اقتباس
فإذا كان ممن تجب عليه الجمعة ولم يكن بإمكانه إدراك الجمعة في مسجد آخر في المدينة التي يقيم بها ففرضه حينئذ ما قام به من صلاة الظهر بدلاً عن الجمعة اتفاقاً،...
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آلة وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
وقت صلاة الظهر يبدأ من زوال الشمس عن كبد السماء إلى جهة الغرب، ويمتد إلى أن يصير ظل كل شيء مثله، من غير أن يعتد بالظل الذي كان للشخص عند الزوال.
وهذا هو التحديد الشرعي الذي جاء به الوحي من الله -تعالى- لوقت صلاة الظهر، ومن لم تجب عليه الجمعة؛ كالمرأة ونحوها، وأدى صلاة الظهر في أي جزء من هذا الوقت، فهو مصيب وفعله ذلك جائز، سواء كان ذلك أثناء خطبة الجمعة، أو بعدها؛ قال ابن قدامة -رحمه الله-: فأما من لا تجب عليه الجمعة كالمسافر والعبد والمرأة والمريض وسائر المعذورين فله أن يصلي الظهر قبل صلاة الإمام في قول أكثر أهل العلم([1]).
لكن لا تصح صلاة الظهر ممن لزمته الجمعة قبل صلاة الجمعة، ويلزمه السعي إليها، فإن أدركها وإلا صلى ظهرًا، وهو مذهب الجمهور: المالكية، والشافعية، والحنابلة، وهو قول داود. قال النووي-رحمه الله-: الصحيح عندنا أنه لا تصح صلاته-أي صلاة الظهر-، وبه قال الثوري، ومالك، وزفر، وأحمد، وإسحاق، وداود([2]).
قال ابن جزي: من ترك الجمعة لغير عذر وصلى ظهرًا أربعًا فإن كان بعد صلاة الجمعة أجزأه مع عصيانه وإن كان قبلها وجبت عليه الجمعة([3]).
قال النووي -رحمه الله-: قال أصحابنا من لزمته الجمعة لا يجوز أن يصلي الظهر قبل فوات الجمعة بلا خلاف؛ لأنه مخاطب بالجمعة، فإن صلى الظهر قبل فوات الجمعة فقولان مشهوران (الجديد) بطلانها (والقديم) صحتها([4]).
وقال ابن قدامة -رحمه الله-: من وجبت عليه الجمعة إذا صلى الظهر قبل أن يصلي الإمام الجمعة لم يصح ويلزمه السعي إلى الجمعة إن ظن أنه يدركها لأنها المفروضة عليه فإن أدركها معه صلاها وإن فاتته فعليه صلاة الظهر وإن ظن أنه لا يدركها انتظر حتى يتيقن أن الإمام قد صلى ثم يصلي الظهر وهذا قول مالك و الثوري والشافعي في الجديد([5]).
وذلك للأدلة الآتية:
أولا: أن صلاة الجمعة هي المفروضة عليه([6]).
ثانيًا: أنه صلى ما لم يخاطب به، وترك ما خوطب به فلم تصح كما لو صلى العصر مكان الظهر ولا نزاع في أنه مخاطب بالجمعة فسقطت عنه الظهر كما لو كان بعيدًا، وقد دل عليه النص والإجماع ولا خلاف في أنه يأثم بتركها وترك السعي إليها ويلزم من ذلك أن لا يخاطب بالظهر لأنه لا يخاطب في الوقت بصلاتين ولأنه يأثم بترك الجمعة وإن صلى الظهر ولا يأثم بفعل الجمعة وترك الظهر بالإجماع، والواجب ما يأثم بتركه دون ما لم يأثم به وقولهم إن الظهر فرض الوقت لا يصح لأنها لو كانت الأصل لوجب عليه فعلها وأثم بتركها([7]).
ثالثًا: البدل لا يصار إليه إلا عند تعذر المبدل بدليل سائر الأبدال مع مبدلاتها، ولأن الصلاة إذا صحت برئت الذمة منها وأسقطت الفرض عمن صلاها فلا يجوز اشتغالها بها بعد ذلك، ولأن الصلاة إذا فرغ منها لم تبطل بشيء من مبطلاتها فكيف تبطل بما ليس من مبطلاتها ولا ورد الشرع به؛ فأما إذا فاتته الجمعة فإنه يصير إلى الظهر لأن الجمعة لا يمكن قضاؤها لأنها لا تصح إلا بشروطها ولا يوجد ذلك في قضائها فتعين المصير إلى الظهر عند عدمها وهذا حال البدل([8]).
أما من فاتته صلاة الجمعة فيصلى الظهر أربعًا.
ومن الأدلة على ذلك:
أولا: من الإجماع وقد نقل الإجماع على ذلك: ابن المنذر قال -رحمه الله: قال أبو بكر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن من فاتته الجمعة أن يصلي أربعًا([9])، وقال النووي -رحمه الله-: وأجمعت الأمة على أن الجمعة لا تقضى على صورتها جمعة، ولكن من فاتته لزمته الظهر([10])، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-: وقد اتفق المسلمون على أن... الجمعة لا يقضيها الإنسان، سواء فاتته بعذر أو بغير عذر، وكذلك لو فوتها أهل المصر كلهم لم يصلوها يوم السبت([11])، وقال ابن رجب-رحمه الله-: اتفقوا على أنه متى خرج وقت الظهر، ولم يصل الجمعة فقد فاتت ويصلي الظهر([12]).
ثانيا: أن الجمعة لا يمكن قضاؤها؛ لأنها لا تصح إلا بشروطها، ولا يوجد ذلك في قضائها؛ فتعين المصير إلى الظهر عند عدمها، وهذا حال البدل([13]).
لكن هل يصلي الظهر جماعة يوم الجمعة؟
فإذا كان ممن تجب عليه الجمعة ولم يكن بإمكانه إدراك الجمعة في مسجد آخر في المدينة التي يقيم بها ففرضه حينئذ ما قام به من صلاة الظهر بدلاً عن الجمعة اتفاقاً، وأولى إذا كان ممن لا تجب عليه الجمعة كالمسافر، لكن من أهل العلم من يرى كراهة صلاته الظهر جماعة في المسجد الذي أقيمت به الجمعة وهو الصحيح في المذهب الحنبلي، ومنهم من يرى كراهة الجماعة في حال ما إذا لم يأمنوا من أن ينسبوا إلى مخالفة الإمام والرغبة عن الصلاة معه وإلا فلا كراهة حينئذ، بل يسن لهم ذلك، لكن عليهم إخفاؤها إذا لم يكن لهم عذر ظاهر وإلا فلا بأس بإظهار الجماعة، لكن كراهة صلاة الجماعة لا تعني عدم صحة الصلاة.
قال ابن قدامة -رحمه الله-: ولا يكره لمن فاتته الجمعة أو لم يكن من أهل فرضها أن يصلي الظهر في جماعة إذا أمن أن ينسب إلى مخالفة الإمام والرغبة عن الصلاة معه أو أنه يرى الإعادة إذا صلى معه فعل ذلك ابن مسعود وأبو ذر والحسن بن عبيد الله وأياس بن معاوية، وهو قول الأعمش والشافعي وإسحاق وكرهه الحسن وأبو قلابة ومالك وأبو حنيفة لأن زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يخل من معذورين فلم ينقل أنهم صلوا جماعة.
ولنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة"([14]).
وروي عن ابن مسعود أنه فاتته الجمعة فصلى بعلقمة والأسود واحتج به أحمد وفعله من ذكرنا من قبل ومطرف وإبراهيم قال أبو عبد الله: ما أعجب الناس ينكرون هذا فأما زمن النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينقل إلينا أنه اجتمع جماعة معذورون يحتاجون إلى إقامة الجماعة إذا ثبت هذا فإنه لا يستحب إعادتها جماعة في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا في مسجد تكره إعادة الجماعة فيه وتكره -أيضا- في المسجد الذي أقيمت فيه الجمعة لأنه يفضي إلى النسبة إلى الرغبة عن الجمعة أو أنه لا يرى الصلاة خلف الإمام أو يعيد الصلاة معه فيه وفيه افتيات على الإمام وربما أفضى إلى فتنة أو لخوف ضرر به وبغيره وإنما يصليها في منزله أو موضع لا تحصل هذه المفسدة بصلاتها فيه([15])
وفي الفروع لابن مفلح: ولا تكره لمن فاتته أو لمعذور الصلاة جماعة في المصر وفي مكانها وجهان. انتهى. قال ابن تميم وابن حمدان في الرعاية الكبرى: ولمن فاتته أو لم تلزمه أن يصلي الظهر جماعة بآذان وإقامة ما لم يخف فتنة وهل يكره في موضع صليت فيه الجمعة فيه وجهان. انتهى. أحدهما: يكره وهو الصحيح، قال في المغني والشرح وشرح ابن رزين وغيرهم: لا يستحب إعادتها في المسجد الذي أقيمت فيه الجمعة، وعللوه بما يقتضي الكراهة والوجه الثاني لا يكره([16]).
وفرق المالكية بين من فاتته الجمعة بسبب عذر كثير الوقوع كالمرض والسفر وبين من فاتته لغير عذر أو لعذر نادر؛ فقالوا: الأولى الجمع في الحالة الأولى؛ لكن ينبغي إخفاء الجماعة لئلا يتهموا بالرغبة عن الجمعة، وفي الحالة الثانية: يكره لهم الجمع وإن جمعوا لا يعيدون؛ ففي الشرح الكبير على مختصر خليل في الفقه المالكي ممزوجا بنص المختصر: (ولا يجمع الظهر) من فاتته الجمعة أي لا يصليه جماعة، بل أفذاذًا أي يكره جمعه (إلا ذو عذر) كثير الوقوع كمرض وسجن وسفر فالأولى لهم الجمع ويندب صبرهم إلى فراغ صلاة الجمعة وإخفاء جماعتهم، لئلا يتهموا بالرغبة عن الجمعة([17]).
وقال الدسوقي في حاشيته معلقا هنا: احترز بذلك عمن فاتته لعذر يبيح التخلف ويمكن معه حضورها كخوف بيعة الأمير الظالم وعمن فاتته لغير عذر كمن فاتته نسيانا أو عمدا فإنه يكره له الجمع وإذا جمعوا لم يعيدوا على الأظهر خلافًا لمن قال بإعادتهم إذا جمعوا كما في بهرام ابن رشد، لأن المنع لم يرجع لأصل الصلاة، وإنما يرجع لوصفها وهو الجمع فهي مجزئة بأصلها مكروهة بوصفها([18]).
وفي حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء: ويستحب لأرباب الأعذار أن يؤخروا فعل الظهر إلى أن تفوت الجمعة ثم يصلونها جماعة، وقال ابو حنيفة: يكره لهم فعلها في جماعة، قال الشافعي -رحمه الله-: واجب لهم إخفاؤها، لأن لا يتهموا بالرغبة عن صلاة الإمام، قال أصحابنا: هذا يقتضي أن يكون ذلك في حق من يخفي عذره، فأما من كان عذره ظاهرًا فلا يستحب له إخفاؤها، ومن أصحابنا من قال يكره لهم إظهارها بكل حال والمذهب الأول([19]).
وفي الاختيار لتعليل المختار في الفقه الحنفي أيضا: (ويكره لأصحاب الأعذار أن يصلوا الظهر يوم الجمعة جماعة في المصر) لأن فيه إخلالا بالجمعة، فربما يقتدي بهم غيرهم، بخلاف القرى، لأنه لا جمعة عليهم، وقد جرى التوارث في جميع الأمصار والأعصار بغلق المساجد وقت الجمعة مع أنها لا تخلو عن
أصحاب الأعذار، ولولا الكراهة لما أغلقوها([20]).
ومن أدرك ركعته من الجمعة فقد أدرك الصلاة فليضف إليها أخرى لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من أدرك ركعة من الجمعة"، أي: لحق صلاة ركعة مع الإمام، "فقد أدرك الصلاة، فلْيضف إليها أخرى"([21])، أي: فليؤد صلاة ركعة أخرى بعد الأولى، ويضمها إليها، وعليه فمن فاتته الركعتان، فليصل أربعًا، والجماعة شرط في صحتها، فاحتيط لها، ما لم يحتط لغيرها.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
----------
([1]) المغني (2/196).
([2]) المجموع للنووي (4/497).
([3]) القواعد الفقهية لابن جزي (1/88).
(([4] المجموع للنووي (4/497).
([5]) المغني لابن قدامة (2/196).
([6]) المغني لابن قدامة (2/196).
([7]) المغني لابن قدامة (2/196).
([8]) المغني باختصار يسير (2/196).
([9]) الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف (4/107).
(([10] المجموع (4/509).
(([11] منهاج السنة النبوية (5/217، 218).
(([12] فتح الباري (5/420).
(([13] المغني لابن قدامة (2/196).
([14]) رواه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (1/165) رقم: (646).
([15]) المغني لابن قدامة (2/199).
([16]) الفروع (2/76).
([17]) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (3/477).
([18]) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (3/479).
([19]) حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء للقفال (2/87).
([20])الاختيار لتعليل المختار لعبدالله الموصلي الحنفي (1/90).
([21]) رواه الأثرم وابن ماجة عن أبي هريرة مرفوعا وقال الألباني: صحيح. انظر مختصر الإرواء (1/125) رقم: (622).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم