع رجله أو أصبعه..

فإذا قيل له لماذا؟ قال: هذا هو جسدي وهذه أعضائي أفعل بها ما أشاء!! هذا حرام وجسدك ليس ملكًا لك، فتقطع يدك أو رجلك أو إصبعك هو ليس ملكًا لك، إنما جعله الله تعالى يخدمك من أجل أن تتقرب وتتعبد لربنا جل وعلا.

أيها الأحبة الكرام: وإن مما يؤسف له في حياتنا اليوم خلال هذه السنوات الماضيات انتشار أمر بدأ يظهر في العالم حتى جعلت له المنظمات العالمية يوم في السنة كيوم الغذاء العالمي، ويوم الإيدز الذي يحذر فيه من الإيدز... جعلت له يوم وهو «يوم الانتحار»، أن يقتل الإنسان نفسه، وأن يزهق روحه، وألا يستطيع أن يكابد هذه الحياة ولا على أن يواجه ظروفها، ولا أن يتحمل الهم والغم، ولا أن ينشر ما في قلبه من همّ وغمّ ويلقيه بين يدي ربنا جل وعلا..

إن الانتحار من أعظم الجرائم التي بدأت تنتشر في العالم حتى ذكرت المنظمات العالمية أنه في كل أربعين ثانية ليس أربعين دقيقة في كل أربعين ثانية تقع حالة انتحار في هذا العالم، إن في شرق وإن في غرب، فمنهم من يطعن نفسه، ومنهم من يحتسي سُمًّا، ومنهم من يتردى من شاهق، ومنهم من يقتل نفسه بالمسدس، وقد حرم الله تعالى على عباده ذلك.

قال الله جل وعلا: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) [النساء: 29- 30]، وبيّن الله جل وعلا حرمة أن يقتل الإنسان نفسه، أو أن يقتل غيره، وقرن الله تعالى قتل النفس بالشرك فقال الله جل وعلا: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا) [الفرقان: 67].

فبيّن الله جل وعلا أن القتل عمومًا أن قتلك لنفسك أو لغيرك أنه خليل للشرك (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) [الفرقان: 67]، وقد حرم الله تعالى قتل النفوس البريئة ما لم تقع في جُرم أو قتال أو حرب تستحق به هذا القتل.

وقد بين الله جل وعلى في كتابه رحمته بالإنسان، فحرم الله تعالى كل ما فيه ضرر على الإنسان، فضلاً عن أن يصل إلى القتل لو هناك ضرر يصل بك إلى أن تفقد بصرك أو سمعك، أو الكلام أو يدك أو رِجلك، أو يصيبك بضرر في كبدك أو كليتك؛ فهذا حرام فما بالك إذا كان الإنسان يفعل ما يقتل نفسه كلها، ويفسد عليه هذا الجسد بأجمعه.

قال الله جل وعلى (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة: 195]، لا يجوز لإنسان أن يقدم على شيء يهلك به يده أو رجله أو سمعه أو بصره، فما بالك بمن يلقي بنفسه كلها إلى التهلكة، فيُنهي حياته بحالة من حالات الانتحار.

وقد كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يشدد على أصحابه فيما يتعلق بالانتحار، فروى الإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أُتِيَ بِرَجُلٍ قَتَلَ نَفْسه بِمَشَاقِص.. أخذ حديدًا حادًّا فقتل نفسه، قطع بعض عروقه حتى نزف ومات.. وهو رجل مسلم مصلٍّ يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، لكنه لم يستطع أن يواجه ظروف الحياة بالصبر والتوكل على ربنا جل وعلا، وأن يبث همه وغمه ويشكوه إلى ربنا، فاستعجل على نفسه ذلك فقتل نفسه فقَتَلَ نَفْسه بِمَشَاقِص.. فلما رآه النبي عليه الصلاة والسلام وقيل له يا رسول الله: "هذا فلان قَتَلَ نَفْسه بِمَشَاقِص، تولى عنه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصلِّ عليه.

لم يُصَلِّ عليه تعظيمًا لهذا الجرم الذي فعله، لما تقتل نفسك؟ تعظيمًا لهذا الجرم وتحذيرًا للآخرين من أن يفعلوا مثله وتشنيعًا عظيمًا لمثل هذه الجريمة.

ولا يعني أن من قتل نفسه تحول إلى كافر، فلا يصلى عليه..كلا، فهو مسلم لكن النبي عليه الصلاة والسلام من حكمته ترك الصلاة عليه ليشنّع عليه، فهو يعلم أن الناس سوف يقيمون عليه الصلاة.

أيها المسلمون: وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من أن يقتل الإنسان نفسه بأي طريقة فقال عليه الصلاة والسلام: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِسُمٍّ فَسُمُّهِ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ...» كمن يلقي نفسه من على جبل أو من على كوبري عالٍ أو نحو ذلك... قال: «وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا» رواه الإمام مسلم .

وقال عليه الصلاة والسلام: «من قتل نفسه بشيء عُذِّب به في النار يوم القيامة» رواه مسلم، يعني من قتل نفسه إما بحديدة أو بمسدس أو بسُمّ أو بغير ذلك من الطرق فإنه يُعذّب بهذا في نار جهنم، عياذًا بالله تعالى من جهنم.

وقال عليه الصلاة والسلام كما أخرج ابن حبان في صحيحه قال صلوات ربي وسلامه عليه: ووالله كأنما يرى واقعنا اليوم قال: «من خنق نفسه فقتلها» من خنق، هل تصور أن الإنسان يخنق نفسه بيده؟!! لا يستطيع أن يخنق نفسه بيده، فإن يده تضعف بقلة النفس والأكسجين، لكنه ربما قتل نفسه بالخنق عبر حبل، وما شابه ذلك..

قال: «من خنق نفسه فقلتها، فهو يخنق نفسه في نار جهنم، ومن طعن نفسه فقتلها فهو يطعن نفسه في نار جهنم، ومن اقتحم فقتل نفسه فهو يقتحم في نار جهنم» أخرجه ابن حبان في صحيحه.

ما معنى من اقتحم؟ من اقتحم كما يفعل البعض عندما يريد أن ينتحر فيركب سيارته ويمشي بسرعة عالية، ثم يتعمد أن يصدم شيئًا يقتل نفسه بمثل ذلك، فيقول عليه الصلاة والسلام: «ومن اقتحم» أي أقبل مندفعًا على شيء فقتل نفسه قال: «فهو يقتحم في نار جهنم يوم القيامة».

أيها المسلمون: بل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يسامح من قتل نفسه حتى لو كان مشاركًا في الجهاد والقتال.

ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنهم حضروا مشهدًا – معركة – مع النبي عليه الصلاة والسلام قال: فكان رجل قوي على العدو، قلنا يا رسول الله ما أغنى عنا مثل فلان؟ هذا يا رسول الله مقاتل قوي يضرب بسيفه، ويرهب الأعداء، ويقتلهم يا رسول الله ما أغنى ما نفعنا في القتال مثل فلان بقوة قتاله..

فقال عليه الصلاة والسلام: «هو في النار» قال أبو هريرة: فوقع في نفسي.. كيف في النار وهو الآن يقاتل معنا، قال: فجهدت أنظر إليه، قال: ثم بعد ذلك لما أُصيب هذا الرجل بجراحه أقبلنا إليه فلم يحتمل جراحته، قال: فجرح نفسه وقتلها.. يعني طعن نفسه ومات، قال: فجئت إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، قلت: يا رسول الله: إن فلانًا الذي قلت هو في النار قد قتل نفسه، فقال عليه الصلاة والسلام: «أشهد أني رسول الله، أشهد أني رسول الله، أشهد أني رسول الله»، ثم حذّرهم عليه الصلاة والسلام من أن يقتل الإنسان نفسه.. رواه البخاري.

وفي حديث سهل بن سعد عند مسلم قال: "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة، فكان منا رجل يقاتل أشد ما يكون القتال، قال: فأثنينا عليه ومدحناه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «هو في النار»، قال: فأصيب الرجل بجراح فلم يحتمل فقام واتكأ على رمحه، أو قال سيفه، فأدخل سيفه بين ثدييه أو قال جعل رمحه بين ثدييه ثم اتكأ عليه فقتل نفسه".

وقوله عليه الصلاة والسلام: «هو في النار» لا يعني أنه كفر بانتحاره، لكنه تعظيمًا لجريمة الانتحار، وأن فاعلها يستحق أن يعذب في النار، هذا الإنسان الذي لم يستطع أن يرضى بقضاء الله تعالى وقدره، وأن يبث همه وشكواه إلى الله، وأن يعارك الحياة حتى يحصل على ما قدره الله تعالى عليه منها، ومن رزقه، ومن عمله، وأن يتحمل ويصبر..

يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري: «كان رجل فيمن كان قبلكم أصابته جراح فقتل نفسه، فقال الله تعالى: عبدي بادرني بنفسه» يعني هو الذي يقول يا رب لست أنت الذي تختار لي متى شئت لأن أموت بل أنا الذي أقرر الآن «... عبدي بادرني بنفسه حرمت عليه الجنة» رواه الإمام البخاري.

أيها المسلمون: إن قتل المرء لنفسه هو كبيرة من أعظم الكبائر، وقد عد النبي صلى الله عليه وسلم كبائر الذنوب فقال: «الكبائر سبع» وفي رواية «اجتنبوا السبع الموبقات»، وذكر أولها «الشرك بالله»، وذكر عليه الصلاة والسلام من ضمنها «قتل النفس».. فلا يجوز للإنسان أن يقتل نفسه، ولا أن يقتل غيره فإنها نفس محرمة جعل الله تعالى لها حدًّا لا يجوز للمرء أن يعتدي عليها بمثل ذلك.

إن مما يدفع عددًا من الناس اليوم إلى القيام بالانتحار إما بعضهم مصاب بشيء من الأمراض النفسية التي تؤدي به إلى اكتئاب حاد أو مرض لا يستطيع أن يحكم تصرفاته بعقل ناضج فيؤدي به إلى مثل ذلك..

ومن الناس وخاصة من الأطفال قد وُجد بعضهم أنه خنق نفسه، أو تردى فقتل نفسه، بسبب ما يشاهد من بعض الأفلام أو بعض المقاطع التي تنشر في الشبكة العنكبوتية، وبدأ أمثال هؤلاء الأطفال يشاهدون ذلك، ويحاولون أن يقلدوه حتى مات بعضهم بسبب ذلك..

ومن ذلك أيضًا أن بعض الناس لا يكون عنده رضا تام بقضاء الله تعالى وقدره، والنبي صلى الله عليه وسلم لما حدث جبريل عليه السلام بأصول الإيمان قال: «إيمان بالله وملائكته» ثم قال في آخرها «وأن تؤمن بالقدر خيره وشره من الله تعالى».

وقال عليه الصلاة والسلام كما في حديث ابن عباس كما أخرجه الترمذي والإمام أحمد وغيرهما قال: «يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله» ثم قال له عليه الصلاة والسلام: «واعلم أن أصابك ما لم يكن ليخطئك».

ما أصابك من مرض وما أصابك من موت حبيب، أو احتراق مالك، أو ظلم يقع عليك، قال: «واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، واعلم أن النصر مع الصبر وأن مع العسر يسرا»، وكأنه صلى الله عليه وسلم يوجهنا جميعًا كيف نتعامل مع ظروف الحياة، كيف نتعامل مع ظرف موت الولد الحبيب إلى قلبي، أو مع ذهاب مالي أجمع، باحتراق مالي كله فجأة، وأنا أمضيت سنين من عمري أجمعه، أو ربما بظلم يقع علي، أو بقهر يقع في نفسي من اعتداء على مالي أو عرضي أو ولدي أو ما شابه ذلك..

كيف تتعامل مع هذه الحياة، هل الحل عندما تهجم عليك ظروف الحياة، وعندما تبتلى بالمصائب، وتنزل عليك الكربات، هل الحل أن تذهب وتقتل نفسك؟ هل أنت حللت المشكلة؟! هل حللت مشكلة فقرك وفقر أهلك لما قتلت نفسك؟ هل حللت مشكلة مرض والدك وأنه لم يجد علاج لما قتلت نفسك؟! هل حللت مشكلة ولدك الذي قاطعك وعاقك وخرج من بيتك ولم يقابلك هل حللت المشكلة لما قتلت نفسك؟ هل حللت المشكلة بينك وببين زوجتك لما قتلت نفسك؟!

إن الانتحار أيها الناس ليس حلاً أبدًا لأي مشكلة، إن الانتحار هو التولي يوم الزحف، الانتحار هو انهزام عن هذه الحياة. والنبي عليه الصلاة والسلام قد جاءنا بشريعة واضحة تربينا على الشجاعة، تربينا على القوة، تربينا على الرضا بالقضاء والقدر، تربينا على الاعتماد واحتساب لأجر عند ربنا جل وعلا؛ بحيث إنه إذا ابتلي المرء ببلاء يعلم أنه مأجور عليه، وكلما عظم البلاء عليه عظم الأجر المترتب عليه، يقول عليه الصلاة والسلام: «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير إن أصابته سراء...» سعة في ماله، وبر في ولده، وصحة في جسده، ومحبة في قلوب الخلق.

قال: «إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء...» مات ولده الحبيب إلى قلبه أو ذهب ماله، أو وقع عليه ظلم، أو أهين، أو وقع عليه مرض عضال.. قال «وإن أصابته ضراء..» كيف يتعامل المسلم معها؟ قال: «وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له» ثم قال عليه الصلاة والسلام: «وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن»..

إذا علم الإنسان أن ما أصابه مقدر عليه من قبل أن يُخلَق، رضي بالقضاء والقدر، يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما، قال عليه الصلاة والسلام: «أول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب، قال وما أكتب؟ قال: مقادير كل شيء إلى يوم القيامة»، وفي رواية قال عليه الصلاة والسلام: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء» رواه الإمام مسلم.

هذه أحاديث تثبتنا عند المصائب، تثبتنا عند الكروبات، تجعلنا أقوياء، نعلم أن المقدر في السماء وليس في الأرض، وأن الرازق في السماء وليس في الأرض، وأن الأمة والله «لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء..» اجتمعوا على أن يحولوا بينك وبين زوجتك أو بين أهلك، أو يحولوا بينك وبين مالك، أن يفصلوك من وظيفتك، اجتمعوا على أن يبتلوك بسجن، أو أن يصيبوك بمرض...

واعلم أن الأمة.. الأمة كلها بأذكيائها وكبارها وصغارها، وملوكها ورؤساءها، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك.. إلا بالمقدر، فالمقدر في السماء والمتحكم في السماء والمدبر في السماء، لا معقب لحكمه ولا مغير لقضائه ولا مبدل لقدره جل وعلا ولا منازع له في إلوهيته، ولا في ربوبيته..

إذا أيقين الإنسان بهذا وتمكنت عقيدة التوحيد من قبله رضي بما أصابه من قضاء وابتلاء وكربة ومصيبة، وقال: اللهم أنا منك وإليك، اللهم يا حي يا قيوم يا رب العالمين اكشف ما بي وصار التجاؤه إلى تعالى.. ليس إلى مسدس يفجره في رأسه، ولا إلى حبل يلفه إلى عنقه، ولا إلى جسر يتردى من فوقه، ولا في سيارة يقتحم بها في مقتل..لا.. إنما اللجأ عند الكربة وعند المصيبة وعند وقوع الظلم إلى رب العالمين جل وعلا وهو سبحانه وتعالى هو الذي يقدر ما يشاء ويختار..

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يحفظ علينا وعلى أحبابنا وعلى جميع المسلمين الأرواح والأبدان، أقول ما تسمعون وأستغفر الله الجليل العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وإخوانه وخلانه، ومن سار على نهجه واقتفى أثره واستنّ بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد: أيها المسلمون: إن واجبنا اليوم أن نحاول أن نكشف عن الناس مصائبهم وكرباتهم وهمومهم فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من نفَّس عن مؤمنٍ كُربةً من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة».

نفَّس عنه كربة الدين التي أضجت مضجعه، فأقبل وسدد عنه، أو حدث صاحب الدَّيْن ليضع بعض الدين عن صاحبه، بدل ما يطالبه بمائة ألف يطالبه بأقل من ذلك..

أو نفَّس عنه كربة عقوق ولده، فأصبح الولد لا يكاد أن يغمض له جفن انشغالاً على الولد الذي عقّه وفارقه فجئت أنت وقاربت بينهما..

أو نفَّس عنه كربة مشكلة بينه وبين زوجته، أو نفَّس عنه كربة البحث عن وظيفة، أو نفَّس عنه كربة من كرب الدنيا... أي كربة،«نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة»، وفي هذا الحديث لم يقل عليه الصلاة والسلام من رفع كربة عن مسلم، إنما من نفَّس ، وكأن هذا المسلم قد امتلأ بها حتى كاد أن ينفجر من شدة غمه عليه، فأقبلت أنت ونفست عنه يعني سهلت عليه..

ربما لا تستطيع أن تكشف الكربة، لكنك تستطيع أن تساعد في تنفيثها في تقليل أثرها، في تقليل إيذاء نفسه بسببها، قال: «من نفَّس عن مسلم كربة من كرب الدنيا، نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة».

وقال عليه الصلاة والسلام: «أحب الأعمال إلى الله ثلاثة: أن تدخل على قلب أخيك المسلم سرورًا، أو تقضي عنه دينًا، أو تطعمه خبزًا» رواه الترمذي.

فكلها فيها إحسان إلى الآخرين، بحيث إنك إذا رأيت مهموما مغمومًا مكروبًا أقبلت وجالسته، وحاولت أن تشاركه همه وغمه:

ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة *** يناجيك أو يثنيك أو يتوجع

فأحيانا قد لا تستطيع أن تساعده بمال ولا بمنصب، لكن مجرد المشاركة في الهم والغم وبمجرد أن تصبره ما عندك من آية وحديث، وأن تعلق قلبه بربنا جل وعلا، فهذا بلا شك أنه تنفيث للكربة تؤجر عليه بإذن الله تعالى.

كان رجل يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ولده، وقد تعلق قلب هذا الأب بولده، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم يوم قال له: "هل تحبه؟" فقال الرجل: يا رسول الله أسأل الله أن يحبك كما أحبه.. هل رأيت وصفًا أعظم من هذا؟! يقول مقدار المحبة التي في قلبي لولدي أنا أسأل الله سبحانه وتعالى أن يحبك محبة عظيمة.. وذلك يا رسول الله لأني أفرح أن يحبك الله تعالى محبة عظيمة لا أعظم منها، كما أني يا رسول الله أنا أحب ولدي محبة عظيمة لا أعلم محبة أبٍ لولده أعظم منها، ولا يكاد الوالد يفارق ولده، الأب لا يصبر عن ولده كلما خرج خرج الولد معه..

فأقبل يومًا إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقد تغير وجهه وبدا عليه الحزن والكآبة والهم والغم، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن حاله، وكان عليه الصلاة والسلام يهتم للمهمومين ويحزن للحزين، ويغتم للمغموم ويقترف للمكروب.. ما كان عليه الصلاة والسلام يبحث فقط عن متعة شخصية يسأل من هو حزين،ما بالك؟ ما لك حزين؟ ما عندك؟ هل أستطيع أن أساعدك أن أكشف عنك؟

سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن حاله؟ قال: يا رسول الله: مات ولدي، حبة قلبه وثمرة فؤاده، طالما ضمّه إلى قلبه وطالما شمه ولمسه وعانقه لا يخرج إلا ويده في يده، ولا ينام إلا والولد على يده أو في حضنه، هذا الولد الذي هو حبة قلبي وثمرة فؤادي مات يا رسول الله..
فقال له عليه الصلاة والسلام: «ألا يسرك ألا تأتي بابًا من أبواب الجنة إلا وجدت ولدك عنده» قال: بلى، قال: «فذلك لك».

ألا يسرك ألا تأتي بابًا من أبواب الجنة إلا وجدت الولد ينتظرك عند هذا الباب، قال: بلى هذا أنفع لي من أن يعيش ثم لا أدري هو صالح أم طالح، طبعًا أفرح أن لا آتي بابًا من أبواب الجنة إلا ولدي الحبيب أمامي.. نعم، قال عليه الصلاة والسلام: فذلك لك. فكأنما رفع النبي صلى الله عليه وسلم جبل من الهم رفعه عن قلب هذا الرجل..

فنحن مطالبون قبل أن يفكر الإنسان بأن يقتل نفسه لظرفٍ من الظروف، نحن مطالبون أن نعيش الحياة التي أمرنا الله تعالى بها (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: 10]، ويقول عليه الصلاة والسلام: «وكونوا عباد الله إخوانا»، الأخ يقف مع أخيه في كربته في همه في غمه، يتلمس حاجته، يشاركه مشاعره حتى لا يفكر ذلك الإنسان بأن ينتحر أو يقتل نفسه أو ربما ذهب وقتل آخر أو سرق أو قطع أو فعل..

إن مشاركة الإنسان لأخيه من أعظم القربات التي يتقرب بها الإنسان إلى ربنا جل وعلا..

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يستعملنا في طاعته..

 

 

 

 

المرفقات

تقتلوا أنفسكم

ولا تقتلوا أنفسكم

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات