اقتباس
إن هذه الوقفات من فقه استيعاب الشباب خاصة في وقت المحن؛ لابد لنا من الاسترشاد ببوصلتها إلى طريق الحق، حتى لا تزلَّ قدمٌ بعد ثبوتها، ونحن اليوم نرى من بشاعة سوء الفهم ما ضيعنا به شباب الدعوة، حتى تلقفتهم طرقات الباطل، واستوعبتهم صدور الانحراف..
يوما بعد يوم يزداد الأسى في قلبي، حتى كاد أن ينفطر، أرى الريح تأخذ سفينتنا إلى مكان سحيق، وأبصر رفاقي يسلكون دروب التيه، وآذانهم صماء، وعيونهم عميت عن هدي سيد الأنبياء -صلى الله عليه وسلمَ-.
وأصرخ فيهم: ألا أدلكم على فقه الاستيعاب؟ ففيه طريق الخلاص، وبه تلتئم الجراح، ونحفظ ألسنتنا عن القيل والقال.
إن هذه الوقفات من فقه استيعاب الشباب خاصة في وقت المحن؛ لابد لنا من الاسترشاد ببوصلتها إلى طريق الحق، حتى لا تزلَّ قدمٌ بعد ثبوتها، ونحن اليوم نرى من بشاعة سوء الفهم ما ضيعنا به شباب الدعوة، حتى تلقفتهم طرقات الباطل واستوعبتهم صدور الانحراف.
الوقفة الأولى: وكأني أرى النبي -صلى الله عليه وسلمَ- يستوعب جموع من أمته حديثي عهد بالإسلام، يطلبون منه ما نهى عنه بعد أن خرجوا معه في طريقهم إلى حنين، وللمشركين سدرة يعكفون عليها، ويعلقون عليها أسلحتهم تبركاً، يقال لها: ذات أنواط، فقالوا: يا رسول الله اجعل لنا: "ذات أنواط" كما لهم "ذات أنواط؟"، فقال رسول الله: "سبحان الله! الله أكبر! قلتم كما قال قوم موسى لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة" قال: "والذي نفسي بيده لتركبنّ سنة من كان قبلكم"، فانظر كيف استوعبهم النبي -صلى الله عليه وسلمَ- منكرا عليهم الشرك بالله، لكنه أرشدهم وأوضح لهم مبينا القضية، وأن ما وقعوا فيه هو عين ما زلت فيه بني إسرائيل.
فإذا وقع ذلك من أولئك الأخيار ورسلهم بين ظهرانيهم، فكيف يُستبعد أو يُنكر وقوعه ممن هو دونهم في كل فضيلة وكل علم وكل دين؟
وتأمل معي شيئا من فقه الاستيعاب في أمر هو لب هذا الدين وأصله ألا وهو التوحيد، وكيف أن النبي -صلى الله عليه وسلمَ- عالج جهلهم بالعلم، حتى صاروا علماء الأمصار وقادة الدين الأخيار.
الوقفة الثانية: من وقفات فقه الاستيعاب للمخالف حتى لو كان منافقا نفاقا أكبر، ما فعله النبي -صلى الله عليه وسلمَ- مع عبد الله بن أبي بن سلول ومنع الصحابة من قتله، رغم طعنه في النبي -صلى الله عليه وسلمَ- وقال: "لا يتحدث الناس إنه كان يقتل أصحابه" أي لا تفعل حتى لا يترنم النّاس في ذلك فيقولوا إنه كان يقتل أصحابه إذ لا يعلمون أحقية القتل لمثله، حرصا على وحدة الصف من البلبلة والقيل والقال.
إن من فقه المحن استيعاب الشباب العاملين لدين الله، المبتغين للحق مهما كانت مشاربهم ومهما شطحت بهم آراؤهم.
وشبابنا اليوم هم في أشد الحاجة لفقه جديد في التعامل، يستقي من هدي النبي -صلى الله عليه وسلمَ- وليس من الرؤية التنظيمية الجامدة.
الوقفة الثالثة: لهذا الذي من نسله الخوارج، يأتي للنبي -صلى الله عليه وسلمَ- وهو يعطي الناس فقال: "يا محمد اعدل"، قال: "ويلك ومن يعدل إذا لم أكن أعدل، لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل"، فقال عمر بن الخطاب -رَضي الله عنه-: "دعني يا رسول الله أقتل هذا المنافق؟"، فقال: "مَعَاذَ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابه يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية"، فرغم علم النبي -صلى الله عليه وسلمَ- أنه سيخرج من نسله الخوارج، لكنه استوعبه؛ لأن في استيعابه مصلحة عليا بثبات الصف وتماسكه وعدم تشويه صورته.
واليوم لا يتحمل بعض القادة العاملين لدين الله مجرد المخالفة في الرأي، فيشنون حربا شعواء على مخالفيهم دون مراعاة لمفسدة أن هذا المخالف من أصحابك، ومن ثمرة دعوتك وتربيتك التي لو انتقصت مخالفك فيها، فإنه حتما مردود عليك، ألا فاستوعبوهم -يرحمكم الله-.
الوقفة الرابعة: تتردد في أذني مقولة الفتى الشاب الذي أتى النبي -صلى الله عليه وسلمَ- ـ فقال: "يا رسول الله، ائذن لي بالزنا؟!"، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: "مه مه"، فقال: ادنه، فدنا منه قريبا، قال: فجلس، قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، وتكرر السؤال: أفتحبه لابنتك؟ أفتحبه لأختك؟ أفتحبه لعمتك؟ أفتحبه لخالتك؟ وهو يكرر نفس الرد في كل مرة، فوضع يده عليه وقال: "اللَّهمّ اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحَصِّنْ فرْجَه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء، فلم يكن شيء أبغض إليه منه (الزنا)، فتأمل فقه الاستيعاب في أمر معلوم من الدين، وليس محل نقاش أو اجتهاد، ولو أن أحد دعاة الغفلة اليوم جاءه شاب وقال له ذلك، ما تظن أن يفعل به؟! فليتأمل الغافلون عن فقه الاستيعاب لشبابنا؛ كيف يطردوهم وكيف يكبتوهم لمجرد المخالفة في الرأي والانتقاد؟ ألا فليدرك أصحاب الدعوات أن دعواتهم غير معصومة، وأنهم بغير فقه الاستيعاب للخلاف، ستصبح دعواتهم مهجورة؟
الوقفة الخامسة: قف معي عند هذا الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن جابر قال: "غزونا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- وقد بات معه أناس من المهاجرين ومنهم رجل لعاب كسع أنصاريا، فغضب الأنصاري غضبا شديدا وقال: يا للأنصار! وقال المهاجر: يا للمهاجرين! فخرج رسول الله فقال: "ما بال دعوى الجاهلية"، ثم قال: ما شأنهم؟ فأخبر بما حدث، فقال: "دعوها فإنها خبيثة".
ولينصر الرّجل أخاه ظالما كان أو مظلوما، أي إن كان ظالما فلينهه فإنه له نصر، وإن كان مظلوما فلينصره.
انظر -رحمك الله- كيف أن النبي -صلى الله عليه وسلمَ- استوعب الحدث على خطورته، فاستمع للطرفين، مبينا خطورة العصبية وضرورة الرجوع للحق، وأن ما يحدث بين الرفقاء في الدرب شيء طبيعي لابد من ضبطه بفقه الاستيعاب لكلا الطرفين، بلا تأنيب ولا تثريب فلا بأس طالما نحن على الخير ونبتغي الخير.
الوقفة السادسة: بعد صُلح الحديبية والصحابة قد علتهم كآبة الرجوع دون أن يدخلوا مكة بسبب الصلح، ورسول -صلى الله عليه وسلمَ- يأمرهم أن ينحروا هديهم، فتلكأوا، فدخل الرسول -صلى الله عليه وسلمَ- على أم سلمة قال: "هلك القوم، هلك هؤلاء عصوني"، قالت: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "قم وانحر هديك واحلق شعرك هم يتبعونك"، فقام وحلق ونحر فتبعه الصحابة، فلما رأى المسلمون ما صنع النبي -صلى الله عليه وسلمَ- قاموا عجلين ينحرون هديهم ويحلقون حتى كاد بعضهم يقتل الآخر لفرط الغم من التأخر في تنفيذ أمر النبي -صلى الله عليه وسلمَ-.
انظر لفقه الاستيعاب في هذه الحالة من التأخر الجماعي عن تلبية الأمر، وكيف كان النبي -صلى الله عليه وسلمَ- قدوة في استيعاب حماستهم التي لم تكن إلا غيرة على الدين؟
وإن حدثا جلل قد اتخذ فيها القادة قرارات لهي أشد وطأة من صلح بُشرَ بعده النبي -صلى الله عليه وسلمَ- بنصر، فلما تعرضوا للنقد ولو جزئيا ما طاقت نفوسهم وما استوعبوا أتباعهم.
أخيرا: إن فقه الاستيعاب هو الفقه الغائب عن مسيرتنا خاصة في ظل تلاطم الأمواج بالدعاة والمصلحين، وفي أوقات اشتد فيها بطش الأنظمة المستبدة على الثائرين، فهاجروا في أرض الله الواسعة كل يأمل فيمن يخفف عنه غربته ويؤنسه في وحشته.
أخيراً: إن من فقه المحن استيعاب الشباب العاملين لدين الله، المبتغين للحق مهما كانت مشاربهم ومهما شطحت بهم آراؤهم.
وشبابنا اليوم هم في أشد الحاجة لفقه جديد في التعامل، يستقي من هدي النبي -صلى الله عليه وسلمَ- وليس من الرؤية التنظيمية الجامدة.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم