عناصر الخطبة
1/ المقصود بقوله: (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ) ومقتضياتها ومقاصدها 2/ المقصود بقوله: (لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) ودلالاتها ومقتضياتها ومقاصدهااقتباس
(الْقَيُّومُ) الذي قام بنفسه، وعظمت صفاته، واستغنى عن جميع مخلوقاته. ومن كمال حياته وَقَيُّومِيَّتِهِ -سبحانه-: أنه (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ)؛ لأن السِّنَةَ والنومَ عارضان يَعْرِضَانِ للمخلوق الذي يجري عليه الضعف والعجز والانحلال، يَعْرِضَانِ لمن كان...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائم على كل نفس بما كسبت، والرقيب على كل جارحة بما اجترحت، والمتفضل على عباده بنعم توالت وكثرت، سبحانه لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض تحركت أو سكنت.
وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، الذي تمَّت ببعثته النبوة وختمت، وسطعت به أنوار الشريعة وكملت، وعلت به راية الملة وارتفعت، فاللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
معاشر عمار بيت الله: ما زال حديثنا متواصلاً مع أعظم آية في كتاب الله: آية الكرسي: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [البقرة: 255]، ومع الدرس الخامس منها، ومع قوله سبحانه: (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) [البقرة: 255].
(لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ) السنة هي ابتداء ومقدمة النوم، فالله -جل جلاله-: (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ) أي لا يغلبه ابتداء النوم ولا مقدماته.
وبما أن الله -جلا وعلا- من أسمائه: (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) فهو موصوف بحياة أزلية لا بداية لها، وأبدية لا نهاية لها، حياةٍ كاملة دائمة ليس لها انقطاع ولا زوال، فهو الحي الباقي الدائم، الذي لا أول له بحد ولا آخر له بأمد.
(الْقَيُّومُ) القيوم الذي قام بنفسه وعظمت صفاته واستغنى عن جميع مخلوقاته.
ومن كمال حياته وَقَيُّومِيَّتِهِ -سبحانه-: أنه (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ)؛ لأن السِّنَةَ والنومَ عارضان يَعْرِضَانِ للمخلوق الذي يجري عليه الضعف والعجز والانحلال، يَعْرِضَانِ لمن كان موصوفا بالنعاس والنوم، موصوفا بالتعب والمرض، موصوفا بالضعف والنقص، موصوفا بالموت والهلاك، ولا يَعْرِضَانِ للحي القيوم ذي العظمة والكبرياء والجلال.
فالنُعاس أو النوم صفةُ نقصٍ، صفة لازمة للمخلوقِ يحتاجُ إليها لضعفه وعجزِه، أما الرب -جل وعلا- فكاملٌ في ذاته وأسمائه وصفاتِه، لا تعتريه الغفلة ولا النعاس ولا الذهول ولا النوم، بل هو قائم على كل نفس بِما كسبت، شهيد على كل شيء، لا يغيب عنه شيء ولا تخفى عليه خافية، قال سبحانه: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [يونس: 61].
روى مسلم عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: "قام فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخمس كلمات، فقال: "إن الله -عز وجل- لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفَع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبُحاتُ وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه".
فسبحان الله ما أعظمه؟ فهو سبحانه وتعالى الحي القيوم لا ينام ولا ينبغي له أن ينام: (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ) وهذا تأكيد لقيامه سبحانه على كل شيءء، وقيام كل شيء به.
تأكيد في صورة تعبيرية تقرب للإدراك البشري صورة القيام الدائم، وفي الوقت ذاته تعبر هذه الصورة عن الحقيقة الواقعة من مخالفة اللّه -سبحانه وتعالى- لكل شيء: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى: 11].
وحقيقة القيام على هذا الوجود بكل ما فيه صغيره وكبيره، بل بكل جزئياته في كل وقت وفي كل مكان، حقيقة هائلة حين يحاول الإنسان تصورها، وحين يَسبَح بخياله المحدود مع ما لا يُحصيه من الذرات والخلايا والخلائق والأشياء والأحداث في هذا الكون الهائل، ويتصور بقدر ما يملك من إدراك عقلي قيام اللّه –سبحانه- عليها وتعلقها في قيامها باللّه وتدبيره، إنه أمر لا يتصوره الإدراك الإنساني، وما يتصوره الإنسان هو يسير هائل يحير العقول.
(لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ) [البقرة: 255] جملة تريحك وتشعرك بالأمان والأمان.
فأنت -أيها الإنسان- طوال حياتك تحت حماية الرحمن وإحاطته، فهو رب عظيم لا ينسى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) [مريم: 64].
ولا ينام؛ كما قال الحبيب النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام"، تجده عندما تلجأ إليه وتدعوه، عليم بحالك محيط بكل ما حولك، خلق السموات بغير عمد، وبسط الأرض كالمهاد، وجعل لها من الجبال الأوتاد: (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) [الزمر: 5].
وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه الواحد
قال ربنا -سبحانه-: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الطلاق: 12].
فالكون كله بما فيه وبمن فيه له جل جلاله وفي مُلكه وفي قبضته.
فالجميع عبيده فلماذا يتكبرون؟ الجميع في ملكه فلماذا على معصيته يجترئون؟ الجميع تحت قهره وسلطانه فلماذا يظلمون؟ (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) [مريم: 93 - 95].
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبي المجتبى.
(لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) [البقرة: 255]، (لَّهُ) اللام، لام المُلك، فله الملك خلقا وتصرفا ومصيرا، أما أنت كإنسان فقد تملك بيتا ولا تنتفع به، وقد تنتفع به ولا تملكه، فمِلكك لهذا البيت مِلك ناقص منتهية صلاحيته، ملك نسبي في مكان محدود، وزمن مقيد محدو، غير أنَّ الله -سبحانه وتعالى- مُلكه دائم: (لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) فلا يمكن أن يقع شيء في مُلكه إلا بإرادته، وإرادة الله متعلقة بالحكمة المُطلقة، وحكمته المطلقة متعلقةٌ بالخير المطلق، فالأمر بيده: (لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) اختص بالملك المطلق مما يجعل العبد يحتقر ملكه مهما بلغ أمام ملك الله –تعالى-.
(لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) فكم في هذا التعبير من فوائد ومقاصد لو تأملناها وفهمناها وعملنا بما تقتضيه وتدل عليه، لارتاحت القلوب، وانشرحت الصدور، وعمت السكينة النفوس، فمن مقاصدها ومدلولاتها: التوحيد بكل أنواعه وأقسامه، فالملك الحق للسموات والأرض وما فيهن لله العلي القدير، انفرد سبحانه بالملك وحده، فمن ذا غيره يملك السموات والأرض؟ قال سبحانه: (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [المؤمنون: 84]، فهو سؤال عن ملكية الأرض ومن فيها: (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) [المؤمنون: 85]، ولكنهم مع ذلك يتوجهون بالعبادة لغير الله: (قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) [المؤمنون: 85].
(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [المؤمنون: 86]؟ فهو سؤال عن المدبر المتصرف في السموات السبع والعرش العظيم: (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ)، ومع ذلك لا يخافون صاحب العرش ولا يتقون رب السموات السبع ويشركون معه غيره: (قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ) [المؤمنون: 87]؟
(قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [المؤمنون: 88]؟ سؤال عمن بيده ملك كل شيء، ملك الاستعلاء والسلطان، الذي يجير بقوته من يشاء فلا يناله أحد، ولا يملك أحد أن يجير عليه: : (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) يقولون ذلك وينصرفون عن عبادة الله؟ فما للعقول تنحرف وتتخبط كالذي مسه السحر: (قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ * بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [المؤمنون: 89 - 92].
فتأمل معناها ينكشف لك الحجاب عن مبناها، وتدلك على أن المالك للسموات والأرض وما فيهن هو الحقيق بأن ترفع إليه الحاجات، هو القادر على أن ينفعك أو يضرك، القادر على أن يمنحك أو يمنع عنك، القادر على أن يخفضك أو يرفعك، القادر على أن يُعزك أو يُذِلك، القادر على أن يغنيك أو يُفقرك، لا إله إلا هو استحق التوحيد كل الاستحقاق، فلا تسأل ولا تطلب غيره، ولا تَخَفْ ولا تخشَ غيره، ولا ترجُ غيره، ولا تتوكل إلا عليه، ولا تستعن ولا تتوسل إلا به، ولا تفوض أمرك إلا له.
وتيقن -أيها الإنسان- أن الحكيم المدبر لهذا الكون لم يخلقه ولم يخلقك عبثا، ولن يتركه أو يتركك سدى، فإليه المرجع والمعاد، وتذكر أن يوما ما ستمضي إليه، وستقف بين يديه وسيسألك عن الأمانة في عبادته، وفيما ولاك عليه، فجهز الجواب، وليكن نصب عينيك أنه شديد العقاب، سريع الحساب، ولا يغب عن قلبك أنه يفتح رحمته لكل من طرق بابه وخشيه وخاف عقابه وانطرح بين يديه راجيا ثوابه، فأكثر من قرع الباب، وابذل لنجاتك ما استطعت من الأسباب، فالمالك للسموات والأرض المتصرفُ فيهما كيف يشاء، غفور تواب.
ومن مقاصدها: إذا دعوت الله بشيء استشعرْ بأن الله غني جواد كريم: (لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) [البقرة: 255] ادع من بيده ملكوت كل شيء سبحانه وتعالى، استسلم له، اخضع له جل جلاله ولا تخضع لغيره، لا تخضع لأي إنسان مهما كان شأنه ومقامه ومكانته، ومهما بلغت قوته؛ لأن الذين تستسلم وتنقاد وتخضع لهم من دون الله الواحد الأحد، كلهم في ملك الله أذلاء فقراء، محتاجون لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا.
ومن مقاصد قوله تعالى: (لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) الحث على الكرم والسخاء والجود، فقد كان صلى الله عليه وسلم يُعطي عطاءَ من لا يخشى الفقر، وما ذلك العطاء منه صلى الله عليه وسلم إلا لأنه يوقن بأن لله ما في السموات وما في الأرض، وأن خزائنه ملأى لا تنقصها النفقة ولا العطاء، فأنفق -يا عبد الله- واعط مما أعطاك الله، وجد على الناس، فمولاك يملك السموات والأرض وما فيهما وما بينهما، وهو القائل في الحديث القدسي: "أنفق يا ابن آدم أنفق عليك"، ف "أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا".
ومن ثمرات قوله تعالى: (لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) فمتى علمت -أيها العبد- أن لله ما في السموات وما في الأرض لن يدخل قلبك الحسد، فالملك لله وحده، يُعطي ويمنع، فمن أعطاه الله شيئا فمن مُلكه، ومن منعه الله شيئا فبعلمه وحكمته، وهذا من أنجع الأدوية للحسد، إذ أن الحسدَ مبني على الاعتراض على حكمة الله –تعالى- في المنع والعطاء.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم