ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها

محمد بن عبدالله السحيم

2022-07-15 - 1443/12/16 2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: بناء المجتمع
عناصر الخطبة
1/إصلاح الله للأرض وإفساد الخلق فيها 2/خطر الفساد على الكون والإنسان 3/حقيقة الفساد وصوره 4/وسائل منع الفساد ورفعه

اقتباس

عباد الله: الفساد ظلمة موحشة تحوي في حُلَكِها الهدمَ والخراب، وكلَّ ما من شأنه تقويضَ الإصلاح وإضعافَه، ولذا نهى الله عنه نهيًا عامًا لا يدع من أفراده صغيرًا ولا كبيرًا إلا وشمله ذلك النهي الصارم؛ لعظم ضرره، واستطارة شرِّه، ومنبع الفساد وأساسه الذي ينشأ منه ويتغذى عليه المعاصي التي...

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

 

أما بعد: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ...)[النساء: 1].

 

أيها المؤمنون: فطر الله الأرض نقيةً طاهرةً صالحةً للأنام يسكنون فيها، ويتعيشون منها، ويعمرونها حتى حين، وسنّ لهم فيها سننًا لا تطيب حياتهم إلا بمراعاتها، والسير معها، وعدم مخالفتها؛ إذ في مخالفتها النكد والشرور، وسوء العاقبة، ومن تلك السنن الإلهية: سنة الإصلاح الذي اصطبغ به الكون بسمائه وأرضه، وشمسه وقمره ونجمه، وبره وبحره، وسهله ووعره: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ)[الحـج: 18].

 

وبات الفسادُ شاذًا مناقضًا سنةَ صلاح الكون وعمارة الأرض كما غدا أكبرَ خطر داهم عليها يشين حسنها، وينغص عيش ساكنيها، ويدنيهم من حلول نقمة الجبار، قال ابن القيم: "قال غير واحد من السلف: إذا قحط المطر، فإن الدواب تلعن عصاة بني آدم، وتقول: اللهم العنهم؛ فبسببهم أجدبت الأرض وقحط المطر"، وعن أبي قتادة بن ربعي الأنصاري -رضي الله عنه- أنه كان يحدث: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مُرَّ عليه بجنازة، فقال: "مستريح ومستراح منه" قالوا: يا رسول الله ما المستريح والمستراح منه؟ قال: "العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد، والشجر والدواب"(رواه البخاري ومسلم).

 

عباد الله: الفساد ظلمة موحشة تحوي في حُلَكِها الهدمَ والخراب وكلَّ ما من شأنه تقويضَ الإصلاح وإضعافَه، ولذا نهى الله عنه نهيًا عامًا لا يدع من أفراده صغيرًا ولا كبيرًا إلا وشمله ذلك النهي الصارم؛ لعظم ضرره واستطارة شرِّه، قال تعالى: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا)[الأعراف: 56].

 

ومنبع الفساد وأساسه الذي ينشأ منه ويتغذى عليه المعاصي التي يرتكبها العباد، ومخالفتهم الأوامرَ الربانية؛ كما قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ)[الروم: 41]، قال أبو العالية: "من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصية الله فقد أفسد في الأرض؛ لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة".

 

والفساد هاوية ذات دركات بعضها أعظم من بعض، وأخطر الفساد من حيث الأجناس الكفر والشرك، ثم النفاق ثم البدع، ثم الكبائر ثم الصغائر، ويعظم الفساد إن كان فيه اعتداءٌ على حق الغير بالأخذ أو المنع -سيما الضعيف-، أو كان صاحبه داعيًا إليه، أو مزيِّنًا له، أو مجاهرًا به، أو محتالًا فيه، أو فرحًا به، أو خائنًا لحق عام هو مؤتَمنٌ عليه، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن رجالًا يتخوضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة"(رواه البخاري).

 

وأخطر أهل الفساد أولئك المفسدون المتدثرون في تسويغ فسادهم، وترويجه بشعار الإصلاح دون حقيقته؛ ليموِّهوا فسادَهم بمسوح الإصلاح وشعاراته دون أن يكون للإصلاح حقيقة في واقع عملهم المشين، كما أبانهم الله بقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُون)[البقرة: 11-12]؛ ليبقى العمل بعد ذلك هو الفيصل في بيان حقيقة حال المرء الإصلاحي أو الإفسادي دون كلامه وشعاراته؛ كما قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَاد)[البقرة: 204-205].

 

أيها المسلمون: الفساد والمفسدون مبغوضون عند الله، فـ (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ)، و(وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)، ومن شأن ذلك البغض الإلهي أن جعل سبيل الإفساد والمفسدين لا تفضي إلا إلى شر مآل في الدنيا والآخرة، وأن صولة الفساد لا يطول وقتها لخطرها على الكون فإن من سنن الله الجارية أن يقيض للفساد يدًا من الحق حاصدة؛ كما قال تعالى: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ)[الأنبياء: 18]، ويقول: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ)[هود: 116]، إضافة إلى ما يحمله الفساد في ذاته من أسباب سقوطه واضمحلاله حين نزع الله منه صلاحية البقاء والقبول واستمرارَ الصمود والظهور، كما قال الله -تعالى- حاكيًا عن نبيه موسى -عليه السلام-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ)، ونفي الله إصلاح أعمال المفسدين بتركها وشأنها وخذلان أهلها، فسريعًا ما تنكمش وتتهاوى؛ ولذا فإن من شأن الفساد أن يتضاءل مع الزمان حتى يضمحل.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله...

 

أما بعد: فاعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله...

 

أيها المؤمنون: إن الوازع الذاتي باستشعار المرء اطلاعَ الله عليه، واستحضارِه علمَ ربه بمغيبه ومشهده، ويقينِه بحسابه يوم القيامة بين يديه، وأن (وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) هو أعظم ما يُدرأ به الفساد ويُرفع، وتنمية هذه الرقابة في النفوس، وكثرة التذكير بها من أهم ما يجب التواصي به، ويُنشّأ عليه الناشئة، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من استعملناه منكم على عمل، فكتمنا مخيطًا، فما فوقه كان غلولًا يأتي به يوم القيامة"(رواه مسلم)، ويقول: "والله لا يأخذ أحد منكم شيئًا بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة"(رواه البخاري).

 

وسنة المدافعة بالنصيحة، والأمر بالعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، وسن العقوبات، وإنشاء الأجهزة لمحاربة الفساد؛ سبيل شرعي قويم لرفع الفساد ومنعه، كما قال الله -تعالى-: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)[البقرة: 251].

المرفقات

ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها.pdf

ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات