ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون

محمد بن عبدالرحمن العريفي

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ تحريم الظلم 2/ استشراء الظلم 3/ عاقبة الظلم 4/ نصرة المظلوم

اقتباس

وإذا نظرتَ اليوم في أحوال الناس وجدت أن الظلم بدأ يستشري في كثير من الأحيان، فإذا رأيت زوجة ظُلِمت، أو رأيت طفلا قد ظُلم، أو رأيت شعبا قد ظُلم، أو رأيت موظفا قد ظُلم، أو رأيت ديارا ربما قد انتشر فيها الظلم؛ فاعلم أن هذا مُؤْذِنٌ بالفساد والدمار، فكَم قد خربت به من بلاد! وكم قد تقطَّعَتْ به من أوصال! ..

 

 

 

 

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله -تعالى- من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جَلَّ عن الشبيه والمثيل والكفء والنظير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه؛ أرسله ربه رحمة للعالمين، وحجة على العباد أجمعين، فهدى الله -تعالى- به من الضلالة، وبصَّر به من الجهالة، وكثَّر به بعد القلة، وأغنى به بعد العيلة، وأمَّن به بعد الخوف، وجمع به بعد الشتات.

فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين، وأصحابه الغُرِّ الميامين، ما اتصلت عين بنظر، ووعت أذن بخبر، وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد: أيها الأخوة الكرام، فإن ربنا -جل وعلا- في علاه قد وصف نفسه -سبحانه وتعالى- بأن رحمته واسعة، وأخبرنا الله -جل وعلا- في الحديث القدسي بأنه حرم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرما؛ قال النبي صلوات ربي وسلامه عليه: "يقول الله تعالى: يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم مُحَرَّماً؛ فلا تَظَالَموا".

ولقد شنع الله -تعالى- في كتابه الكريم على الظلم والظالمين، وبين الله -تعالى- سوء عاقبة الظلم، سواء في الدنيا أو إن كان في الآخرة.

وإذا نظرتَ اليوم في أحوال الناس وجدت أن الظلم بدأ يستشري في كثير من الأحيان، فإذا رأيت زوجة ظُلِمت، أو رأيت طفلا قد ظُلم، أو رأيت شعبا قد ظُلم، أو رأيت موظفا قد ظُلم، أو رأيت ديارا ربما قد انتشر فيها الظلم؛ فاعلم أن هذا مُؤْذِنٌ بالفساد والدمار، فكَم قد خربت به من بلاد! وكم قد تقطَّعَتْ به من أوصال!.

قال بعض العلماء، وقد نسبه ابن القيم -رحمه الله- إلى سفيان الثوري، قال: "إذا مررت بديار قد تعطَّلَتْ، ومررت بأسر قد تمزقت، ومررت بأموال قد ذهبت، وبصحة قد سقمت، فاعلم أنه قد جرى فيما بينهم ظلم أدى بهم إلى مثل ذلك".

وذكر أنه وجد في خزائن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى- أنه وجد كيس فيه حبة قمح بحجم البيضة، ومعه ورقة مكتوب فيها: "هذا كان ينبت لما كان الخلفاء يعدلون في رعاياهم".

وقد ذكر ابن كثير لما تكلم على قوله -تعالى-: (أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) [البقرة:159]، قال: إن العصافير لَتَمُوتُ في أوكارها بسبب ظلم الظلَمة، وإن الدواب في الأرض لَتَموت في جحورها بسبب ظلم الظلَمة. قيل له: كيف؟ قال: إذا ظلموا وبغوا انقطع القطر من السماء؛ فماتت جوعا وعطشا، فلا تزال تلعنهم، وهو قول الله -جل في علاه-: (أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ).

لذا -أيها المسلمون- كان النبي -صلوات ربي وسلامه عليه- يستعيذ بالله -تعالى- من أن يقع منه الظلم، أو أن يقع عليه الظلم، كان -عليه الصلاة والسلام- إذا خرج من بيته قال: "اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ، أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ، أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ".

فكان يستعيذ من أن يقع منه الظلم، سواء على زوجة أو على ولد أو على خادم أو على جار، أو حتى لو على كافر، يستعيذ بالله -تعالى- من أن يقع منه ظلم على الآخرين، ويستعيذ في الوقت نفسه من أن يقع من الآخرين ظلم عليه.

وفي حديث البراء -رضي الله عنه- قال: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يأمرنا بسبع، فأمرنا بإفشاء السلام، وأمرنا بنصرة المظلوم"، أمرنا بأن نقف مع المظلوم إذا كان المظلوم موظفا زميلا لك فقف معه وجوبا، وإذا كانت زوجة أو جارة أو امرأة ضعيفة وجب على مَن كان قادراً على أن ينصرها أن يقوم بنصرتها.
قال ابن حجر -رحمه الله تعالى-: "اجمع العلماء على أن نصرة المظلوم فرض كفاية إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، ثم قال: وإذا تعين نصرة المظلوم على شخص معين وجب عليه أن ينصره؛ فإن لم يفعل كان مشاركا للظالم في هذا الظلم".

إذا تعينت نصرة المظلوم على موظف يعمل في جهة أمنية سواء في الشرطة أو في المباحث أو في غيرها من الجهات، أو كانت تعينت على تاجر له مال أو رجل له سلطة أو رجل صاحب منصب، إذا تعينت نصرة المظلوم على هذا الرجل وكان هو القادر على أن يقف مع هذا المظلوم وأن يبين حقه وأن يرفع عنه مسكنته؛ فإنه يجب عليه ذلك، وإلا كان شريكا مع الظالم في هذا الظلم.

والله -جل وعلا- بين في كتابه الكريم فقال -سبحانه وتعالى-: (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) [الأنعام:21]، لا يفلح مع أهليه، ولا يفلحون في أموالهم، ولا يفلحون في مناصبهم، ولا يفلحون في حكمهم، ولا يفلحون حتى في دينهم أو في صحتهم: (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)!.

وقال الله -جل في علاه- وهو يبين لنا أحوال الظالمين يوم القيامة: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) [إبراهيم:42]، إن ظلم حاكم شعبه فلا تحسبن الله غافلا عن ظلمه، وإن ظلم ابن أباه أو ظلم الوالد ولده أو ظلم الزوج زوجته أو ظلم الموظف صاحبه، قال الله: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ).

بل هو -سبحانه وتعالى- يراهم ويسمعهم ويبصر حالهم، ويعلم ما في قلوبهم، وهو القادر وحده على نصرتهم: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ).

في حديث أنس -رضي الله تعالى عنه- أن الصحابة بينما هم عند رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- إذ أقبل رجل أعرابي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد استدان منه شيئا، فقال: يا رسول الله، اقضني. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا أجد الساعة"، الآن ليس عندي شيء لأقضيك إياه، وقد كان النبي -صلوات ربي وسلامه عليه- ربما اقترض من بعض الناس دابة لحرب، أو اقترض طعاما يزوده أصحابه في جيش، أو ما شابه ذلك.

قال: "لا أجد ما أقضيك به"، فجعل الرجل يشدد على النبي -عليه الصلاة والسلام- حتى قال: "أحرج عليك إلا قضيتني"، يعني أضيق عليك إلا قضيتني، فقال له بعض الصحابة: ويحك! أتدري مَن تُكلم؟! فقال الرجل: إنما أطالب بحقي. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هلا مع صاحب الحق كنتم؟!" لم تعترضون عليه لما طالب بحقه؟ "هلا مع صاحب الحق كنتم؟"، ثم أرسل -عليه الصلاة والسلام- إلى خولة بنت قيس فقال لها: "إن كان عندك شيء من تمر فأقرضينا"، فقالت نعم، بأبي أنت يا رسول الله! فأرسلت إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- شيئاً من تمر، فأخذه -عليه الصلاة والسلام- ووفى به هذا الأعرابي ثم قال له: "وفيت لك؟"، قال الأعرابي: أوفى الله لك. ثم قال -عليه الصلاة والسلام- لأصحابه: "أولئك خيار الناس"، يعني الذين يقضون الناس ويقفون مع المظلومين المطالبين بحقوقهم.

قال: "أولئك خيار الناس، لا قدست أمة لا يأخذ ضعيفها من قويها حقه غير متعتع"، يعني غير متردد، يأتي إليه ويقول: أنا لي حق في المال، أنا لي حق في الوظيفة، أنا لي حق في كذا وكذا! "لا قدست أمة"، يعني: لا طهرت! "لا قدست أمة لا يأخذ ضعيفها من قويها حقه غير متعتع"، يعني: غير متردد؛ لأنه واثق أنه سينصر، وأن حقه سيقضى إليه، وبالتالي لا يتردد؛ لأنه يقبل واثقا من أن حقه سوف يوضع بين يديه.

في حديث جابر -رضي الله عنه- قال: سأل النبي -عليه الصلاة والسلام- عددا من الصحابة الذين قدموا من الحبشة، قال: حدثوني بأعجب ما رأيتم في أرض الحبشة؟ فقال فتية منهم: يا رسول الله، رأينا عجوزا تحمل جرة ماء -أو قالوا قلة ماء- فوق رأسها، فبينما هي تمشي إذ أقبل شاب منهم -يعني من الحبشة- فوضع كفه بين كتفيها ثم دفع بينهم فوقعت القلة من فوق رأسها فانكسرت، ووقعت العجوز على ركبتيها، وهم كفار غير مسلمين، وهم يقولون الله ثالث ثلاثة! ومع ذلك انظر كيف علق النبي -عليه الصلاة والسلام- على الموقف!.

قال: أقبل شاب فوضع كفه بين كتفيها فدفعها حتى وقعت القلة وانكسرت ووقعت العجوز على ركبتيها، قال: فقامت العجوز والتفت إليه وقالت: ستعلم يا غدر -يعني يا أيها الغادر- الذي جئت من خلفي ولم أنتبه إليك، قالت ستعلم يا غدر إذا وضع الله كرسيه للحكم بين العباد أي شيء يكون حالي وحالك! فقال -عليه الصلاة والسلام-: "صَدَقَتْ، صدقت، صدقت؛ لا قدست أمة لا يؤخذ لضعيفهم من قويهم".

الضعيف والفقير له حق في مال الغني ينبغي أن يستخرج منه، كما قال -عليه الصلاة والسلام- لما رأى من يؤخرون الزكاة، قال -عليه الصلاة والسلام-: "فإنا آخذوها"، يعني: نطلع الزكاة منه بالقوة؛ لأنه ليست حقك.

لما يكون عندك مائة ألف ويمضي عليه سنة فإن حقك فقط سبعة وتسعون وخمسمائة بس وألفين وخمسمائة ليست حقك هي حق لغيرك انتقلت إليه.

يقول -عليه الصلاة والسلام- عمن يؤخرونها، قال: "فإنا آخذوها وشطر ماله"، إذا ما يعطيها بالرضا، يعطي الحق لصاحب الحق ويرد المظلمة إلى من نزعت منه، قال: فإنا آخذوا الزكاة 2.5%، وعقابا له نأخذ شطر ماله، نصف المال نحرمه منه أيضا، قال: "فإنا آخذوها وشطر ماله".

وقال -عليه الصلاة والسلام- مبينا ليس فقط تحريم الظلم، لا، بل مبينا -صلوات ربي وسلامه عليه- كيف أن الله -تعالى- إذا حكم بين العباد لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا حاسبهم عليها وأحصاها عليهم، قال: "أتدرون مَن المفلس؟"، قالوا: المفلس فينا من لا درهم عنده ولا متاع، قال: "المفلس مِن أمتي مَن يأتي يوم القيامة"، وليستمع إلى هذا كل ظالم، ليستمع إليه الذين يظلمون الناس في أموالهم أو في أراضيهم أو في بناتهم أو في أعراضهم أو في غير ذلك، ليستمعوا إليه!..

قال: "المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بأعمال كالجبال"، يأتي وعنده صلاة ليل، وعنده صدقات، وعنده عمرة، وعنده حج، وعنده بناء مساجد، وعنده كفالة أيتام؛ وربما يمر الناس بمسجده ويقرؤون اسمه عليه، وربما بدار أيتام ويقرؤون اسمه عليها، وربما يوزع على الناس كتباً طبعت على نفقة فلان، وربما قنوات فضائية تبجله، أو مواقع انترنت تبجله..

يقول -عليه الصلاة والسلام-: "يأتي بأعمالٍ كأمثال الجبال"، هذا إن كان مخلصا جاء بها، أما إن كان قصد رياءً وسمعة فإنها تكون هباءً منثورا، هذا مع إخلاصه، يأتي بها؛ لكنه يأتي "وقد شتم هذا"، ظُلْم! لماذا تشمته؟ لماذا تهينه؟ هذا ظلم! يأتي وقد شتم هذا، وضرب هذا، وهتك عرض هذا؛ ليس شرطا أن يكون هتك عرضه بأن يقع بالفاحشة على أخته أو زوجه أو ابنته، لا، بل لو اغتابه أو تكلم في عرضه، قال: "وهتك عرض هذا، وأكل مال هذا"، قال: "فيؤخذ لهذا من حسناته"..

أنت سبك وشتمك ظلمك بأن أحرجك أمام الناس خذ هذا أجر صلاة عشرين ليلة، وأنت أجر بناء خمسة مساجد، وأنت خذ أجر بناء دار أيتام ورعايته لهم 20سنة، خذ الأجر.

قال: حتى إذا فرغت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من سيئاتهم، يأخذ إثم الزنا من هذا وإثم شرب الخمر من هذا وإثم النوم عن الصلاة من هذا، أخذ من سيئاتهم التي لم يفعلها ولم يباشرها ولم يقع فيها، يؤخذ إثم زنا ويوضع عليه، ويؤخذ إثم سرقة ويوضع عليه، ويؤخذ إثم شرب خمر -وربما لم يطعم الخمر في حياته!- يؤخذ الإثم من صاحبه فيوقع عليه..

قال: "حتى إذا فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من سيئاتهم ثم طرحت عليه، ثم طرح في النار".

ولك أن تتخيل الظالم يوم القيامة وقد لقي الله -تعالى- عاري الجسد، مضطرب الفؤاد، خائف النفس، زائغ العين، وإذا برجل يتعلق به مِن يمينه ويقول: لم غششتني؟ وإذا الآخر يقف أمامه فيأخذ به ويقول: لماذا أخذت مالي؟ وإذا الثالث يتعلق به من خلفه ويقول: لماذا هتكت عرضي؟ وإذا الرابع من يساره يقول: يا رب! هذا أكل مالي! والثاني يشتكي: قد غشني! والثالث يقول: اغتابني! والرابع يقول: ظلمني..

فإذا بهذا الظالم يرفع بصرا ضعيفا إلى رب العالمين يرجو رحمة أو مغفرة أو مسامحة، وإذا بالله -تعالى- يقول: لا ظلم اليوم! (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ) [غافر:17]، (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ) [غافر:18]، كل مَن كان من أصحابه الذين يساعدونه على الظلم، هذا عنده واسطة في شرطة، وهذا عنده واسطة في الجوازات، والثالث عنده واسطة في المباحث، والرابع يعرف أميرا، وهذا يعرف وزيرا، وهذا يعرف كاتبا، وهذا يعرف سواقا؛ (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ * وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ) [غافر:18-20].

لما أرسل النبي صلوات -ربي وسلامه عليه- معاذاً إلى اليمن، ووقع في نفسه -عليه الصلاة والسلام- أن هذه هي آخر اللحظات التي أرى فيها معاذا ويراني، وأخذ -عليه الصلاة والسلام- بخطام ناقة معاذ وهو يمشي -صلوات ربي وسلامه عليه- على قدميه، ومعاذ على دابته وهو يودعه، قال له: "يا معاذ، إنك لعلك لا تلقاني بعد لقائي هذا"، يا معاذ، ربما هذه آخر كلمات تسمعها مني في حياتك، وهذه آخر النظرات التي تنظرها إلي. إذاً؛ ما هي الوصايا التي سيختارها سيدي رسول الله -عليه الصلاة والسلام- ليوصي بها معاذا في آخر كلمات في مقابلة أخيرة؟.

قال: "يا معاذ، إنك لعلك لا تلقاني بعد لقائي هذا، وإنك تأتي قوما أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم".

ثم قال -عليه الصلاة والسلام-: "يا معاذ،" وكأنك به -عليه الصلاة والسلام- يختتمٍ وصيته بوصية ينتزعها مِن أقاصي روحه ومن شغاف قلبه، قال له: "يا معاذ، واتقِ دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب".

يا معاذ، أنت تقابل قوما كفارا؛ لكن لا تظلم هذا في ماله، ولا تظلم هذا في منعه من حقه، ولا تظلم هذا بالافتراء عليه، "يا معاذ، واتقِ دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب"، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "ثلاث دعوات لا تُرَدُّ: دعوة المريض، ودعوة الإمام العادل، ودعوة المظلوم"، ثم قال -عليه الصلاة والسلام-: "ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، ويقول: وعزتي وجلالي لَأنصرنَّكَ! ولو بعد حين".

وكم من دول تولت، وعروش سقطت، وحكام بعد عِزٍّ ذَلَّتْ، وأموال بعد غنى ذهبت، وأسر افتقرت، وعوائل تشتتت؛ بسبب ظلمهم للعباد، بسبب احتقارهم بمن يدعون عليهم.

كان أحد وزراء بني العباس قد ظلم امرأة في مزرعة، مر بالمزرعة وأعجبته الفواكه، قال: ادخلوها، ضعوا عليه شبك واكتبوا عليه لفلان! خلاص! هذه تبعي..

ظلم امرأة في مزرعة فأقبلت العجوز إليه تبكي، قالت: مالي مالي. قال: منذ متى؟ قالت منذ أربعين سنة. قال: يكفيك هذه الأربعين سنة. استمتعتي الأربعين سنة خلاص الباقي تلقيه لنا. قالت: حسبي الله! والله لَأدعونَّ عليك! فضحك! قال: لا تنسي، في الثلث الأخير! مستهزئاً. الدعاء في الثلث الأخير مستجاب، ينزل الله ويقول: هل مَن يدعوني فأستجيب له؟ لا تنسي الثلث الأخير! فخرجت المرأة وجعلت تقوم الليل وتستنصر الله عليه، فما مضى أسبوع إلا بطش به الخليفة وأمر به فقطعت يداه، ثم بقي في السجن، ثم غضب الخليفة أخرى فأمر وجُرَّ بين يديه وقطع رأسه.

أَتَهْزَأُ بِالدُّعَاءِ وَتَزْدَرِيهِ؟ *** وَمَا تَدْرِي بِما صَنَعَ الدُّعَاءُ
سِهَامُ اللَّيلِ لا تُخْطِي وَلَكِنْ *** لها أمدٌ، وللأمدِ انقضاءُ

لما سجن البرامكة وذلوا بعد عزهم وافتقروا بعد غناهم، وتفرقوا بعد اجتماعهم، وخافوا بعد أمنهم، سُجنوا بعدما كان يأمرون وينهون ويشترون ويفعلون ما يشاءون، سجنوا، فجلس خالد عند أبيه يحيي يبكي في السجن، ما تعود يجلس على بساط بعشرة دراهم، ولا تعود أن يقوم يجهز ماء الوضوء لنفسه بنفسه، متعود أن يعيش يتكئ على الأرائك وأن يكون حوله الخدم والحشم، فلما رمي في السجن بكى يوما، واستغربت عينه الدمع! ما الذي يبكيه في حياته، وهو في متعة تتلوها متعة؟ بكى! فقال له أبوه: ما يبكيك؟ قال يا أبتِ، بعد ذاك العز صرنا إلى ما ترى، فقال: يا بني، دعوة مظلوم سرت في ظلمة الليل نمنا عنها ولم ينم الله عنها.

نامت عيونك والمظلوم مُنْتَبِهٌ *** يدعو عليك، وعين الله لم تَنَمِ

ولا أدري -والله!- أيها الناس كيف يسعد الإنسان بنومه وهناك آخَر قائم في ظلمة الليل قد جفَتْ عينُه الكرى، وتجافَى جنبه عن مضجعه من حرارة ما وقع عليه من ظلم، ويرفع يديه في ظلمة الليل ويدعو على هذا المظلوم، يدعو على هذا الظالم؟!.

أنت نائم وهناك مَن يدعو عليك، يقول: اللهم إني أسألك أن تعمي بصره، وأن تبكم لسانه، وأن تديم فقره، وأن ترينا فيه عجائب قدرتك.

ويهز يديه، ويرفع دعوته وهي من مظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، وأنت نائم لأجل دراهم معدودة سلبْتها منه، أو لأجل افتراء افتريته عليه لتورطه في مشكلة أو مصيبة.
نامَتْ عيونُكَ والمظلومُ مُنْتَبِهٌ *** يدعو عليكَ وعينُ اللهِ لَمْ تَنَمِ
العاقل هو الذي يخشى من سهام تطلق في الليل وهو نائم لا يدري عنها.

أوحى الله -تعالى- إلى موسى -عليه السلام-: يا موسى، حذر بني إسرائيل من مغبة الظلم؛ فإن له سوء عاقبة. قال موسى: يا رب! وما سوء عاقبته؟ فقال الله -تعالى-: أثكل به الولد، وأبكي به الزوجة، وأفرق به الجمع، وأفقر به الغني.

هذه عاقبة الظلم، ولا يفلح الظالمون، مهما تزاهى أمام الناس فإن أيدٍ مرتعشة ترتفع إلى ربنا تدعو عليه.

كان الأمير أسد بن نوح أرسل رسولا مِن عنده إلى أهل سمرقد أنه يزيد عليه في الخراج، يزيد عليهم في الضرائب، الدولة ليست فقيرة، ما تحتاج تأخذ من الناس ضرائب، ويزيد عليهم في الخراج، فلما قرأ الرسالة رسوله إليهم جمع الناس وبدأ يقرأ: فإن الأمير نوحاً بنَ أسد فإنه قد زاد عليكم في الخراج. فلما انتهى قام إليه الفقيه بن منصور، قال له: قد بلغت رسالة الأمير إلينا، فبلغ رسالتنا إليه. قال: هات رسالتك. قال: احفظها. رسالتنا مختصرة لا نحتاج نعطيك إياها في ورقة. قال: فما هي؟ قال: قل له: زد علينا في الظلم لنزيد عليك في الدعاء! قال: فرجع إلى الأمير، قال: فما مضى بعد ذلك شهر حتى قبض على الأمير وسجن وسحل على الأرض حتى مات مقطعا! (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ).

عبر وعظات ينبغي للإنسان أن يقف عندها وأن ينظر في شانها وأن يتدبر، ليس فقط أن يفرح بما يصيب الظالم، كلا؛ بل أن يخشى من أن يكون هو أيضا وقع في شيء من هذا الظلم.

نسأل الله -تعالى- أن يعيذنا من الظلم وأهله، وأن ينتصر لنا من جميع الظالمين.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، وصلِّ الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه، وعلى من سار على نهجه واقتفى بأثره واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد: أيها الإخوة الكرام: فكما ربنا -جل في علاه- قد حرم الظلم وتوعد الظالمين فإنه -جل وعلا- أمر بنصرة المظلومين، أمر بنصرتهم من خلال الوقوف معهم بالقوة والجسد، وأمر بنصرتهم من خلال الكتابة معهم، من خلال إيصال صوتهم إلى مَن ظلمهم، من خلال فضيحة الظالمين وإظهار عوارهم وكشف أستارهم، فإنه ينبغي أن يحارب الظلم بقدر المستطاع حتى يرفعه الإنسان عن هؤلاء المظلومين.

وينبغي أيضا أن يقتدي الإنسان بما كان يفعله النبي -عليه الصلاة والسلام- من الدفاع عن المظلوم حتى لو كان بين يديه، صلوات ربي وسلامه عليه.

ألم تر أن الأعرابي كان يحرّج على النبي -عليه الصلاة والسلام- مطالبا بحقه، ولما نهره الصحابة قال -عليه الصلاة والسلام-: "هلا مع صاحب الحق كنتم؟" يعني: لماذا تدافعون عني أنا الذي أخذت ماله، وإن كان ليس ظلما من النبي -عليه الصلاة والسلام- لكنه -صلى الله عليه وسلم- يعلم أن لصاحب الحق مقالة.

وربما ابتلي بعض الظالمين في جسده بأمراض، وابتلي في أولاده بعقوق، وابتلي بفضيحة، وابتلي في عرضه، يحتال أحد على ابنته، أو يحتال على زوجته، ويقول أحيانا في نفسه: يا أخي أنا أولادي لا أدري لماذا هم فاسدون، لماذا هم لي عاقون؟ يا أخي لماذا كلما عالجت مرضا من جسدي ظهر لي مرض آخر؟ يا أخي لا أدري لماذا تجاري أنا غير موفق فيها؟ يا أخي لماذا المشاكل كثيرة علي؟!

يقول: نامت عيونك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم، ربما دعوا عليك فأصابك الله في عرضك أو أصابك في جسدك أو أصابك في مالك أو أصابك في ولدك، رُد المظالم إلى أهلها والله ليس غافلا عنك.

وقد بين النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أن امرأة دخلت النار في هرة! ليس لأنها ظلمت فقيرا له عيال، ولا ظلمت امرأة مسكينة، أو ظلمت طفلا صغيرا، أو ظلمت شعبا بأكمله؛ لا، فقط في هرة! حبستها، لا هي أطعمتها، ولا تركتها من خشاش الأرض. يقول -عليه الصلاة والسلام-: "فلقد رأيت صاحبة الهرة والهرة في النار تخمشها"، الهرة التي حبستها في النار تخمشها.

منا يا جماعة اللي يظلم إنسان ويرجع إلى أولاده ويقول يا عيالي كاد لي فلان ففصلت من وظيفتي، يا عيالي كاد لي فلان فصارت لي مشكلة في الجوازات أو في الإقامة، أو جاءني ترحيل، يا عيالي..

ثم يقوم هؤلاء الصغار الذين لم تتدنس قلوبهم ولا أيديهم بمعصية يدعون على الذي ظلم أباهم، وهو متنعم في زوجه وولده ولا يدري أن الرحمان يكيد كيدا.

انتبه! لا تكون أنت من الظالمين، لا نريدها -أيها الناس- أن تكون معلومات فقط نحفظها، انتبه أن تكون من الظالمين أولا، ثم ارفع الظلم عن أخوانك بقدر استطاعتك، وقِف مع المظلوم وانصره ولو بلسانك، وادعُ على الظالمين الذين أكلوا الناس في حقوقهم، وظلموا شعوبهم، وضيقوا عليهم.

ينبغي أن ندعو عليهم، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: "واتقوا دعوة المظلوم".

أسأل الله -تعالى- أن يرينا عجائب قدرته في الظالمين، أسأل الله أن يضرب الظالمين بالظالمين، وأن يخرجنا من بين أيديهم سالمين...

 

 

 

 

 

 

 

المرفقات

تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات