ولا تحاسدوا ولا يغتب بعضكم بعضا

الشيخ أحمد بن ناصر الطيار

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ وصية نبوية عظيمة 2/ مساوئ الغيبة وأضرارها 3/ دوافع الغيبة وأسبابها 4/ ذم الغيبة في القرآن والسنة 5/ ذم الحسد والتحاسد 6/ سبل التخلص من الغيبة.

اقتباس

الغيبة مرض فتَّاك يسري في المجتمع، بل هي بين الناس كالفاكهة التي يأكلونها، ويتلذذون بها، بعض الناس لا يعيش إلا عليها، يتكلم في فلان، ويتعرض لفلان، ويتهم فلانًا، ويسيء إلى فلان، وهذه الأمور لا يعيش عليها إلا الجراثيم لا يعيش عليها من الناس؛ إلا كما تعيش الجراثيم في مستنقع الماء. فاحذروا -يا عباد الله-، احذروا من التعرض لإخوانكم ولأقاربكم ولأصدقائكم ولجيرانكم...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمداً عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.

 

 أما بعد فاتقوا الله عباد الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

 

عباد الله: حرم الله -جلا وعلا- الظلم على نفسه، وجعله بين العباد محرمًا، فقال ربنا -جلا وعلا- كما جاء في الحديث القدسي قال الله -جلا وعلا-: "إني حرمت الظلم على نفسي فلا تظالموا".

 

أيها المؤمنون: يقول ربنا -جلا وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ) [الحجرات: 11].

 

 ويقول ربنا -جلا وعلا- محذراً عن الغيبة ومصورًا لها بأبشع الصور: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) [الحجرات: 12].

 

روى أبو هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أتدرون ما الغيبةُ؟" قالوا: اللهُ ورسولُه أعلمُ. قال: "ذكرُكَ أخاكَ بما يكرهُ" قيل: أفرأيتَ إن كان في أخي ما أقولُ؟ قال: "إن كان فيه ما تقولُ، فقد اغتبتَه. وإن لم يكنْ فيه، فقد بهتَّه" (رواه مسلم).

 

 روى أبو هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أتدرون ما المفلِسُ؟" قالوا: المفلِسُ فينا من لا درهمَ له ولا متاعَ. فقال: "إنَّ المفلسَ من أمَّتي، يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مالَ هذا، وسفك دمَ هذا، وضرب هذا. فيُعطَى هذا من حسناتِه وهذا من حسناتِه. فإن فَنِيَتْ حسناتُه، قبل أن يقضيَ ما عليه، أخذ من خطاياهم فطُرِحت عليه. ثمَّ طُرِح في النَّار" (رواه مسلم).

 

أيها المؤمنون: الغيبة مرض فتَّاك يسري في المجتمع، بل هي بين الناس كالفاكهة التي يأكلونها، ويتلذذون بها، بعض الناس لا يعيش إلا عليها، يتكلم في فلان، ويتعرض لفلان، ويتهم فلانًا، ويسيء إلى فلان، وهذه الأمور لا يعيش عليها إلا الجراثيم لا يعيش عليها من الناس؛ إلا كما تعيش الجراثيم في مستنقع الماء.

 

 فاحذروا -يا عباد الله-، احذروا من التعرض لإخوانكم ولأقاربكم ولأصدقائكم ولجيرانكم.

 

احذر أيها التلميذ أن تتعرض لأساتذتك.

واحذر أيها المصلي أن تتعرض لإمام مسجدك.

 

 واحذر أيها المسلم أن تتعرض لعلماء بلدك، واحذر أن تتعرض لولاة أمرك، فهذا منكر عظيم وهو كبيرة من كبائر الذنوب، وأقوام من الناس غلبتهم ألسنتهم فصاروا يقعون في أعراض الناس، وما علم هؤلاء أنهم سيُوقَفون بين يدي الله، ويُسألون عن كل كلمة قالوها وصدق الله العظيم: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:  18].

 

 وقال ربنا -جلا وعلا-: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه) [الزلزلة: 7, 8].

 

 فيا أيها الأخ الكريم: احرص على أن تضبط لسانك فلا تقول به إلا خيرًا، ليشهد عليك يوم العرض على الله، يوم أن يختم على الأفواه، ويقال للجوارح انطقي، فتنطق العين بما نظرت، والأذن بما استمعت، واللسان بما تكلم، والفرج بما فعل، والبطن بما أكل، ويوم ذاك يُسر المؤمنون الصادقون يُسَرّ الذين حفظوا جوارحهم.

 

وأما أولئك الذين أطلقوا لألسنتهم العنان فتكلموا في الناس، فأولئك الويل لهم؛ لأنهم وقعوا في أعراض الآخرين، فسيؤخذ من حسناتهم لهم يوم القصاص بين الخلائق يوم أن تجتمع الخصوم، ويقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء.

 

أخي المبارك! وإذا أردت أن تعرف هل هذه الكلمة في مصلحتك أو لا، فتذكر أن أخاك خلف الجدار يستمع لما تقول، فماذا أنت قائل، تذكر أخي الكريم لو أنك كنت مكانه وهو مكانك ماذا يسرك أن يقول عنك، وتذكر قول الحبيب -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي يرويه أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "لا يُؤمِنُ أحدُكم حتى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنَفْسِه" (رواه البخاري).

 

وقول الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: "مثل الْمُؤمنِينَ فِي توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كَمثل الْجَسَد الْوَاحِد إِذا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْو تداعى لَهُ سَائِر الْجَسَد بالحمى والسهر" (رواه البخاري, ومسلم).

 

لقد قالت عائشة كلمة خفيفة صغيرة، قالتها في حق إحدى النساء نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: "حسبك من صفية أنها قصيرة"، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "لقد قلت كلمة لو مُزجت في ماء البحر لغيرته".

 

عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت قلتُ للنبيِّ: "حسبُك مِن صفيةَ - زوجِ النبيِّ - كذا وكذا"- تعني! إنها قصيرةٌ - فقال النبيُّ: "لقد قلتِ كلمةً لو مُزِجتْ بماء البحرِ لَمَزَجتْه" (رواه أبو داود وصححه الألباني).

 

الله أكبر! كم نتكلم في أعراض إخواننا صباح مساء كم نتهمهم ونسيء إليهم، وانظروا إلى هذه الكلمة البسيطة الصغيرة القليلة، "إنها قصيرة"، وهي قالت شيئًا واقعيًّا، لكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حمايةً لأعراض المؤمنين والمؤمنات، قال: "لقد قلت كلمة لو مزجت بالبحر لغيرته".

 

أيها المؤمنون: كم يسخر بعض الناس من الآخرين فتجد مجلسه عامرًا بالقيل والقال، والغيبة والاستهزاء والسخرية، وما علم هذا المسكين أنه يُعطي من يتكلم فيه من حسناته، ولذا قال بعض التابعين: "لو كنت متكلمًا في أحد لتكلمت بوالدي؛ لأنهم أحق الناس بحسناتي".

 

واستمعوا -رعاكم الله- إلى هذه القصة التي قالها لي شيخ كبير طاعن في السن وذلك عام 1407هـ حينما خطبتُ عن قول الله -جلا وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) [الحجرات: 12].

 

فلما قلت: إن الله -جلا وعلا- حرَّم الغيبة، وجعل من يتكلم في عرض أخيه كانه ينزع من لحمه كأنه يأخذ من لحمه وهو ميت، لما نزلت من المنبر وصلينا وبعد أن صليت أخذ بيدي هذا الشخص على جنب، وقال: أنت تقصدني في الخطبة، قلت: لا والله، وما علمت أنك صليت معي، فبكى بكاءً شديداً، ثم جثا على الأرض، ثم جلست معه قال: "يا ولدي رأيت في المنام قبل سنوات أني أنا وثلاثة معي، وكنا نتكلم في شخص من أهل السوق، فلما جاء آخر الليل، رأيت في المنام أنه أُحضر لنا في صحن كبير يحمله عدد من الرجال لا أراهم، ولكنى أسمع أنهم يقولون: كلوا، فأنزلوا الصحن، وإذا فيه صاحبنا عاريًا ممددًا على الصحن وهو ميت، فقلت في نفسي كيف آكل من هذا اللحم، واقشعر جلدي، فنهرني واحدٌ لا أراه، وهو يقول: كُلْ فمزعت مزعة من اللحم، فوالله، ثم والله إني أجد طعمها اليوم".

 

ولما سمعت الخطبة تذكرت هذه الرؤيا وبعدها والله يا ولدي ما تكلمت في عرض مخلوق إلى اليوم، لكن خشيت أنك تقصدني في الخطبة، فقلت له: لا والله، ولكن أحمد الله واشكره أن الخطبة لامست شغاف قلبك أنت وغيرك ممن حضروا، أسأل الله -جلا وعلا- أن يحفظ ألسنتنا وأبصارنا وأسماعنا وبطوننا وفروجنا من الحرام كما أسأله سبحانه أن يتم علينا الأمن والأمان، هذا واستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...

 

أما بعد: فاعلموا رحمكم الله أن من أعظم ما يبعث على الغيبة، ويجعل الناس يتكلمون في الآخرين الحسد الذي أكل قلوب بعض الناس فدفعهم لأن يتكلموا في فلان أو فلان يحسدون فلانًا على ما آتاه الله من العلم، ويحسدون فلانًا على ما آتاه الله من المال، ويحسدون فلانًا على ما آتاه الله من المنصب، ويحسدون فلانا على ما آتاه الله من الولد، ويحسدون فلانًا على ما آتاه الله من بسطة في الجسم، فيدفعهم ذلك إلى الحسد والحديث فيه، والكلام، وربنا -جلا وعلا- نزَّه قلوب الذين يدخلون الجنة من الحسد (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ) [الأعراف: 43].

 

فالمسلم الحق هو الذي يكون سليم الصدر، قرير العين، هادئ النفس لا يتعرض لأحد، ولهذا لما قيل لبعض التابعين: نراك تجلس في المجلس ولا تتكلم، فقال: علمت أن كل كلمة مسجلة عليَّ، فأردت أن يكون السكوت شعاري.

 

فإذا كان الكلام من فضة، فإن السكوت من ذهب، وكم كلمة قالت لصاحبها: دعني، فو الله يا أحبابي إن ما يقع في قلوب بعض الناس من الحسد لإخوانهم هذا مرض فتاك ينخر في جوف المجتمع فيتفكك بناؤه، وتنهدم لبناته وإلا فالمجتمع ينبغي أن يكون قوي البناء سليماً متماسكا.

 

 فاحرصوا بارك الله فيكم على غسل قلوبكم من الحسد والبغضاء والكراهية والحقد، ولتكن صدوركم عامرة بالإيمان والتقوى ومحبة الآخرين، وليكن الشعار عندكم "لا يُؤمِنُ أحدُكم حتى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنَفْسِه"، وليكن الميزان الذي تتفاضلون فيه قول الله -جلا وعلا-: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13].

 

أيها المؤمنون: قال الحبيب -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي يرويه عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه-: "لا حسد إلا في اثنتيْنِ: رجلٌ آتاه اللهُ مالًا، فسلَّطَه على هَلَكَتِه في الحقِّ، وآخرُ آتاه اللهُ حكمةً، فهو يَقضي بها ويُعلِّمُها" (رواه البخاري).

 

ويلحق بهما كل من يبذل في مناشط الخير المختلفة، فاحرصوا بارك الله فيكم على حفظ ألسنتكم من القيل والقال، وذكر الناس بما فيهم أو ليس فيهم؛ لأن الحساب عسير، والميزان دقيق ومثاقيل الذر ستحاسبون عليها.

 

أسأل الله -جلا وعلا- أن يحفظ علينا أسماعنا وأبصارنا، وأن يتم علينا وعلى بلادنا وعلى ولاة أمرنا الأمن والأمان والسلامة والإسلام، واعلموا بارك الله فيكم أن الغيبة والسخرية تعظم إذا كان المتكلم فيه من أهل الخير والفضل والحسبة، فمثلاً ولاة الأمر والعلماء ورجال الحسبة والأمراء والمسئولين غيبتهم أعظم وأشد، فاحذروا بارك الله فيكم، وإذا جلستم في مجلس وتحدث أحد في أحد فاحرصوا على وعظه والإنكار عليه؛ فإن لم يستجب فاهجروا المجلس واتركوه.

 

هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك، فقال جل من قائل عليماً: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب: 56].

 

 

 

المرفقات

تحاسدوا ولا يغتب بعضكم بعضا

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات